خلق الله عز وجل سيدنا آدم – عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام – وكرَّمه وجعله خليفةً عن حضرته، وأمر الملائكة أن تسجد تعظيماً له، وأن تعظمَّه وتأتمر بأمره وتتحرك رهن إشارته. ثم خلق له زوجةً يسكن إليها تؤانسه وتعينه على طاعة الله عزَّ وجلَّ وعبادته، ثم أمره الله عزَّ وجلَّ أن يسكن الجنة: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (35البقرة). ونهاهما عن شئٍ واحدٍ بعد أن أباح لهما كل طيبات الجنة، وهي شجرة أمره الله عزَّ وجلَّ أن يبتعد عنها ولا يأكل منها.
ولكن آدم رغم تكريم الله عزَّ وجلَّ له، وإعلاء الله عزَّ وجلَّ لشأنه، أراد الله عزَّ وجلَّ أن يجعله نموذجاً لذريته، ففعل ما يُنتظر فعله من ذريته، ليعلمهم الله عزَّ وجلَّ طريق التوبة والأوبة الذي ألهم به آدم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، فأكلا من الشجرة، فكانت النتيجة أنه أُهبط من الجنة إلى عالم الدنيا والمادة والأرض.
هذه القصة .. هي قصة كل إنسان، فالإنسان كان في عالم الأرواح في عهد (يوم ألست بربكم)، في جنة يشهد فيها وجه المنعم الكريم الفتاح: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) (172الأعراف). كانوا يعيشون في الروحانيات.
وعندما أوجد الله عزَّ وجلَّ لكل آدم منا – كل واحدٍ منا صورة لآدم – هذا الجسم من عناصر الأرض، ودخلت فيه الروح وأُهبط إلى الأرض، نزل إلى عالم الأرض، فقلَّتْ الروحانية، وتضاءلت الشفافية، وأصبح الإنسان – إلا من عصم ربي – مشغولاً بالكلية بالمظاهر الحسية المادية، واستعمل جوارحه وحواسَّه الظاهرية، ونسي أن له مثلها حواسُّ باطنية إلهية تُمتِّعه بالأنوار العلية، والأنوار الملكوتية، والأحاديث مع ملائكة ربِّ البرية، وغيرها من الأمور التي لا تطلع عليها، ولا تشعر بها، ولا تعيشها إلا النفوس الزكية. والذي أورده ذلك، وجعله يقع في المهالك، أنه يأكل شجرة النفس الأمارة بالسوء التي حذَّر الله منها وقال فيها: (إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (53يوسف).
علم الطبيب الأعظم والحكيم الأكرم صلى الله عليه وسلَّم ذلك، فأراد أن يردَّ أحبابه وأصحابه وأتباعه إلى (يوم ألست)، إلى حال الصفاء وعالم الطُهر والنقاء والبقاء، فوضع لهم منهجاً يتخلصون فيه من هذا الجفاء. وضع أسلوب الأخوة الإيمانية والمجالس الإيمانية، فأمر كل واحدٍ منهم أن يكون لهم أخوةٌ في الله يجتمعون معه، ومن عنده مصلحةٌ دنيوية – فغيره جالسٌ في حضرة خير البرية يتلقَّى منه العلوم، ويتلقَّى قلبه منه أنواره – وهي أنوار الحيِّ القيوم، يترقَّى بأحواله، ويتعلَّم من كلامه، ويمشي على منواله، وإذا اجتمعوا يسرد كل واحدٍ منهم لأحبابه ما شاهده في غيابه، ويعقدون جلساتٍ روحانية في مسجد الحضرة النبوية، وكان يدخل يجدهم مجتمعين على ذلك.
فمرةً يدخل يجدهم في مجلس ذكر ومجلس علم، فيقول: (كلاهما على خير، ولكني بالتعليم أُرسلت) ، ومرةً يجد مجلساً لتلاوة القرآن، ومرةً يرى مجلساً لتعلم التوحيد الذي ورد عن الله عز وجل في قرآنه المجيد، فكان سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يقول لمن معه: (تعالوا بنا نتعلم في الله ساعة) .
فكانت هذه المجالس دائمة، ولما انتقلوا إلى البلاد التي فتحوها نقلوا عنهم هذه الأحوال التي تؤدي إلى دوام القرب والرضا من الواحد المتعال عزَّ وجلَّ.
فكان إذا تفلَّت واحدٌ منهم عن هذه الجلسات، أو غاب عن هذه المجالس كانوا يخاطبونه برفقٍ ولينٍ أولاً، ثم يهددونه ثانياً حتى يكون معهم، ويكونون داخلين في قول الله: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) (73الزمر)، يعني جماعات فلا يدخل وحده، لأن من يدخل وحده فهو الآخر: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى) (94الأنعام)، فهذا وضع وهذا وضع.
وجاء سلفنا الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم فوصلوا هذا المنهج النوراني النبوي وجعلوه الأساس لتزكية النفوس،
وإذا زكت النفوس، وأشرقت الشموس، ولاح لها المليك القدوس عزَّ وجلَّ. تلك النفوس قويةٌ في فعلها كم تحجب الأفراد كم أردت سجين
نفوس شديدة: في الشيب جاهد كالشباب وحافظن فالنفس شيطانٌ يبيد الســـــــــالكين نفسي تميـــل إلى الحظــــوظ بطبعها والقهر والإفســــــــاد كل مناهــــــــــا والجسم آلات لها تســــــــــــــــــعى به وبريدها الحسُ الذي أرداهـــــــــــــــا
كثيرٌ من الأحبة تركوا العنان للنفس:
والنفس شهوة مطعمٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ أو منكحٍ فاحذر بها الداء الدفين
فهذه نفس، وهناك نفسٌ أخرى: والنفس داعية الرياسة فاحذرن فرعونها تنجوا من الداء الدفين
نفوسٌ موجودة في الإنسان، فمالت النفوس عن حضرة المليك القدوس، وشغلت نفسها بالمضمون ونسيت أن لها يوماً ستكون مع ربك وجهاً لوجه: (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (41الدخان).
وركنوا إلى الدنيا!!!، وبدأوا ينسجون لأنفسهم الحجج والبراهين في الابتعاد عن مجالس الأحبة!!!، مع أنها دوماً تحت نظر سيد الأحبة صلَّى الله عليه وسلَّم. فإذا نظر إلى مجلسك الذي أنت مُسجَّلٌ به ولم يراك قطع عنك مددك – صلى الله عليه وسلَّم – وسلمك لحظك وهواك، فتمشي في الدنيا تركض فيها كركض الوحوش في البرية، ولا تنال إلا ما قُدِّر لك من الدنيا الدنية، لكنك تُحرم من العطاءات الربانية، والإمدادات النبوية، لأنك سرت وراء حظك وهواك، وأعماك ذلك – بسيرك في دنياك – عن حظوظك العالية التي يريد بها مولاك أن يرقيك، وأن يعليك، وأن يجعلك دوماً من: (الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (69النساء).
فحرص ساداتنا الصالحون على هذه المجالس النورانية، التي فيها تلاوةً لكتاب الله، والصلاةً على سيدنا ومولانا رسول الله، وأدعيةٌ منتقاة من كتاب الله، وحلقات ذكر تحضرها ملائكة الله السيَّاحين، الذين يغشون المجلس ويُقال لهم في نهايته: (أُشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم، فيقولون: إن فيهم فلانٌ ليس منهم إنما جاء لحاجة، فيقول: هم القوم لا يشقى جليسهم) .
وسبحان الله أرى رجالاً لا يريدون هذه المغفرة كأنهم قد استغنوا عنها!!، ولا يريدون هذه النظرات التي تطل عليهم من لدن سيد السادات صلى الله عليه وسلَّم كأنهم في غير حاجةٍ إليها!!، ويزعم كل واحدٍ منهم أنه قد وصل إلى درجات عالية ومناصب راقية فلا يحتاج إلى هذه الأمور الدانية!!!،
مع أن ساداتنا الصالحون قالوا لنا أجمعين: [ينبغي على المريد حتى ولو وصل إلى مقام الكشف أن يتنزَّل ويجالس إخوانه المبتدئين ليأخذ بأيديهم ويعلمهم]. لا أحد يستغني، ومن يستغني قال فيهم سيدنا أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه:
أُناسٌ أعرضوا عنا بلا جُرمٍ ولا معنى فإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى
إذا كان الفقير يظن أن إخوانه هم الذين يحتاجون إليه فليعلم أنه قد وقع في خطأٍ كبير، يباعد بينه وبين البشير النذير – بُعد المشرقين.
المريد دوماً يقول له الإمام رضي الله عنه وأرضاه: [مريدنا يطلب الدواء وليس طبيباً يستشفى به، وهو جاهلٌ يريد أن يتعلم، وليس عالماً يريد أن يُعلِّم الناس بعلمه]. يدخل الواحد دائماً – مهما علا شأنه – ويريد أن يتعلم ولو من أحد إخوانه. كان الصالحون يتعلمون حتى من الحشرات!!!.
فسيدنا أبو الحجاج الأقصري حدث له تعبٌ ومللٌ وكللٌ في طريق الله عزَّ وجلَّ، وكان جالساً في ليلة مع الله وأمامه شمعة، فوجد جُعراناً – الجعران يعني خُنفسة – يريد أن يصل إلى النور، فيصعد على الشمعة، وكلما إقتربت من النور إنزلق قدمها ووقعت، فأخذ يعد لها مائة مرة حتى وصلت إلى النور، فقال: يا أبو الحجاج: (إذا كانت هذه الحشرة تجرب مع الله مائة مرة حتى تصل إلى هذا النور، فما بالك يحدث لك الكسل والفتور وأنت لم تجرب مثل هذه الحشرة؟!!!). تعلَّم من الحشرة!!. ويقول إمامنا رضي الله عنه: [من لم يستفد من كل كائن فليس بكائن].
فأنا أُنبِّه نفسي وإخواني أجمعين: إياك أن تظن في يومٍ من الأيام أن مجلس الإخوان لست محتاجاً إليه، أو أن مجلس الإخوان لو تركته لن يحدث لك شئٌ، يحدث لك عقوباتٌ قلبية قد لا تعلمها إلا إذا قيل لك: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (22ق). فتقول: (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (24الفجر).
هذه المجالس هي التي يقول فيها الله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) – أين؟!!- (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (54، 55القمر). ومقعد الصدق هو الجلوس مع الإخوان في الصدق والصفاء في طلب حضرة الحنان المنان عزَّ وجلَّ.
ومجالس الصدق هذه ينبغي أن تكون كما علمنا ساداتنا – كما نفعل عندنا في الجميزة – فبعد صلاة العشاء إذا جاء رجلٌ واحد نبدأ فوراً المجلس، فلا تستطرد في أحاديث جانبية حتى يحضر فلان أو فلان، لا .. بل نبدأ المجلس، إذا انتهى مجلس الصلاة على حضرة النبي نبدأ مجلس الذكر والقرآن.
طبعاً أنا أعرف أن إخواننا العلماء – علماء أجلاء، يمكن لا تعرفهم ولا تعرف قيمتهم الأرض ولا السماء، فكل واحد منهم يريد أن يشحن إخوانه ساعتين علم، أو ساعة من الفيوضات العظيمة التي عنده، لكن هكذا علمونا ساداتنا، كان إمامنا رضي الله عنه يقول لنا: [لِأن نتركهم راغبين خيرٌ من أن يتركونا زاهدين] .
والحكمة تحتاج إلى القليل، وقد عملت لكم في رمضان هذه السنة نموذجاً وسينزل في كتاب، دروساً كنت أُأديها في رمضان – منها في الجميزة، ومنها في القاهرة، ومنها في مغاغة – ما بين آذان العشاء وإقامة الصلاة، وكان الدرس لا يزيد عن عشرة دقائق هكذا علمونا، والدروس كانت تحتاج إلى إطالة، فقسمتها إلى حلقات: أخذت ليلة القدر في ثلاث حلقات، فما المانع أن تأخذ الدرس على حلقات؟!!، لأن الأحباب من عنده مصلحة، ومن عنده أمرٌ ضروري، لكن لماذا تريد أن تثقل عليهم؟!!، لو أن عندك البوصلة فستستريح، لكن ليس عندك البوصلة فقسِّم الدروس واسترح. فلو عندك البوصلة فعندما يقف التيار تقف عن الكلام، فالممثل يقول له المخرج توقف يقف. ولكن ليس معه البوصلة فلا يزيد الدرس عن عشر دقائق، (والمؤمن يكفيه قليل الحكمة).
شئ مركَّز بسيط يستفيد به الأخ، ونؤجل الدرس الثاني .. ونؤجل الثالث، فلماذا نطيل على الناس ونجعل الناس لا تحضر، أو لا تأتي؟!!. فهذه الأمور تحتاج إلى هذه الكيفية، نبدأ وفوراً بدرس قليل عشر دقائق، وبعدها نسمع قصيدة لنروِّح عن القلوب، ثم الفواتح، ثم ينقلب كلٌ إلى بيته حتى نقوم الفجر لنصلي لله عزَّ وجلَّ. ليس عندنا في المجالس وقتٌ للقيل والقال، ولا الكلام في السياسة.
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقياس – بنها – محافظة القليوبية درس قبل صلاة العصر 9/10/ 2015م الموافق 26 ذى الحجة 1436هـ