Sermon Details
أحسن الحديث
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
” أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الارْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لاولِي الالْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلاسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ” (21-23الزمر).
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أصنافاً متعددة، منهم الفقهاء، ومنهم الحكماء، ومنهم العلماء، وكان هناك جماعة منهم مستجدين في دخول الإسلام وهؤلاء كان فيهم شيء من البداوة والجفاء، فكان يعلمهم الله بالقرآن.
على سبيل المثال جماعة منهم ذهبوا إلى حضرة النبي ساعة الظهيرة وهي الساعة التي كان يقيل فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول:
{ اسْتَعِينُوا بِالْقَيْلُولَةِ عَلَى الْقِيَامِ }[1]
ويقول:
{ قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقِيلُ }[2]
فذهبوا لحضرة النبي، فقالوا لهم: إنه نائم، وهم كانوا قادمين من البادية، وحديثي الدخول في الإسلام، فوقفوا خارج البيت ينادون بصوت مرتفع: يا محمد يا محمد اخرج لنا، فلم يدقوا الباب ولم يستأذنوا، فأنزل الله تعالى قوله: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ” (2الحجرات) الذي يرفع صوته فوق صوت رسول الله عمله لا يُقبل.
حضرة النبي كان ينزل عليه الوحي بالقرآن، وعندما كان ينزل عليه الوحي فإن سيدنا رسول الله يكون في حالة غير عادية، فيعرق عرقاً غزيراً ولو في الشتاء البارد، ولا يدري بمن حوله لأنه يكون في حالة تواجد كلي مع من يقول للشيء كن فيكون.
وعندما يقرأ القرآن على أصحابه يقرأه ثلاث مرات، منهم من يحفظ القرآن من أول مرة، ومنهم من يحفظه من القراءة الثانية، والأخيرين يحفظونه من القراءة الثالثة، وهذه كانت مجالس النبي، يقرأ القرآن ويعلمهم أحكام الإسلام.
أحسن الحديث
فجاء جماعة من هؤلاء، قالوا: يا رسول الله نريد منك أن تحدثنا بأحسن الحديث! فأنزل الله: ” الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ” القرآن أحسن الحديث، ووصف الله القرآن: ” كِتَابًا مُتَشَابِهًا ” متشابهاً في معانيه، وفي ألفاظه، وفي عباراته، ولا يوجد تناقض بين العبارات، ولا اختلاف بين معاني الآيات، وإنما كلها إعجاز، والعرب مع فصاحتهم وبلاغتهم لما تحدوه طلب منهم أن يأتوا بعشر آيات مثل هذه الآيات فلم يستطيعوا، وحتى آية واحدة لم يستطيعوا، لأن هذا كلام الله، ولا يستطيع أحدٌ من المؤمنين أن يأتي بشبيه له أو مثيل له لأنه كلام الله تبارك وتعالى.
” مَثَانِيَ ” هذا الكتاب مثاني، ومثاني يعني نكرره، فنحن نكرر الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، ونكرر القرآن في الصلوات ونعيده، لنعيد هذه المعاني على قلوبنا، فنستجيب لله تبارك وتعالى.
وأيضاً هذا القرآن فيه الشيء وضده، ففيه الوعد وفيه الوعيد، وفيه الجنة وفيه النار، وفيه الجلال وفيه الجمال، وفيه القبض وفيه البسط، كل المعاني وضدها موجودة في كتاب الله، لأنه شمل كل ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة، وما يسعده يوم لقاء ربه تبارك وتعالى.
” تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ “ تقشعر يعني تنقبض، فالمؤمنين الأتقياء الأنقياء عندما يسمع أحدهم آيات كتاب الله يحس برجفة تسري في جسمه، ورعشة نتيجة صدى هذه الآيات التي ترددت في قلبه.
ثم بعد ذلك يجد جلده وأعضاؤه لانت للعمل بكلام الله: ” ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ” فيحدث له انبساط وسرور.
باختصار عندما يسمع الإنسان آيات الخوف يحس بالجلال والقهر فيقشعر ويخاف، كالآيات التي تتحدث عن جهنم أو آيات العذاب أو آيات البعد، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بذاته ابيض سبع عشرة شعرة من شعره، وقال:
{ شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا }[3]
وفي رواية أخرى قال:
{ شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ }[4]
لماذا سورة هود؟ بعض السادة العارفين قال: لأن الله قال فيها: ” فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ” (112هود) شاب شعر النبي عندما سمع هذه الآية، وقال بعض السادة الصالحين: هذه السورة ذكر الله فيها كلمة البعد كثيراً، كلما ذكر قوم نبي من الأنبياء يذكر البعد: ” أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ” (60هود) ” أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ ” (68هود) فعندما يسمع كلمة (بعداً) يخاف على أمته، فيقشعر جلده ويرتجف فؤاده، ويبيض الشعر.
وكذلك أخواتها، سورة الواقعة والمرسلات والنبأ والتكوير، لأن فيها آيات تتحدث عن القيامة وأهوال القيامة، فهذه جعلته يقشعر جلده ويبيض شعره صلوات ربي وتسليماته عليه.
وعندما يقرأ الإنسان آيات الجنة، وآيات النعيم، وآيات القرب من الله، وآيات الرأفة والرحمة ولين الجانب من حضرة الله، يفرح وينبسط ويُسر، وهذا يُسمى الإنبساط أو يُسمى البسط أو يُسمى الجمال.
ولذلك أحد الصالحين المعاصرين وهو الشيخ أحمد رضوان رضي الله عنه، وكان الدكتور عبد الحليم محمود وقتها لا يزال عميد كلية أصول الدين، وكان رجلاً يحب الصالحين وكان يبحث عنهم أحياءاً ومنتقلين، فذهب إلى الشيخ أحمد رضوان، وكان وزير الأوقاف في وقتها الشيخ الباقوري رحمة الله عليه، والشيخ الباقوري كان في بدايته مع الإخوان المسلمين ولذلك كان يميل إلى التشدد.
فظل الشيخ عبد الحليم محمود يكلمة إلى أن أقنعه أن يذهبا معاً إلى الأقصر ويزورا الشيخ أحمد رضوان هناك.
دخلوا على الشيخ أحمد رضوان، فقال له: هذا وزير الأوقاف، فقال له الشيخ أحمد: أنت الذي تمتحن الناس؟ فسكت، فقال له: أنا سأمتحنك كما تمتحن الناس، يقول الله: ” أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ” (28الرعد) ويقول في الآية الثانية: ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ” (2الأنفال) لماذا هنا تطمئن؟ ولماذا هنا توجل؟ فسكت الرجل ولم يتكلم، فقال له: الأولون واجههم بالجمال فاطمأنت قلوبهم، والآخرون واجههم بالجلال فوجلت وخافت قلوبهم.
كلام الله ليس فيه تناقض أبداً، ولكن هذه حالة وهذه حالة، إذا سمع الإنسان آيات الجمال في كتاب الله والتي تتكلم عن الجنة والقرب من الله والمغفرة والتوبة وهذه الأمور العظيمة يُسر ويفرح.
وكان سيدنا بلال رضي الله عنه وأرضاه لا يقرأ آيات الوجل في الصلاة، وكان يقرأ دائماً آيات الجمال وينتقل بينهم، فسيدنا رسول الله قال له:
{ مَرَرْتُ بِكَ يَا بِلالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ وَمَنْ هَذِهِ السُّورَةِ، قَالَ: إِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْلِطُ الطِّيبَ بِالطِّيبِ، فَقَالَ: اقْرَإِ السُّورَةَ عَلَى نَحْوِهَا }[5]
يعني هو يحب أن يسمع الطيب ويعيش في الطيب على الدوام، ولا يحب الحديث عن جهنم ولا أهوالها، وكل المتقين على هذه الوتيرة وعلى هذا الجمال وعلى هذا الكمال.
إذاً القرآن فيه كل هذه المعاني الإلهية، والإنسان المؤمن عندما يسمع الآيات التي فيها شيء من الجلال يُصاب بالوجل، وهذه الآيات وجهها الله في القرآن للكافرين والمشركين والعصاة والمذنبين، وهذا ليس لنا نحن.
وعندما يسمع آيات الجمال التي تخصُّه كالجنة ووصفها والحبيب وأخباره، فيفرح ويستبشر وينبسط فيذكر الله تبارك وتعالى ذكراً تعبيراً عن فرحه بما قدره الله تبارك وتعالى في كتابه: ” ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ” قال صلى الله عليه وسلم:
{ إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ الْبَالِيَةِ وَرَقُهَا }[6]
هدى الله
” ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ “ كل هذا ليس منا ولا بإرادتنا، ولا نحصل عليه بأموالنا ولا بمناصبنا ولا بكل ما نستطيع، ولكن بالتذلل بين يدي الله، والإفتقار والمسكنة لله، والتضرع والدعاء لله، والإكثار من الركوع والسجود بين يدي الله، والتواضع لجميع خلق الله، ومن لم يُقدِّر الله له ذلك فلأنه ليس أهلاً لذلك، سيدنا موسى عليه السلام كفانا هذه المسألة فيقول:
{ يَا رَبِّ، خَلَقْتَ خَلْقًا فَجَعَلْتَهُمْ فِي النَّارِ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَنْ يَا مُوسَى، ازْرَعْ زَرْعًا، فَزَرَعَهُ، وَسَقَاهُ، وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى حَصَدَهُ، وَدَاسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ زَرْعُكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ: رَفَعْتُهُ، قَالَ: فَمَا تَرَكْتَ مِنْهُ؟ قَالَ: مَا لا خَيْرَ فِيهِ، قَالَ: فَإِنِّي لا أُدْخِلُ النَّارَ إِلا مَنْ لا خَيْرَ فِيهِ }[7]
هذه حكمة الله سبحانه وتعالى.
” وَمَنْ يُضْلِلِ الله “ الله لن يُضل أحد، ولكن لن يعينه ولن يقويه ولن يساعده، وسيخزله إذا أراد أن يفعل طاعة، وسيتركه إذا توجه نحو الهداية والرعاية والعناية، ولكن نحن كما كان الصحابة يقولون:
اللهم لولا الله ما اهتدينا |
ولا تصدقنا ولا صلينا |
فأنزلن سكينة علينا |
وثبِّت الأقدام إذ لاقينا |