الحمد لله الذى أقامنا فى مقام محابه ومراضيه، وجعلنا صوراً متلألة بأنوار القرآن، ومزينة بزينة أخلاق النبى العدنان. والصلاة والسلام على إمام أهل الإيقان، وكنز أهل العيان، سيدنا محمد وآله وصحبه وكل من قام بدعوته إلى يوم الدين، آمين .. يارب العالمين. (أما بعد)
فيا إخوانى ويا أحبابى بارك الله عز وجل فيكم أجمعين
كل رجل منا هو بذاته بانتساب إلى الصالحين – وإن لم يتكلم – فهو دعوة، لأن الناس تنظر إلى المنتسبين للصالحين بعين غير التى ينظرون بها للآخرين، يزِنُون حركاته، ويزِنُون نظراته، ويزِنُون حتى سكناتهم، ويرون الفلتة منه عظيماً، والخطأ منه جسيماً، ولا يتسامحون فى ذلك.
وهذا يا إخوانى من فضل الله علينا، فإن الله عز وجل يسوقنا بنظرات الخلق إلى شدة الحذر ودوام الاحتراز، وأن نكون دائماً وأبداً على المنهاج سائرون، حتى لا نسئ إلى الطريق، فقد كان سلفنا الصالح رضى الله عنهم يقسمون بأهل الطريق، وكانوا يقولون وحياة أهل الطريق تعمل كذا، لأن أهل الطريق كانوا معظمين عندهم، وحياة أهل الطريق تفعل لى كذا، أو تعمل لى كذا أو كذا.
فأى منتسب للطريق هو دعوة أو كبوة للطريق، هو دعوة إذا كان على المنهاج. وأقل ما يجب ملاحظته أنه لا ينبغى لمن انتسب إلى طريق الصالحين أن يتسم ولو مرة بوسم حذر منه النبى صلى الله عليه وسلم أو القرآن المبين، وجعله من صفات المنافقين. وهذه جزئية يفوتنا جهادها لأنه ليست على البال. مع أنها أساس تربية الرجال.
الرجل أول ما يبدأ به – فى أطوار الجهاد – أن يخلِّص نفسه – ظاهراً وباطناً – من أوصاف النفاق. والحمد لله النفاق القلبى طهَّرنا الله منه بالكلية، وليس فينا واحد فيه هذه الصفات، لكن هناك أوصاف فى كتاب الله، وسمات بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينبغى لأهل طريق الله أن يكون فيهم ولو واحدة منها منها، منها قول رب العزة: }وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى{(142-النساء).
فابن الطريق دائماً يروح إلى الصلاة، أو صلة الإخوان، أو مجالس الوصل وكله اشتياق، وكله غرام، وكله اصطلام للمصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، والشوق هو الذى يقوده، والحبيب صلى الله عليه وسلم كان يقول: (والشوق قائدى).
لكن إذا كان كان سيروح ليرضى فلاناً، يلزم مكانه أفضل، وإذا كان سيروح من أجل فلان لا يزعل منه، إذن لا ينفع. نريد من يتحرك، لا يتحرك إلا لله، ولا يبغى إلا رضاه. لأن الإخوان عندما تتحرك بهذه الكيفية هممهم ونياتهم تربطهم بالذات العلية، تسطع عليهم الأنوار، وتتنزل لهم الأسرار، وتلوح لهم حقيقة النبى المختار، لأنهم ذاهبين بالشوق والاصطلام، إلى حبيب ذى رفعة ومقام.
كان الناس – وهذه صفة من صفات المنافقين: }يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً{(142-النساء)، هذه صفات المنافقين – أما سمات الصالحين ما هى؟ كنا نسمع هذا الكلام من الناس العاديين، فلان هذا رجل صالح، لماذا؟ لأنه طول النهار لا يكف عن الذكر، وهو ماشى، وهو رائح، وهو قاعد – وما سمات الصالحين؟ حتى فى البيع والشراء: }لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ{(37-النور) – حتى الواحد منهم يستخسر الكلام، لئلا يشغل نفسه عن ذكر الله.
لذلك سمات أهل الطريق قلة الكلام، لا تجد واحد من أهل الطريق ثرثاراً، كثير الكلام،ً إذن لن يشم أحوال أهل الطريق. لكن أهل الطريق زينتهم الصمت، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: (الصَّمْتُ حُكْمٌ وقَلِيلٌ فَاعِلُه).
سيدنا أبو بكر رضى الله عنه كان يقول: (كنا نتعلم الصمت، كما تتعلمون الكلام)، لماذا؟ مشغولون بذكر الله. سيدنا عمر فى يوم كان قد صنعوا له ثرديراً – فتة – فقال لهم بعدها: اصنعوا لى الفتيت دائماً، قالوا له: ولم؟ قال: بين تناول الفتيت، وتناول الخبز الجاف، أسبح خمسين تسبحة، وأنا أولى بها. فالفتة تجعله يأكل بسرعة، وينشغل بالتسبيح، مع أن سيدنا عمر كان قلبه وكل جسمه وحقائقه تسبِّح، ولكنه يعلِّم من حوله.
وأهل الطريق دائماً صفاتهم: :}وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ{(35-الأحزاب). الذاكرين ليسوا فى مجالس الذكر العادية – هذه بسيطة – لكن أهل الطريق فى ذكر باستمرار. الشيخ كمال الدين الأخميمى عندما ذهب ليزور سيدى عبد الرحيم القنانى رضى الله عنه – وكان من أهل الكشف – شاهده ورآه، وحدَّثه وناجاه، وفى نهاية الجلسة قال: يا سيدى أوصنى، فقال سيدى عبد الرحيم رضى الله عنه: (يابنى أنا كما ترى فى روضات عالين، ومع ذلك أقول: }يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ{(35-الزمر). يابنى: لا تغفل عن ذكر الله طرفة عين).
سمة الصالحين، وأتباع الصالحين، والمنتسبين للصالحين، (الذكر) دوام الذكر، إما فى ذكر، وإما فى حضور أو استحضار، لا وقت عنده للهو ولا للعب. ولذلك أعجب شدة العجب عندما أسمع أن أخى فلان الفلانى، كل يوم يتابع مسلسل فى التليفزيون!! ما هذا المسلسل؟! أنت تريد مسلسل الصالحين، أم مسلسل الشياطين؟ – لم يكن لديه وقت لذلك – أو يتابع الكرة، أو يتابع كذا وكذا، العمر فيه كم نفس حتى أضيِّع أنفاساً هنا وهنا، وأنفاسنا يقول لنا فيها إمامنا رضى الله عنه
أنفاس أهل الصف شكرٌ وإيمان وحالهم كشف سرِّ الكون إحسان
فيتَّبع هذه الأوصاف فى كتاب الله، ويطهِّر نفسه منها حتى لا يكون من المؤمنين الصادقين، وبعدها يكون من المحسنين، وبعدها يكون من الموقنين، وبعدها يكون من الكمَّل، وكذلك السنة. سمع الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه فهو منافق ظاهر النفاق، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم – أولها- إذا حدث كذب ). لا يوجد رجل من أهل الطريق يكذب – ولو فى لهو أو مزاح – (إنى لأمزح ولا أقول إلا حقاً).
والناس تعرف عنهم أنهم أناس صادقون. عندما يكذب رجل منهم – ولو مرة – يهز صورة الطريق كله، هذا الرجل من أتباع المشايخ ويسير مع الصالحين، كيف يكذب – حتى ولو كان فى مزاح؟ إياك أن تتسامح فى هذا الأمر، لأن النفس تريد وقفة. ولا يخلف وعداً – ولو كان مع طفل، هات المصلحة ذه وسأعطيك ربع جنيهاً، لابد أن تعطيه الربع جنيه، وإلا لا أقول. مثلها: إذا نجحت هذه السنة سوف أحضر لك كذا، لابد أن يوفى بوعده وإلا لا يقول. لأن أهل الطريق هكذا: (إذا وعد وفَّى) لا يخلف، لا يخلف أبداً مهما كان الأمر.
(وإذا ائتمن – وهذه المصيبة التى نحن فيها – خان). نحن صحيح فى المال والخيرات أمناء، لكن المصيبة فى الكلام، إذا ائتمن على كلمة، أو ائتمن على سرٍّ، هذه المصائب والمشاكل من أين تأتى؟ واحد ائتمن أخاه على سرٍّ حتى يفرَّج عن نفسه، فيجرى يذيعه ويشيعه، لماذا؟ علماً بأننا من قالوا فينا: (صدور الأحرار قبور الأسرار).
من كانت لديه كلمة تعبان منها فيذهب لواحد من الصالحين أو أتباع الصالحين، دخلت القبر، حتى زوجته لا تعلمها – طبعاً أقول هذا لأن النساء لم يكن لهن شأن بهذه الموضوعات، ولكن فى هذا الزمن تدخلت الأمور، قليلاً تجد أخاً حصل بينه وبين أخيه شئ، تجد زوجته على علم بكل شئ! وماشأنها بهذا الكلام؟! فإذا كان بينك وبين أخيك سحابة صيف، فلماذا تقحم زوجتك فى هذا الأمر؟ أو أولادك أو إخوتك، أو أبناءك أو غيرهم؟ المصران فى البطن تختلف مع بعضها ولكن لا أحد يسمع ما جرى فيها!! وأنت وأنا من منا يدوم الصفاء بينه وبين زوجته؟ لكن تمر الأمور بدون جفاء، لابد أن تحدث مواقف، لكن كلنا نعبرها.
وأغلى أمانة هى الكلمة يقول فيها النبى صلى الله عليه وسلم: (المجالس بالأمانات) المرء إذا سمعها انتهى، وأعظم الأمانات أن تسمع كلمة نورانية وروحانية، لا تصدر إلا لنفس زكية، وتذيعها لأهل الشهوات والأهواء، وأنت تحدث هنا فتنة، (من أظهر ما لا يطاق، أوقع غيره فى النفاق)، حتى ولو واحد من إخوانك الممنوحين قالها، هو يغلَّفها ويكيِّفها، بحيث لا أحد يستطيع أن يذيعها، ولا يستطيع أن يمسك عليه شيئاً، لكن أنت لا تعرف أن تقولها، إذن ما لك ولهذا الكلام؟ هى النفس، أن المرء إذا جلس فى مجلس يبين للجالسين أن معه علوماً وأسراراً ليست عند أحد، ولا أحد يعرفها، فلابد أن يقول ما عنده، فتقوم الفتنة. والفتنة لمن؟ لأهل الطريق وهو لايدرى.
لأن الجماعة المنكرين يمسكون بالكلمة، وساعات يصعدون على المنابر يهاجمونا بها، وأظن أنكم رأيتم مثل هذا الكلام كثيراً، وحدث كثيراً، وعدوكم يتمنى لكم الخطأ. إذن أنا ليس لى شأن بهذا الأمر، لسانى أكفه عن مثل هذا الكلام، والذى نريد أن يسمع فنقول له: تعالى إلى شخص ممنوح تسمع منه، وليس لى أى شأن بهذا، وأخرج نفسى من هذه الدائرة.
إذن الأمانات هى نفس الشئ والأوصاف الباقية، حتى كان أصحاب الصالحين ينزهون أنفسهم عن الأوصاف الدقيقة التى وسم بها النبى صلى الله عليه وسلم المنافقين. على سبيل لمثال كان صلوات ربى وسلامه عليه يقول: (بيننا وبين المنافقين شهود الفجر والعتمة – يعنى الفجر والعشاء – لا يستطيعونها). فكان الواحد منهم يقول: لابد أن أصلى الفجر فى المسجد، حتى لا أكون من أهل هذا الحديث، والعشاء كذلك، إلا إذا كان لى عذر – ليس نفسى، وإنما عذر شرعى – مأذون فيه من شرع الله عز وجل، حتى كانوا إذا ذهبوا الى بيت الله الحرام يشربوا ويتكرعوا من ماء زمزم، لماذا؟ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال (بيننا وبين المنافقين التضلع من ماء زمزم). فالواحد يمسك نفسه ويجاهد فى هذا المجال، حتى يكون من الجماعة الذى قال فيهم رب العزة:}أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{(8-الحشر).
هذه أحوال ظاهرة للخلق، وهى فى نفس الوقت التى تبين منهج أهل الحق، فلابد أن نكون رجالاً يظهرون خلال الرجال، وصفات الواحد المتعال عز وجل. عبادتك بينك وبين ربك ليس لنا بها شأن، لكن الذى نريده –كلنا – أن بينك وبين الخلق تكون صورة لسيد الخلق فى معاملاتك، وفى طباعك، وفى كلماتك، وفى إشاراتك، وفى توجيهاتك، وفى إرشادتك، وفى نكاتك: (إنى لا أمزح ولا أقول إلا الحق).
هذا الجهاد الأعظم الذى أرجو الله عز وجل أن يعيننا عليه، وأن يجعلنا نفوز بما لديه، ويكرمنا دائماً وأبداً بمقام المثول بين يديه، وأن يفتح لنا كنوز العطاء، ويحققنا جميعا بالصدق مع سيد الأنبياء، حتى يكون ظاهراً بأنواره فى قلوبنا، أين كنا وحيث كنا وكيفما كنا، ويأخذ بأيدينا إلى المنهج القويم والطريق المستقيم.