Sermon Details

2 ديسمبر 2010م
أسرار التقويم الهجري
إن الإنسان المسلم يعلم علم اليقين أن له سجل يومى يبدأ من اليقظة إلى المنام، وله سجل سنوي يعلم علم اليقين أنه يبدأ مع بداية العام الهجري، فلابد للمؤمن من وقفة مع السجل الماضي حتى يُعرج إلى الله عزَّ وجلَّ خالياً من الهفوات والمخالفات والزلات والمعاصي والذنوب
أهمية الأحتفال بالعام الهجرى وأسرار التقويم الهجري
———————————————
نحن ندعو كل المسلمين إلى الاحتفاء بأول العام الهجري، لأن العام الهجري أو العام القمري – أيهما شئت – هو العام الذي اختاره ربُّ العالمين وربط به شرعه في كل وقت وحين، كما قال تعالى في محكم التنزيل: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ) [36التوبة].
هذا الكلام في العام الهجري، فكل توقيتاتك وكل حساباتك في تشريعاتك مرتبطة بهذا العام، الصيام مرتبط بشهر من أشهر التقويم الهجري وهو شهر رمضان: {صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ} ( البخاري ومسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه).
والزكاة إذا كانت زكاة الأموال أو الذهب أو زكاة عروض التجارة التي تجب مرة كل عام هجري، فيجب حسابها عليه لا على العام الميلادي، لأني لو حسبتها على العام الميلادي سأنكسر عند الله عزَّ وجلَّ وأُصبح مديوناً، لأن العام الهجري ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوماً والعام الميلادي ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع، فإذا حسبت زكاتي على العام الميلادي فكل عدة سنين سينكسر علىَّ زكاة سنة لله لم أؤدها!!
ومن حرص الله على العام الهجري انظروا معي: أهل الكهف كانوا من أتباع سيدنا عيسى – أي التقويم الميلادي – تَحَدَّث الله عنهم فماذا قال؟ ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ )، ثم ذكر الهجري: ( وَازْدَادُوا تِسْعًا ) [25الكهف]، حتى نعتز بتقويمنا الهجري، نحن نذكر الميلادي فقط!! لابد من الاثنين معاً، وبالحسابات الدقيقة فإن ثلاثمائة سنة شمسية هي ثلاثمائة وتسعة هجرية، وهذا إعجاز لربِّ البريَّة الآيات القرآنية. عاش رسول الله صلي الله عليه وسلم ثلاث وستين سنة هجرية أي حوالي ستون سنة ميلادية.
– ربط التشريع بالتقويم الهجري
فكل الحسابات في شرعنا بالتقويم الهجري لأنه التقويم الإلهي الذي ارتبطت به كل الكائنات، فالكائنات غير مرتبطة بالشمس بل بالقمر، والحج: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ) [197البقرة]، وهى شوال وذو القعدة وذو الحجة، ويوم عرفة يوم التاسع من ذي الحجة ولا يجوز أن يتغير، لأن هذا تقويم الله عزَّ وجلَّ.
جعل الله عزَّ وجلَّ كل هذه التوقيتات بالهجري حتى يمر علينا رمضان كل ثلاث وثلاثون سنة في كل الأزمان، في الحر والبرد والخريف، والحج يأتي في كل الأزمان لأن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان، فيكون الجو المناسب لأهل أي زمان ومكان يذهبون فيه لحج بيت الله الحرام.
لكن لو كان في الأيام الميلادية فإنه سيكون ميعاد ثابت جامد، سيكون رحيماً بقوم وقاسى على آخرين، لكن شرع الله رحمة تامة للخلق أجمعين.
جعل الله عزَّ وجلَّ حتى تشريعات النساء بالتقويم الهجري، فدورة النساء تمشى مع دورة القمر، إما ثماني وعشرون يوماً أو تسع وعشرون أو ثلاثون، ولا تزيد على ذلك، ولذلك من ضمن الأسرار التي نذكرها لمن يريدون الإنجاب أو تأخر عنهم الإنجاب، فنقول لهم: احسب أول يوم تجئ فيه الدورة للسيدات، ثم احسب حتى ليلة أربع عشرة – حيث تكون البويضة في أكمل حالاتها، وأتم هالتها كالقمر، وتكون جاهزة للتلقيح – وللاحتياط يتم الحساب ليالي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر حيث تكون البويضة جاهزة للتخصيب في هذه الأيام.
حتى من يريد ألا يستخدم وسائل لمنع للحمل نقول له: تجنب هذه الأيام فلا يحدث حمل!! أسرار ربانية في التشريعات الإلهية. ثم يأتي بعد ذلك عدة النساء، وحمل النساء، وولادة النساء كله على التقويم الهجري: ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) [15الأحقاف]. الحمل تسعة أشهر هجرية: ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) [233البقرة] بالتقويم الهجري، وعدة النساء إذا كانت عدة طلاق: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [228البقرة]. قروء وليست أشهر، بعض الأئمة أخذوها على أنها ثلاث حيضات، وبعض الأئمة أخذوها على أنها ثلاثة طُهر، المهم أن تأتيها الدورة ثلاث مرات.
وإذا كانت عِدَّة وفاة: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) [234البقرة]، بالهجري وليس بالميلادي. فكل حسابات الله عزَّ وجلَّ حسابات قمرية لأن فيه أسرار إلهية لا يستطيع البشر اكتشافها إلا ما أباح المولى عزَّ وجلَّ لهم بشأنها.
– من أسرار القمر
من ضمن الأسرار التي أباح لنا بها المولى: ما سر احتفاظ البحار بمياهها لا تأسن ولا تتعفن ولا تتغير؟
الموج! وما سبب الموج؟ المدُّ والجزرُ الذي يصنعه القمر، فتتولد الأمواج التي تخلط مياه البحار مع الأملاح التي وضعها فيها الواحد القهار، وكذا الرياح لها تأثير وإن كان أقل بكثير، لأن المدّ والجزر يشدُّ كل الماء المقابل للقمر فتتحرك المياه في البحار والمحيطات كلُّها معاً، فتستمر الحركة على مدار الأربع والعشرين ساعة على مدار حركة القمر حول الأرض !!! فتُحفظ هذه المياه إلى ما شاء الله، لا تتعطن، ولا تأسن، ولا تتعفن، رغم ما يُلقى فيها مما لا حصر له من الأشياء القابلة للعفونة وغير ذلك!! كما قال فيه صلوات ربى وتسليماته عليه: {هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ} (موطأ الإمام مالك والنسائي).
ربما بعض علماء النبات ما زالوا يجرون بعض التجارب في هذا الأمر، لكن الفلاحين اكتشفوها بالسليقة والفطرة، اكتشفوا أن الثمار تنمو وتزيد في الليالي القمرية، وتجمد وتثبت في الليالي المظلمة، ما علاقة القمر بإطالة هذا الثمر؟!!
سر لا يعرفه إلاَّ من اصطفاه الله عزَّ وجلَّ، حتى أن بعض علماء الطب حالياً قالوا أن ما يفعله القمر من مد وجزر في البحار يعمله في ضغط الإنسان، فالضغط فيه مد وجزر بسبب الدورة الدموية، من الذي يحركها؟ القمر.
فالسنين الهجرية فيها أسرار ربَّانية، لابد أن نبيِّنها ونكشفها للمسلمين، الذين أداروا ظهرهم لهذه الأشهر، وهمُّهم كلُّه في الأشهر الميلادية!! الأشهر الهجرية عليها مدار حياتنا التشريعية. العمر للإنسان لا يحسبه الرحمن بالأيام ولا بالليالي، ولا بالشهور ولا بالسنين: ( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ . قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) [112، 113المؤمنون].
لأن هناك أيام لله غير أيامنا، فأيامنا حسب شروق الشمس، من السبت إلى الجمعة، لكن أيام الله: ( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) [47الحج]
ويوم الجمعة بخمسين ألف سنة، ويوم الجمعة هو يوم القيامة لأنه ستقوم فيه القيامة كما أخبر النبيُّ صلي الله عليه وسلم: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) [4المعارج]، ومقداره: أي كما تحسبون أنتم، أما حسبته الصادقة الحقيقية لا يعلمها إلا الله عزَّ وجلَّ، فالله عزَّ وجلَّ لا يحسب أيامنا وأعمارنا بذلك، وإنما يحسبها بالأنفاس التي تتردد في داخل الإنسان، نفَس داخل ونفَس خارج، والنفَس الأخير من الجائز أن يدخل ولا يخرج، أو يخرج ولا يرجع.
– كم عدد أنفاس الإنسان؟
أهل علوم المكاشفة قالوا إن الإنسان يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفَس، ومن حكمة الله عزَّ وجلَّ أنه جعل حروف (لا إله إلا الله) اثنى عشر وحروف (محمد رسول الله) اثني عشر، فمن قال (لا إله إلا الله محمد رسول الله) غفر الله عزَّ وجلَّ له ذنوب الأربع والعشرين ساعة، ولذلك قال فيها صلي الله عليه وسلم: { إذا قال العبد لا إله إلا الله ذهبت إلى صحيفته فمحت كل سيئة تقابلها حتى تجد حسنة تقف بجوارها } (أخرجه أبو يعلى من حديث أنس).
– أحوال المسلم
ومع ذلك فإن الإنسان المسلم يعلم علم اليقين أن له سجل يومى يبدأ من اليقظة إلى المنام، وله سجل سنوي يعلم علم اليقين أنه يبدأ مع بداية العام الهجري، فلابد للمؤمن من وقفة مع السجل الماضي حتى يُعرج إلى الله عزَّ وجلَّ خالياً من الهفوات والمخالفات والزلات والمعاصي والذنوب.
ولذلك كان سلفنا الصالح يجعلون آخر أيام العام في التوبة والاستغفار، والندم وفعل الأعمال الصالحة التي تستوجب مغفرة الغفار عزَّ وجلَّ، ويجعلون بداية العام استفتاح السجل الجديد لما يُستقبل من الأيام، فيفتتحونه بالإكثار من البسملة، ويفتتحونه بالصيام ليكون أول أيام العام صيام، وبخاصة أن الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام دعا إلى ذلك فقال صلي الله عليه وسلم: { أفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمضَانَ شِهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ } (سنن الترمذي عن أبى هريرة رضي الله عنهما، ونص الحديث: «أفضلُ الصيامِ بعدَ شهر رمضانَ شهرُ الله المحرَّمُ، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليلِ»).
ويبدأونه بتلاوة خير الكلام، فيقرأون ما تيسر من كتاب الله، حتى تكون بداية الصحيفة طيبة، ولو كانت البداية طيبة والخاتمة طيبة فإن الله يتغاضى عما بينهما.
قال الله تعالى في حديثه القدسي: { ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ سَاعَةً أَكْفِكَ مَا بَيْنَهُمَا} (أبو نعيم في الحلية عن أَبي هُرَيْرَةَ رضيَ اللَّهُ عنه). وَلِمَا وَرَدَ في الحديث الشريف: { مَنْ كَانَ أَوَّلَ صَحِيفَتِهِ حَسَنَاتٌ وَفِي آخِرِهَا حَسَنَاتٌ مَحَا اللَّهُ مَا بَيْنَهُمَا} (الفواكه الدواني شرح رسالة القيرواني، وشرح مختصر خليل للخرشي).
إذن يجب علينا ألا يمرَّ بداية العام كما تمرُّ بقية الأيام!! مع أن أهل الكفر اللئام يجعلون لباطلهم شكل وهيئة كما ترون الآن، وأجبرونا على أن نأخذ أجازة ونحتفل معهم، وكثير من المسلمين يشاركونهم في احتفالاتهم!!!
إذاً يجب علينا أجمعين أن نُحيي هذه الذكرى، ويا بشرانا إذا فعلنا ذلك، لأننا سندخل في قول الحبيب صلي الله عليه وسلم: {مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحْيانِي وَمَنْ أَحْيانِي كَانَ مَعِي في الْجَنَّةِ} (سنن الترمذي عن أنس بن مالك). وقال صلي الله عليه وسلم: {المُسْتَمْسِكُ بسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي، لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ } (الطبراني في الأوسط عن أَبي هُرَيْرَةَ رضَي اللَّهُ عنهُ).
فيجب أن نُعَرِّف أهلنا وجيراننا ومن يصلُّون معنا في المسجد بفضل العام الهجري، نُعرفهم بأن له شأنه، وله قيمته، وله الموالاة التي ينبغي أن تكون منا نحو أنفسنا ونحو حضرة الله جل في علاه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
حدائق المعادي – القاهرة يوم الخميس 26 ذي الحجة 1431هـ الموافق 2 / 12 / 2010م