• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:59 PM

Sermon Details

14 أبريل 2022

أقفال القلوب

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

أقفال القلوب

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، والصلاة والسلام على معدن العرفان، وسر أسرار القرآن، سيدنا محمد النبي العدنان وآله وصحبه وكل من تبعهم على هذا الهدى والعيان، واجعلنا منهم ومعهم بفضلك وكرمك يا حنان يا منان.

إن الله تبارك وتعالى نعى على من لا يتدبرون القرآن فقال تبارك وتعالى: ” أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ” (24محمد) فالذي يمنع من التدبر والتمعن في آيات القرآن هي الأقفال التي على القلوب.

ما هذه الأقفال التي على القلوب؟ قرَّب النبي صلى الله عليه وسلَّم الأمر لمن يحبه الله، ويريد أن يجعله من أهل قربه ورضاه، ويمتعه بما في القرآن من أسرار وانوار لحضرة الله، فقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِذَا أَرَادَ الله بَعَبدٍ خَيرًا فَتَحَ لَهُ قُفلَ قَلبِه }[1]

الذي يحبه الله يفتح له قُفل القلب، نظر الناس في هذه المعاني بالعقل الذي حيَّزه الله عز وجل في دائرة المباني مع أنها معاني قرآنية، واختلفوا في الأقفال وما طريقة فتحها؟

مع أن الأمر واضح وضوع العيان لأهل العرفان، فقد قالوا: إن الإنسان له ظاهرٌ وباطن، الظاهر هو ما في عالم الملك وهو هذا الجسم، والباطن هو حقيقة الإنسان المعنوية النورانية التي بها الإنسان إنسان.

لكل من الظاهر والباطن حواس، فالجسم له حواسٌ ظاهرة، عينٌ يرى بها الإنسان المناظر، وأذنٌ يسمع بها الإنسان الكلام، ولسانٌ يتكلم به مع الأنام، ويدٌ يعطي بها، ورجلٌ يمشي عليها، وبطنٌ هي محلٌ لوضع الطعام الذي يغذي كل ما في الجسم من كائنات خلقها الملك العلام، وفرجٌ يحفظ التناسل ليظل الإنسان ممتداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فإذا فتح الإنسان عينه على ما حرَّم الله، ونظر إلى الصور المهينة التي نهى الله عز وجل عن النظر إليها، ونظر إلى الخبائث، ونظر إلى الأشياء التي ينأى الإنسان السوي عن النظر إليها، نقلت العين هذه الصور إلى القلب، فيُحجب القلب عن النظر بعين يقينية في آيات كتاب الله تبارك وتعالى.

وكذلك الإنسان لو أصغى بأُذنيه إلى ما حرَّم الرحمن من حديث عن الغيبة أو النميمة أو السب أو الشتم أو اللعن، أو أي حديث فيه زورٌ أو فجور، فإن الأذن تكون أذنٌ لاغية لأنها تسمع اللغو، أو أذنٌ ساهية لأنها لا تتنعَّم ولا تتلذَّذ بحلاوة ذكر الله وتلاوة كتاب الله، ولا تكون أبداً أذنٌ واعية، وهي الأذن التي مدحها الله وقال فيها: ” وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ” (12الحاقة).

واللسان الذي ينظق بما يبغضه حضرة الرحمن، بالله عليكم كيف يقرأ الإنسان به كلام الرحمن ولم يطهره من اللغو ومن الرفث ومن المعاصي وكل ما نهى عنه الله عز وجل؟! مع قوله تبارك وتعالى: ” مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ” (18ق).

فهذا اللسان يقرأ القرآن بظاهره، ولكن يفقد التمعن فيه بباطنه، لأنه لايتلو إلا ما يراه، ولا ينظر بالعين التي تفضَّل بها عليه الله وهي من نور الله.

وكذلك اليد وكذلك الرجل وكذلك الفرج وكذلك البطن، هذه هي الأقفال إذا استُعملت فيما يغضب الله، وفيما نهى عنه الله، وما منع من العمل به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

الحواس الملكوتية

فإذا استمع الإنسان إلى إرشادات الله في استعمال هذه الأدوات، وقال مخاطباً نفسه: ” قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ” (30المؤمنون) وغضَّ بصره عن النظر إلى الحرام وإلى جميع الآثام، فوراً حواسه الملكوتية التي في صورته النورانية المعنوية تنتبه، فيرى ما لا يراه الإنسان في الأكوان بعين هي عين القلب.

ولذلك يقول الله تبارك وتعالى ناعياً على أصحاب الأقفال إن كانوا من المنافقين أو الكافرين وليسوا من المؤمنين: ” لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا ” (179الأعراف).

هل هم لا ينظرون بهذه العيون؟ كلا، ولكن لا ينظرون بعيون البصيرة النورانية، وبعيون الكشف الإلهية.

هل هم لا يسمعون بهذه الأذن؟ يسمعون كلام الإنس الذين حولهم بكل اللغات وبكل الألسن، ولكن لا يسمعون بآذان القلوب وهي الآذان الواعية، فلا يسمعون تسبيح الكائنات: ” وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ” (44الإسراء).

ولا يسمعون كلام الملائكة، والملائكة تتنزل دائماً للمؤمنين كما قال رب العالمين: ” إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الاخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ” (30-32فصلت) استقاموا على المنهج الذي وضعه الله تبارك وتعالى لهذه الجوارح لكي تحصل على المنى.

حوار طويل تحت هذه الآية القرآنية لم يبينه الله، وإنما تبينه الملائكة خصوصية لكل من يحادثونه في هذه الآنات وفي هذه الأوقات المباركات، ولذلك يقول بعض الصالحين:

قلوب العارفين لها عيونٌ

ترى ما لايراه الناظرون

وأجنحةٍ تطير بغير ريشٍ

إلى ملكوت رب العالمين

ويشير الله عز وجل في القرآن إلى ما تراه وتنظر إليه هذه العيون، فيقول تعالى: ” وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ” (75الأنعام) هو ليس بمفرده، ولكن كل من وصل إلى مقام الإيقان يرى عين العيان بالروح والقلب والجنان الغيوب التي أخفاها الله عن عيون الحسِّ المنشغلة بالأكوان.

وهذا ما يراه أهل الصفاء والنقاء في بداية سيرهم وسلوكهم إذا صدقوا مع ربهم، فإنهم إذا التزموا بهذا المنهاج وغضوا العين عن النظر إلى ما حرَّم الله، وأغلقوا الأذن أمام أي حديث يغضب الله، ولم يجلسوا وقاموا وكانوا كما قال الله عز وجل: ” فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ” (68الأنعام) ولم يحركوا اللسان إلا بقول الله: ” وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ” (24الحج) ولم يحركوا اليد أو الرجل أو أي جارحة من الجوارح إلا كما وضَّح القرآن وكما كان عليه النبي العدنان، إذا صار الإنسان على هذا المنوال فترة من الزمان حددها الصالحون بأربعين يوماً كما قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا إلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ}[2]

أربعين يوماً يرون في بدايتهم مشاهد ملكوتية عند المنام، فعندما ينام الجسم بأدواته تستيقظ الحقيقة الباطنية بأدواتها النورانية، فيرى ما تراه العيون من عجائب عالم الملكوت، ومن غرائب الحي الذي لا يموت، وتكون هذه الرؤيا هي الرؤيا الصادقة، وهي بداية البشريات التي تبشر المؤمن بأنه أصبح على الطريق القويم والمنهج المستقيم.

إذا لم يصل إلى ذلك نرى الله تبارك وتعالى يصف هذا الهالك، يقول الله تبارك وتعالى كما قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ القَلْب يَصْدأُ كَمَا يَصْدَأ الحَدِيد، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا جِلَاؤُه؟ قَالَ: تِلَاوَة القُرْآن وَذِكْرُ الله تَعَالَى }[3]

وقال صلى الله عليه وسلَّم واصفاً حال هؤلاء المرضى:

{ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: ((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) }[4]

والران يعني الغطاء أو الستارة التى تحجب الأنوار الموجودة في باطن القلب: ” كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14المطففين) يعني من الآثام والذنوب والمعاصي، وما حالهم؟ ” كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ” (15المطففين) يكونون في حجاب عن نظر أُولي الألباب، أو عن النظر إلى باطن الأنوار الموجودة في كتاب الحق تبارك وتعالى، أو النظر إلى ملكوت الله تبارك وتعالى وغيوب الله عز وجل التي لا يراها إلا قلبٌ خلا من العيوب.

كيفية النظر إلى الغيوب

فإذا خلا القلب من العيوب فوراً يُطلعه الله تبارك وتعالى على ما قُدِّر له من عالم الغيوب، لأن كل إنسان على قدر صفائه ونقائه يكون قدر عطائه من العاطي تبارك وتعالى.

والمنهج في ذلك الذي وضحه الإمام أبو العزائم رضي الله عنه فقال:

غُض عين الحس واشهد بالضمير

تشهدن يا صبُّ أنوار القدير

كل المطلوب غض عين الحس، ونحن نعلم جميعاً أن سلفنا الصالح لأن الله عز وجل كان يحبهم وكان يؤاخذهم أولاً بأول، كان الرجل منهم إذا نظر نظرة واحدة إلى امرأة أجنبية لا تحل له وأطال النظر عُوقب بمرض النسيان، وأُخذ منه ذاكرة الحفظ التي تفضَّل بها عليه حضرة الرحمن.

فهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه وكان من شدة ذكائه لا يسمع شيئاً إلا حفظه، حتى أنه عندما ذهب إلى مكتب تحفيظ القرآن في زمانه وكانت أمه فقيرة وكان هو طفل يتيم، ولا يملك ما يعطيه للمعلم، فكان يذهب ويجلس ويحفظ ما يعلمه المعلم للصبيان، ولما عرف المعلم بحاله جعله ينوب عنه في حال غيابه وارتضى بذلك أجراً له لفقره.

وكان إذا سمع كتاباً أو قرأ كتاباً حفظه من أول مرة، وذات مرة وهو في الطريق نظر إلى ساق امرأة هفهفت الريح ثيابها فأظهرت ساقها، فذهب إلى المكتب ولم يستطع أن يقرأ أو يُكرر ما حفظه، فقال له المحفظ: ما بالك؟ ما دهاك؟ ماذا حدث لك؟ وذكر في ذلك أبيات قال فيها:

شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نورٌ

ونور الله لا يُهدى لعاصي

وهذا مرضٌ استشرى في زماننا، وهو مرض النسيان المبكر لكثير من الناس، بسبب كثرة التطلع إلى ما لا يحلّ له، وشغل الأذن بسماع أشياء لا تنفع الإنسان في دنياه، ولا ترفعه في أخراه، وإنما لشهوة الكلام، والكلام له شهوة أشد من شهوة الطعام، لكن كان دأب سلفنا الصالح رضي الله عنهم حفظ الجوارح.

ولذلك عندما تقابل الشافعي مع الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وكان قبل أن يقابله قد حفظ كتابه الموطأ، فلما دخل عليه قال له: أطلب من يقرأ لك؟ قال: أنا أقرأ، والشافعي كان فصيحاً لأنه عاش سنوات طوال وسط القبائل العربية في البادية لفصاحة اللسان في اللغة العربية، فكان أفصح الناس.

وكان صوته عذبٌ، ولذلك قالوا: إذا صلى وقرأ القرآن يبكي كل من وراءه من سماعهم لتلاوته القرآن، فلما قرأ على الإمام مالك انتشى وأخذ يهتز والاهتزاز دليل الإعجاب، ثم قال له: يا محمد إن الله ألقى على قلبك نوراً فلا تُطفئه بالمعصية.

فما الذي يُطفئ النور الذي في القلب؟ المعصية والعياذ بالله تبارك وتعالى.

لكن النور الذي في القلب الذي وضعه الله لنا أجمعين، يقول فيه سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (لو كُشف عن نور المؤمن العاصي لملأ ما بين السماء والأرض، فما بالكم بالمؤمن المطيع؟!).

كل واحد منا عنده نور يغنيه ويكفيه في دنياه وأخراه لو حفظ جوارحه ومشى على منهج الله في كتاب الله، وتأسَّى بسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

فإذا حفظ الإنسان الجوارح الظاهرة انكشفت له الحقائق الباطنة، والحقائق الباطنة هي التي لها اطلاعٌ على عالم الملكوت، وعلى عوالم الحي الذي لا يموت، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلَّم:

{ لولا أنَّ الشَياطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوب بَنِي آدَمِ لنَظَرُوا إِلَى مَلَكُوتِ السَمَاء }[5]

ما الذي يمنعهم من النظر؟ الشياطين الذين يزينون لهم المعاصي والمحرمات التي حرمها الله تبارك وتعالى، وهذا هو الجهاد الأكبر، ولذلك يقول إمامنا أبو العزائم رضي الله عنه:

تجذب الروح الهياكل

في الصفا أعلى المنازل

إن أداروا الراح صرفاً

أسكرت عالٍ وسافل

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح أقفال قلوبنا، وأن يرزقنا البصيرة النورانية، وأن يجعلنا ممن يعلِّمهم علوماً غيبية إلهية إلهامية.

وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] الجامع الصغير للسييوطي عن أبي ذر رضي الله عنه

[2] مصنف ابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه

[3] الأربعين في فضائل ذكر رب العالمين للدمشقي عن ابن عمر رضي الله عنهما

[4] سنن ابن ماجة والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[5] ورد ذكره في الإحياء، وفي التفسير الكبير للرازي

1 الجميزة – السنطة -الغربية الخميس 13 من رمضان 1443هـ 14/4/2022م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid