Sermon Details
أمراض الأخفى
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله على فضله العظيم، والصلاة والسلام على نوره الذي هو في القلب مقيم، سيدنا محمد وآله وصحبه وورثته والقائمين بدعوته إلى يوم الدين، واجعلنا منهم أجمعين آمين يا رب العالمين.
تحدثنا عن أمراض العلماء الربانيين، وقلنا أن هناك لهم أمراضٌ في الخفا، ونتحدث الآن عن أمراض الأخفى، فالله عز وجل يقول: ” يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ” (7طه) فنهاك السر وهناك الخفا وهناك الأخفى، ومن جملة أمراض الأخفى:
المرض الأول: اشتغالهم بتربية المريدين وتعليمهم وترك جهاد أنفسهم:
يشتغلون بتربية المريدين وتعليمهم فيهملون مجاهدة أنفسهم ورعايتها حق الرعاية، فإذا أقامه الله تبارك وتعالى داعياً لحضرته اشتغل بالطالبين وزياراتهم ومجالستهم، ونسي جهاد نفسه، مع قول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه: (لا ينتهي جهاد النفس مع كُمَّل العارفين، حتى خروج النَفَس الأخير)
فما دام الإنسان يتنفس في هذه الدنيا، فهو مُعرضٌ للإبتلاءات، ومُعرضٌ للفتن من قِبَل النفس، ومعرض للحُجُب من قِبَل القلب، وكل هذه تحتاج إلى يقظة دائمة.
ولذلك قلَّ من الكُمَّل من يلاحظ ذلك، فيقوم بما هو واجبٌ عليه نحو تلاميذه وأحبابه، ولكن لا ينسى جهاد نفسه، لأنه لا نهاية لكمالات الله، وكذلك لا نهاية في مقامات الوصول إلى حضرة الله تبارك وتعالى.
فلا يزال المرء يترقى في أعلى المقامات، ومع ذلك لم يصل إلى ما كان عليه سيد السادات، والذي قال له ربه معلماً ومؤدباً لنا: ” وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ” (114طه) ومعناها زدني فتحاً، وزدني شهوداً، وزدني عطاءًا، وزدني هبات، وزدني تجليات، وزدني من مكاشفة أسرار حضرة الذات .. زيادات لا حدَّ لها ولا انتهاء لها.
ولذلك فأي مراد لله يُقام في أي مقام لا يقف عند هذا المقام، بل يطلب الزيادة من الله على الدوام، وذلك بملاحظة جهاد نفسه وصفاء قلبه وهيام روحه في ذات الله تبارك وتعالى على الدوام.
وإذا كان هذا نقوله للأفراد والكُمَّل من العارفين، فما بالكم بالمريد الذي يفتح الله عليه ربما بنَفَس من الفتح، أو بما يشبه خُرم الإبرة من الفتح، فيظن أنه من كبار الواصلين، ويحاول أن يجمع حوله المريدين، ويظن أنه انتهى من جهاد نفسه ووصل إلى مراده عند ربه تبارك وتعالى، وهذا داءٌ عضال قلَّ أن ينجو منه أحدٌ من المريدين إلا إن فنى عن نفسه وكله في شيخه، وسلَّم كله لشيخه ولله ولرسوله.
المرض الثاني: الشوق إلى المفارق:
كأن يشتاق إلى حب الظهور، بأن يظهر بالرياسات، أو يظهر بالكرامات، أو يظهر بالفتوحات، وأن يرى إقبال الخلق عليه فيظن أنه فتحٌ من الله فيفرح بهم وبثنائهم عليه وبتقبيلهم ليديه، وهذه آفة عُظمى عند الصادقين، قال إمامنا أبو العزئم رضي الله عنه: (العالم يهتم بالقبول – أي من الله تبارك وتعالى – والجاهل يهتم بالإقبال) أي إقبال الخلق عليه، وهذه وحلة من أوحال التوحيد يقع فيها هذا العبد، نسأل الله تبارك وتعالى الحفظ من ذلك على الدوام.
فما بالكم بمن يشتاق إلى الأشياء الدنيوية؟! والشهوات النفسانية؟! كالطمع فيما عند المريدين من أموال، أو النظر والمجالسة للنساء، أو الطمع في أي شيء فانٍ كرياسة أو غيرها، وهذا أمرٌ نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا منه بصدقنا أجمعين.
المرض الثالث: الظن أنه وصل إلى مقام كن فيكون:
وهو أن يمن الله عليه فيكشف له نور: ” وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ” (13الجاثية) فيظن أنه وصل إلى مقام كن فيكون، ويريد أن يتصرف في الكون وفي الخلق بإرادته، ويظن أن هذا رحمة منه وشفقة بالعباد.
والعبد الصادق مع مولاه يقول كما قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه:
(كن) جزتها كان المراد لرتبتي |
والعين مقصودي وياء إمامي |
تجاوز عن رتبة (كن) عندما خلعها عليه مولاه، حتى لا يُحجب بها عن الوصول إلى كمال القرب من حضرة الله جل في علاه.
ونضرب مثالاً لذلك، فلو أن رئيساً في أي عمل كلَّف نائباً له بالقيام بهذا الذي يقوم به، هل يوافق على أنه يتصرف في الأمور بإرادته ومشيئته دون الرجوع إليه؟ لا، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الفعال لما يريد، فإذا تفضَّل على عبد بمقام (كن) فهذا يكون اعلاءًا لشأنه ورفعة لمقامه، لكن الأنقياء المخلصين لا يقفون عند هذا المقام، بل يقولون: لا نريد إلا جمال وجهك، ولا نريد الكون ولا الكائنات بل نريد الله سبحانه وتعالى: ” وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ” (42النجم).
فإذا حُجب الإنسان بأي مقام وقف، والوقف لفتةٌ عن الطريق، واللفتة حجاب، ولذلك قالوا:
من لفتة حجبة والحجب نار لظى |
من فوق نار الغضا سيري لمنان |