• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:59 PM

Sermon Details

9 يونيو 2022

أمراض القلب أمراض الأخفي

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

أمراض الأخفى

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله على فضله العظيم، والصلاة والسلام على نوره الذي هو في القلب مقيم، سيدنا محمد وآله وصحبه وورثته والقائمين بدعوته إلى يوم الدين، واجعلنا منهم أجمعين آمين يا رب العالمين.

تحدثنا عن أمراض العلماء الربانيين، وقلنا أن هناك لهم أمراضٌ في الخفا، ونتحدث الآن عن أمراض الأخفى، فالله عز وجل يقول: ” يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ” (7طه) فنهاك السر وهناك الخفا وهناك الأخفى، ومن جملة أمراض الأخفى:

المرض الأول: اشتغالهم بتربية المريدين وتعليمهم وترك جهاد أنفسهم:

يشتغلون بتربية المريدين وتعليمهم فيهملون مجاهدة أنفسهم ورعايتها حق الرعاية، فإذا أقامه الله تبارك وتعالى داعياً لحضرته اشتغل بالطالبين وزياراتهم ومجالستهم، ونسي جهاد نفسه، مع قول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه: (لا ينتهي جهاد النفس مع كُمَّل العارفين، حتى خروج النَفَس الأخير)

فما دام الإنسان يتنفس في هذه الدنيا، فهو مُعرضٌ للإبتلاءات، ومُعرضٌ للفتن من قِبَل النفس، ومعرض للحُجُب من قِبَل القلب، وكل هذه تحتاج إلى يقظة دائمة.

ولذلك قلَّ من الكُمَّل من يلاحظ ذلك، فيقوم بما هو واجبٌ عليه نحو تلاميذه وأحبابه، ولكن لا ينسى جهاد نفسه، لأنه لا نهاية لكمالات الله، وكذلك لا نهاية في مقامات الوصول إلى حضرة الله  تبارك وتعالى.

فلا يزال المرء يترقى في أعلى المقامات، ومع ذلك لم يصل إلى ما كان عليه سيد السادات، والذي قال له ربه معلماً ومؤدباً لنا: ” وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ” (114طه) ومعناها زدني فتحاً، وزدني شهوداً، وزدني عطاءًا، وزدني هبات، وزدني تجليات، وزدني من مكاشفة أسرار حضرة الذات .. زيادات لا حدَّ لها ولا انتهاء لها.

ولذلك فأي مراد لله يُقام في أي مقام لا يقف عند هذا المقام، بل يطلب الزيادة من الله على الدوام، وذلك بملاحظة جهاد نفسه وصفاء قلبه وهيام روحه في ذات الله تبارك وتعالى على الدوام.

وإذا كان هذا نقوله للأفراد والكُمَّل من العارفين، فما بالكم بالمريد الذي يفتح الله عليه ربما بنَفَس من الفتح، أو بما يشبه خُرم الإبرة من الفتح، فيظن أنه من كبار الواصلين، ويحاول أن يجمع حوله المريدين، ويظن أنه انتهى من جهاد نفسه ووصل إلى مراده عند ربه تبارك وتعالى، وهذا داءٌ عضال قلَّ أن ينجو منه أحدٌ من المريدين إلا إن فنى عن نفسه وكله في شيخه، وسلَّم كله لشيخه ولله ولرسوله.

المرض الثاني: الشوق إلى المفارق:

كأن يشتاق إلى حب الظهور، بأن يظهر بالرياسات، أو يظهر بالكرامات، أو يظهر بالفتوحات، وأن يرى إقبال الخلق عليه فيظن أنه فتحٌ من الله فيفرح بهم وبثنائهم عليه وبتقبيلهم ليديه، وهذه آفة عُظمى عند الصادقين، قال إمامنا أبو العزئم رضي الله عنه: (العالم يهتم بالقبول – أي من الله تبارك وتعالى – والجاهل يهتم بالإقبال) أي إقبال الخلق عليه، وهذه وحلة من أوحال التوحيد يقع فيها هذا العبد، نسأل الله تبارك وتعالى الحفظ من ذلك على الدوام.

فما بالكم بمن يشتاق إلى الأشياء الدنيوية؟! والشهوات النفسانية؟! كالطمع فيما عند المريدين من أموال، أو النظر والمجالسة للنساء، أو الطمع في أي شيء فانٍ كرياسة أو غيرها، وهذا أمرٌ نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا منه بصدقنا أجمعين.

المرض الثالث: الظن أنه وصل إلى مقام كن فيكون:

وهو أن يمن الله عليه فيكشف له نور: ” وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ” (13الجاثية) فيظن أنه وصل إلى مقام كن فيكون، ويريد أن يتصرف في الكون وفي الخلق بإرادته، ويظن أن هذا رحمة منه وشفقة بالعباد.

والعبد الصادق مع مولاه يقول كما قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه:

(كن) جزتها كان المراد لرتبتي

والعين مقصودي وياء إمامي

تجاوز عن رتبة (كن) عندما خلعها عليه مولاه، حتى لا يُحجب بها عن الوصول إلى كمال القرب من حضرة الله جل في علاه.

ونضرب مثالاً لذلك، فلو أن رئيساً في أي عمل كلَّف نائباً له بالقيام بهذا الذي يقوم به، هل يوافق على أنه يتصرف في الأمور بإرادته ومشيئته دون الرجوع إليه؟ لا، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الفعال لما يريد، فإذا تفضَّل على عبد بمقام (كن) فهذا يكون اعلاءًا لشأنه ورفعة لمقامه، لكن الأنقياء المخلصين لا يقفون عند هذا المقام، بل يقولون: لا نريد إلا جمال وجهك، ولا نريد الكون ولا الكائنات بل نريد الله سبحانه وتعالى: ” وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ” (42النجم).

فإذا حُجب الإنسان بأي مقام وقف، والوقف لفتةٌ عن الطريق، واللفتة حجاب، ولذلك قالوا:

من لفتة حجبة والحجب نار لظى

من فوق نار الغضا سيري لمنان

فما بالكم بمن يُحجب بنشره في مواقع التواصل كالفيس وغيره لبعض الحكم المنقولة، ويفرح بثناء بعض المحبين عليه، ويظن أنه بلغ مقام المشيخة لأن الناس يثنون عليه؟!!.

أو بمن بلغ مقام الكشف!! والكشف أنواعٌ لا تُعد ولا تُحد، فيفرح إذا أخبر الناس بما يجول في خواطرهم، أو بما يجول في نفوسهم، لأنهم يعظموه ويكرموه، ونسى أن الصالحين يرون أن كل فضل وكل خيرٍ يحدث لهم يرفعونه وينسبونه إلى الله تبارك وتعالى: ” مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ” (79النساء).

سُئل الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه وأرضاه: لِمَ تفرح بثناء الصالحين والمحبين عليك؟ قال: وهل يثنون عليَّ؟! إنما يثنون بما تفضَّل الله تعالى به عليَّ، فأنا أرى أنهم يثنون على الحق، وعلى مواهب الحق التي أكرمني بها.

فالثناء في الحقيقة لله: (والعبد عبدٌ وإن علا، والرب ربٌ وإن تنزَّل).

الأمراض الظاهرة لعلماء الدنيا

أما الأمراض الظاهرة لعلماء الدنيا الجهلاء بالآخرة، وإن كان بعضهم يتظاهر بالسير والسلوك لمعرفته بحب الخلق إلى هذا الصنف،:

المرض الأول: الجدال بالباطل:

الرجل منهم إذا أخطأ في حُكم وفشى بين الناس وعورض فيه، كره أن يخضع للحق وقام مجادلاً بالباطل ينصر نفسه على الحق خوفاً من أن يسقط من عين الناس، أو تقل هيبته لديهم، وهذا ليس من آداب العلماء العاملين، فنحن جميعاً ننصر الحق إن ظهر على لساننا أو لسان غيرنا.

يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: (ما ناظرتُ أحداً قط إلا وودتُ أن يظهر الحق على لسانه لا على لساني أنا) لأنه هذَّب نفسه ويريد إظهار الحق بأي كيفية، أما الآخر فربما تتحرك نفسه فيغضب لعدم نصرة رأيه، فيجادل بالباطل ليحول الحق إلى باطل.

انظر إلى الشيخ العز بن عبد السلام رضي الله عنه وأرضاه، وكان شيخاً للإسلام في بلاد الشام ثم انتقل شيخاً للإسلام في مصرنا، سأله سائل عن فتوى فأجابه، وكان السائل على عَجَل من أمره فمشى، وبعد أن مشى السائل وغاب عن ناظريه تذكر فيما أفتاه به، فوجد أن الفتوى غير صحيحة، والفتوى الصحيحة هي كذا وكذا، فأرسل يبحث عن السائل فلم يجده، فجاء بمنادٍ ينادي في كل شوارع القاهرة: أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أفتى بكذا وهذه الفتوى خاطئة، وصحتها كذا وكذا، ودار المنادي في كل أرجاء القاهرة، لأن هؤلاء يقول فيهم الله: ” الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللهَ ” (39الأحزاب).

فإذا رأيت من يتكبر على الإعتراف بالخطأ والخضوع للحق فاعلم أنه جهولٌ وقريبٌ من الشيطان، ولا يشم رائحة العرفان أبداً مهما كان ظاهره، لأن الله عز وجل يرجو أن يكون باطنه ممن قال الله فيهم: ” وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ” (46الرحمن) أن يخاف الله أولاً عند فتواه، أو عند قوله، أو عند شهادته، أو عند أي أمر يُستشار فيه، فيخشى الله فيقول ما يرضي الله ولو كان الذي أمامه ذو سلطان أو ذو صولجان أو ذو مال أو غيره، لأنه مندوبٌ عن النبي العدنان يقول الحق ولو كان الغير لا يرضاه، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا }[1]

وقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ وَقُلِ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ }[2]

المرض الثاني: تأويل الأحكام بما يناسب هوى الخلق:

هذا المرض استشرى في هذا الزمان، فهو يقوم بتأويل الأحكام بما يناسب هوى الخلق، والعمل بالرخص لجلب الأموال وميل القلوب إليهم، فيأخذون من الناس أموالاً على أن يبيحون لهم شيئاً لا يبيحه الله، وعلى أن يفتوهم يجواز شيء وتحليله وهو محرمٌ في محكم كتاب الله، كمسائل الطلاق ومسائل المواريث ومسائل المعاملات وغيرها.

وانظر إلى الإمام مالك رضي الله عنه، أراد والي المدينة في عصره أن يستفتيه في طلاق المكرة الذي أُكره على الطلاق، فقال: لا يجوز، فأراد أن يجوزِّه له فلم يرضى لأنه يخالف شرع الله، فجلده وسجنه ولكنه لم يغير رأيه، لأنه مندوبٌ عن رسول الله في الإخبار بالأحكام كما قال له الله: ” لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله ” (105النساء).

ولذلك كان العلماء في هذا الزمان الفاضل يهربون من القضاء خوفاً من ضغط الحكام، فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه جُلد ليتولى القضاء فرفض رفضاً باتَّاً، وسفيان الثوري دُعي إلى القضاء فتظاهر بالجنون.

 وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وخيار التابعين يُسأل أحدهم عن الفتوى فيتدافعها، ويحول المستفتي إلى رجل آخر، وأحياناً كانت الفتوى تتحول إلى أكثر من سبعين رجلاً ثم تعود للأول، وكلهم كان يتحاشى الفتوى لقوله صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ }[3]

فلا يُفتي إلا بما يعلم أن فيه رضاء الله، وموافق لإجماع أئمة المسلمين، ولا يذهب إلى الفتاوى الشاذة مهما كان شأنها، ومهما كان برهانها، ومهما كان بيانها لقوله صلى الله عليه وسلَّم:

{ يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ }[4]

المرض الثالث: إهمال العناية بكتاب الله وسُنَّة نبيه:

إهمال العناية بكتاب الله وما أُلف فيه من العلوم، وبسُنَّة رسول الله، وبأقوال أئمة الهدى، وضياع الأنفاس في علومٍ لا تغني ولا تُثمن من جوع، كأن يشتغل الإنسان بعلوم الجدال، أو العلوم التي يحب فيها ويُستحب فيها التأويل ليظهر ويُظهر أمر نفسه، وهذا منتشرٌ في كتب أهل الجدل والمناظرة والفِرق المختلفة من علوم المتكلمين، ولذلك نحن لا شأن لنا بعلم الكلام وفِرقه وفروعه المختلفة، وإنما نرجع إلى قول السلف الصالح فيما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وصحبه الكرام في فهمهم للقرآن، وفي تأويلهم لسُنَّة النبي العدنان، فهذا هو المنجاة من فتن هذا الزمان.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا من هذه الأمراض، وأن يعالجنا من كل هذه الأغراض، وأن يجعلنا على بصيرة من أمرنا، وأن يجعلنا دائماً وأبداً ناظرين إلى عيوب نفوسنا وحسنات أحبابنا.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] صحيح ابن حبان ومسند الشهاب عن أبي ذر رضي الله عنه

[2] الجزء الرابع من المشيخة البغدادية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه

[3] سنن الدارمي

[4] جامع الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما

الجميزة – السنطة -الغربية   الخميس 10 من ذي القعدة 1443هـ 9/6/2022م 1

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid