Sermon Details
إزالة الشبهات عن بعض الآيات الواردة في حق النبي صلى الله عليه وسلَّم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
لما كان القرآن الكريم فيه آياتٌ محكماتٌ هُن أم الكتاب وأُخر متشابهات، فنتناول في حلقتنا هذه إزالة الشبهات عن بعض الآيات التي وردت في حق النبي صلى الله عليه وسلَّم من المتشابهات.
عصمة الأنبياء
هذه الآيات متماثلة في كتاب الله، نقتطف منها جزءاً يسيراً للأحباب ليمشوا على هُداه، والأصل الذي نمشي عليه مع نبي الله وأنبياء الله ورسل الله هو العصمة؛ أن الأنبياء والمرسلين أجمعين عصمهم الله تبارك وتعالى من الذنوب، ومن الزلات، ومن الهفوات، ومن الغفلات، ومن أي شيء يحدث للإنسان في أي زمان ومكان لأنهم في عصمة الله على الدوام.
كما نشهد الله تبارك وتعالى أننا نُشهده عز وجل أن عصمته للأنبياء منذ ولادتهم قبل أن يُبلَّغوا بالرسالة، وعند نزول الوحي عليهم لتبليغ الرسالة، وبعد ذلك فهم معصومون على الدوام من قبل نشأتهم، إلى أن بلغوا رسالات الله تبارك وتعالى لجميع الأنام.
معنى (ضالاً) في سورة الضحى
من هذه الآيات المتشابهات قول الله تبارك وتعالى في سورة الضحى: ” وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى ” (7الضحى) وقد تحدثنا عنها فيما سبق بحديث أهل الحقائق، ولكن لا بد أن نتحدث عنها بما تأوَّله المفسرون أجمعون عنها، والمفسرون لهم فيها آراء كثيرة، وهذه الآراء تكون على حسب تعدد الفهم للغة، أي أن الكلمة اللغوية وهي كلمة (ضالاً) لها أكثر من معنى، فكل مفسر من المفسرين أخذ المعنى الذي راق عنده، وفسر عليه هذه الآية في حق سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.
فبعضهم قال: (ضالاً) يعني ضالاً عن معاني النبوة، أي أنه كان لا يعرف معاني النبوة حتى هداه الله تبارك وتعالى إليها وعلَّمه إياها، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي }[1]
وبعضهم أخذ رواية تاريخية وردت في كثير من كتب السِيَر قال فيها صلى الله عليه وسلَّم: ((ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع، وكاد الجوع يقتلني، فهداني الله)).
وبعضهم قال كلمة (ضالاً) تعني مغموراً، أي أنه كان مغموراً وغير معروف في فجاج مكة وبين أهلها، حتى جعله الله سبحانه وتعالى عَلَماً يهتدي به الأنام إلى الملك العلام سبحانه وتعالى.
وبعضهم قال كلمة (ضالاً) تعني فريداً، أي أنه كان صلى الله عليه وسلَّم فريداً من نوعه في عبادته وإقباله على ربه، وفي جهاده في تبليغ رسالات ربه تبارك وتعالى.
وبعضهم قال إن هذا الخطاب هنا لقومه، أى هم كانوا ضُلالاً والخطاب موجه لهم في شخص الرسول صلى الله عليه وسلَّم حتى هداهم الله تبارك وتعالى على يديه إلى شريعة الله سبحانه وتعالى.
ولما كانت كلمة (ضالاً) تعني مُحباً، فقد قال إخوة يوسف لأبيهم كما أخبر الله عز وجل: ” تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ” (95يوسف) وضلالك يعني حبك القديم ليوسف وأخيه.
فقالوا: إنه كان محباً صلى الله عليه وسلَّم لمعرفة الله سبحانه وتعالى والإقبال عليه، فهداه الله به إليه.
وبعضهم قال كلمة (ضالاً) يعني ناسياً، فهو صلى الله عليه وسلَّم في ليلة المعراج من شدة ذهوله عندما تجاوز سدرة المنتهى نسى ما يخاطب به ربه تبارك وتعالى، فذكَّره الله عز وجل ما يخاطبه به، فقال: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله تبارك وتعالى.
وبعضهم قال: إن الله خاطبه ويقصد بالخطاب قومه، لأنهم كانوا ضُلالاً، فهم المخاطبون بهذا الخطاب وليس أهل مكة فقط، وإنما العرب جميعاً كانوا ضُلالاً عن النهج القويم والدين المستقيم، فهداهم الله به وعصمه الله سبحانه وتعالى من ضلالهم وإفكهم وبعدهم عن الله تبارك وتعالى.
وبعضهم قال: (ضالاً) يعني متحيراً في بيان ما أُنزل إليه من ربه، كيف يُبلغ هذا إلى قومه؟ وكيف يدعوهم إلى الله؟ فهداه الله عز وجل كما قال: ” وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ” (44النحل) هداه إلى البيان الذي يدعو هؤلاء الأقوام إلى حضرة الرحمن سبحانه وتعالى.
النور الذي وضعه الله عنه
ومن هذه الآيات كذلك قول الله تبارك وتعالى: ” وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ” (2-3الشرح) ما الوزر الذي وضعه الله تبارك وتعالى عنه؟ اختلف في ذلك السادة المفسرون على تأويله، والفتح الذي فتح الله تبارك وتعالى به عليهم، فمنهم من قال: الوزر هو تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر عند القيام بها، لأن أعباء النبوة ثقيلة، وقد قال فيها الله تبارك وتعالى: ” إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ” (5المزمل) وصف الرسالة بأنها ثقيلة، فوضع الله عنه وخفف الله عنه هذا الثقل، وحمل الله تبارك وتعالى عنه هذه الأعباء، وأعانه بعونه على إبلاغ رسالات الله.
ومنهم من قال: إن هذا الوزر لما شبَّ بين قومه وكانوا على ملة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، ولكنهم كانوا قد غيروا كثيراً مما كان عليه دين إبراهيم، ولم يكن يستطيع أن يغير ما وجدهم عليه من البعد عن الدين الحنيف، إلى أن أنزل الله عليه رسالته، وأمره أن يبلغهم بأن يتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً، فغيَّر بأمر الله وبمعونة الله ما حرفوه من دين إبراهيم خليل الله.
والدليل على ذلك أن أهل مكة والعرب معهم كانوا يقفون عند المزدلفة في يوم عرفة، ولكن الأمر الغريب والعجيب أن النبي صلى الله عليه وسلَّم بمفرده كان هو الذي يقف بعرفات، حتى أنزل الله تبارك وتعالى عليه رسالة السماء ليرد المناسك إلى مناسك إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
ومنهم من قال أن الوزر الذي أنقض ظهره أنه كان يخاف أو يخشى أن يكون عليه ذنبٌ فيحاسبه به عليه الله، وهذا من شدة خشيته من الله، فقد كان صلى الله عليه وسلَّم يقول:
{ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً }[2]
وفي رواية أخرى:
{ أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ }[3]
فمن شدة خشيته كان يحاسب نفسه حساباً شديدا، ويخاف بعد ذلك أن يكون هناك ذنب لا يعلمه فيحاسبه الله تبارك وتعالى عليه، فخفَّف الله عنه ذلك ووضع عنه وزره، أو وضع عنه ذنبه الذي لو كان لغفره الله تبارك وتعالى له.
ومن ذلك أيضاً في هذا المعنى أن سره كان مشغول بدعوة الله، وكان دائماً وأبداً يحرص على تنفيذ شريعة الله، وكيف يتم ذلك؟ وكيف يكون ذلك بين العرب القساة الجفاة الغلاظ؟ ولكن الله تحمل عنه ذلك، وأعانه على ذلك حتى خفف عنه وزره صلوات الله تبارك وتعالى عليه.
أيضاً من هذه المعاني الجميلة، أن الله عز وجل لما أنزل عليه القرآن كان على الدوام يخشى أن يتغير أو يغيره بعض الذين يأتون بعده، كما غيروا التوراة وغيروا الإنجيل، فخفف الله عنه وقال له: ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ” (9الحجر).
وآخر هذه المعاني أن ذنوبه هي ذنوب أمته، لأن الله قال له: ” وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ” (19محمد) فخاف على ذنوب أمته أن لا يتقبل الله تبارك وتعالى استغفارهم، وأن يحاسبهم عليها حساباً شديداً، فوضع الله عنه وزره هذا وبشره بأنه: ” لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ” (2الفتح).
المغفرة والاستغفار
الآية الثالثة وهي في هذا المقام: ” لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ” (2الفتح) وهل النبي صلى الله عليه وسلَّم – وهو المعصوم – ارتكب ذنباً حتى يغفره له الله تبارك وتعالى؟ لا، ليس الأمر كذلك، قال بعض المفسرين الذين يفسرون بعقولهم، ليغفر له الله ما كان على سهو وغفلة، وهو صلى الله عليه وسلَّم منزهٌ عن السهو وعن الغفلة، فإن الله عز وجل قال له صلى الله عليه وسلَّم: ” سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ” (6الأعلى) عصمه من النسيان، فكيف ينسى أو يسهو صلوات ربي وتسليماته عليه؟!.
وعندما كان يسهو مثلاً في الصلاة كان ذلك لحكمة تشريعية، يقول فيها صلى الله عليه وسلَّم:
{ إِنِّي لا أَنْسَى وَلَكِنْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ }[4]
للتشريع، فعندما نُسِّي من قبل ربه لشغله بالنظر إلى جماله وبهائه سبحانه وتعالى، كان ذلك ليعَلِّم من خلفه كيف يستدركون الصلاة إذا فاتهم ركن من أركان الصلاة، أو سُنَّة من سنن الصلاة، ولذلك قال الرجل الصالح:
يا سائلي عن رسول الله كيف سها |
والسهو من كل قلب غافل لاه |
قد غاب عن كل شيء سره فسها |
عما سوى الله فالتعظيم لله |