الحمد لله الذي شرح صدورنا للإيمان، وملأ بفضله قلوبنا بمحبة النبي العدنان، ونسأله عز وجل أن يُرقينا ويُعلي شأننا بهذه المحبة، حتى نرى وجه حضرته صلى الله عليه وسلَّم عين عيان، ونكون تحت لواء شفاعته في القيامة، ونكون من أهل جوار حضرته أجمعين في الجنان آمين يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم وبارك على سرك الجامع لجميع الأسرار، ونورك المفاض منه جميع الأنوار، ونبيك الأصل الذي تفاعت كل أصول الأخيار والأطهار، سيدنا محمد وآله وصحبه وكل من إهتدى بهديه إلى يوم الدين، واجعلنا يا ربنا به مقتدين، ولسنته متبعين، وبه سعداء وفائزين في الدنيا ويوم الدين أجمعين، آمين آمين يا رب العالمين.
أيها الأحبة:
لا يوجد بيان لأي عالمٍ أو متحدثٍ أو واعظٍ يستطيع أن يصف ولو ذرة من فضل الله علينا بنبيا الأعظم صلى الله عليه وسلَّم.
بعد أن تحدث عنه مولاه ووضح لنا ظاهره وخفاياه، وبينه بحديثٍ شيقٍ عذبٍ جميلٍ في كتاب الله، لا نحتاج بعده لأي حديثٍ لأي أحدٍ من خلق الله.
ولذلك يُروى عن سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه، وكان من عشاق الحضرة الإلهية، حتى أنهم سموه {سلطان العاشقين} ومدح وأثنى ونادى الله عز وجل بكلامٍ جميل، نحن جميعاً نشتاق إلى سماعه، وخاصة إن كان من صاحب صوتٍ جميل.
رُوي عنه أنه بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى رآه أحد أصحابه في المنام، فقال: يا سيدي لم لم تصف رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في حديثك؟ فأجابه مناماً ـ لأنه قد أصبح في عالم البرزخ:
أرى كل مدحٍ في النبي مقصــــــــــــــــــراً وإن بالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــغ المــُـثني عليه وأكثر
إذا كان الله أثنى عليه بما هو أهله فما مقـــــــــــــــــــــــــــــــدار ما يمدح الورى
كلامٌ عظيم إستوقفني هذا الكلام وأنا أتصفَّح في كتاب الله وأبحث في ثناياه عن حديث الله عن حبيبه ومصطفاه، ونحن لنا والحمد لله سلسلة نواصلها في الحديث عن الآيات التي تتحدث عن سيدنا رسول الله، وإن شاء الله سيخرج عن قريبٍ إن شاء الله.
فاليوم أخرجنا كتاب شرحنا الآيات التي فيها كلمة {نور} وجمعها الأحباب في كتاب حوالي ستمائة صفحة طُبعت طباعة فاخرة وجاءتنا اليوم الحمد لله.
وهو صلى الله عليه وسلَّم نور النور، فهو من نور الله، وكل ما عداه فهو من نوره صلوات ربي وتسليماته عليه، ولا أريد أن أطيل عليكم فقد إستوقفني آيتين في كتاب الله في الملامح الإلهية التي وضحها لنا الله في حبيبه ومصطفاه:
والآية الأُخرى في سورة النجم في حالة قرب القرب من القريب تبارك وتعالى جل شأنه عن الزمان والمكان، بلا كمٍّ ولا كيفٍ ولكن بأنوارٍ تعالت معنوية:
﴿ وَهُوَ بِالأُفُقِ الاعْلَى﴾ (7النجم).
فرسول الله صلى الله عليه وسلَّم هو الأُفق المبين الذي يُبين جمالات هذا الدين بقوله وعمله وحاله صلوات الله وتسليماته عليه، وهو الذي إختاره ربه تبارك وتعالى ليبلغ عنه شرعه الذي إكتمل على يد حضرته {العقيدة ـ العبادات ـ الأخلاق ـ المعاملات}.
ولم تجتمع هذه الأربع إلا في ديننا القويم دين الإسلام على يد الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
شرائع الله، فهو الذي يبين لنا شرائع الله، ولذلك قال لنا الله:
فإذاً كما قال الإمام مالك رضي الله عنه صاحب المذهب:
[كل واحد يُؤخذ من قوله ويُرد، إلا صاحب هذه الروضة الشريفة].
فهو الذي يُؤخذ منه القول الذي لا يُرد، وهو الذي وضَّح وبين أركان وشرائع الإسلام لجميع الأنام، وظهر على حضرته العبودية التامة، التي يتخلق بها من يريد القرب من الملك العلام، الشريعة للكل، ولكن أهل خاصة الخاصة الذين يريدون القرب من القريب، فعليهم بالتخلق بعبودية الحبيب لله، فإنه صلى الله عليه وسلَّم أكمل عبدٍ جمله الله بما يحبه ويرضاه، ومن يثرد أن يرضى عنه الله ويحبه الله فيتخلق بالعبودية التي كان عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلَّم لا يتفاخر ولا يتباهى إلا إذا أُمر ولذلك قال:
(أنا سيد ولد آدم ولا فخر).
[تفسير القرطبي عن أبي هريرة رضي الله عنه].
ليس لي فخرٌ بالسيادة، والفخر بأي شيئ؟ بالعبودية، لأنها التي مدحه الله بها:
﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ﴾ (19الجن).
فكل الثناء في كتاب الله على حبيب الله ومصطفاه للعبودية التي تخلق بها وجمله بها مولاه.
فكان صلى الله عليه وسلَّم يقول لأصحابه:
(لا تفضلوني على يونس بن متى).
[البخاري عن إبن عباس رضي الله عنهما].
يعني لا تفضلوني على أي نبيٍّ من الأنبياء، مع أنه يعلم يقيناً حقاً أنه إمام الرسل وسيد الرسل والأنبياء، لكن كان غاية في التواضع، وهذه التي نحتاج أن نتبعه فيها، الغاية في التطامن.
وكان صلى الله عليه وسلَّم عندما يأتي سعد بن معاذ زعيم الأنصار، والأنصار جلوسٌ بين يدي حضرته، يقول لهم: قوموا لسيدكم، لأنه يحسُّنا على الأدب الجمِّ مع بعضنا ومع كبرائنا ومع علمائنا ومع عظمائنا، قمة الأدب الجم.
فإذا قاموا لحضرته يقول لهم:
(لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم لملوكها).
[الألباني عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه].
بعض القوم لم يفقه هذا الحديث، فقال: إن النبي نهى عن القيام لحضرته، لا ـ هو قال: كما تقوم الأعاجم، والأعاجم عندما كانوا يقومون للملوك خوفاً ورهبة من بطشهم وفتكهم، فلابد أن يقوموا، فقال: أنا لا أريد هذا، أنا أريد أن تقوموا محبةُ وتقوموا إحتراماً، ولذلك قال القائل:
قيامي للحبيب علي فرضٌ وترك الفرض ما هو مستقيم
عجبتُ لمن له عقلٌ وفهمٌ يرى هذا الجمــــــــال ولا يقوم
الرسول صلى الله عليه وسلَّم كانت أحاديثه لا تحتاج إلى محدِّثٍ صحيح، ولكن تحتاج في فقهها إلى قلبٍ صحيح، لأنه كان يتكلم كلاماً عالياً لا يفقهه إلا الكمل.
فكيف يأمرهم بالقيام لسيدهم؟ وكيف ينهاهم عن القيام لحرضته؟
الأمر واضح فلم يقول: لا تقوموا لي وسكت، ولكن قال: لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم لملوكها، فالأمر واضح ـ يعني إياكم أن تقوموا خوفاً، لأن الأعاجم كانوا يقوموا لملوكهم خوفاً من بطشهم وفتكهم وسفك دمائهم، فإن لم يقوم، فالجنود الأشداء يقتادوه ويفعلوا به الأفاعيل، وكيف نقوم؟ قال: لا أنا أريد أن نقوم محبة ومودة، وهذه التي عبَّر عنها شاعر الأنصار فقال:
قيامي للحبيب عليَّ فرضٌ ـ وليس سنة بل فرض ـ وترك الفرض ما هو مستقيم
عجبت لمن له عقلق وفهم يرى هذا الجمال ولا يقوم
كيف لا يقوم لجمال الله الذي أشرق به في حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
فكان صلى الله عليه وسلَّم هو العبد الأكمل لمن أراد القرب من مولاه في عبوديته ـ في خشيته ـ في خوفه من الله، ولذلك قال:
(أنا أخَوَفَكم من الله، وأتقاكم لله، وأشدكم له قربا).
فعرف أن سبيل القرب إلى الله، وعرفنا أنه الخشية والتقوى لحضرة الله جل في عُلاه.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
الخميس: 21/10/2021 موافق 15 ربيع الأول 1443 المقطم ـ بعد المغرب ـ مسجد الفائزين الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف