هذه الآيات التي يتكلم فيها الله عز وجل عن تحويل القبلة، وشرح هذه الآيات يحتاج إلى وقتٍ طويل، لكن المسلم ذوَّاق وخاصة لكتاب الله، ونريد أن نأخذ بعض الإشارات الإلهية في هذه الآيات القرآنية وهي التي تعطينا مؤشراً بقيمة القبلة والإتجاه للقبلة، لأن هذا أمرٌ جوهري وأساسي في الديانة الإسلامية، لأنه لا يجب أن يتهاون فيه أحد، لأن هناك كثيرٌ من الناس يكون في مكانٍ ما ولا يدري اتجاه القبلة، فيدَّعي أنه يُحسن الظن بالله ويردد الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (115البقرة) ويُصلي وانتهى الأمر، لكن لا بد من الأخذ بالأسباب الشرعية التي وضعتها الشريعة المحمدية للإتجاه إلى القبلة بالوسيلة المرضية لأن هذا شيء جوهري في هذا الدين.
السفهاء وتحويل القبلة
والسفهاء هم الذين عندهم طيشٌ في العقل، وخفة في الفكر، وحدَّةٌ في الذهن مثل اليهود والكفار وما شابههم.
عندما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجه إلى قبلة أبيه إبراهيم؛ خاض اليهود وقالوا: لِمَ ترك قبلتنا؟ لو كان يعلم أنها ليست على الحق فلِمَ اتبعها من قبل؟ وبدأوا يشكِّكوا، وضعاف الإيمان والمشركون قالوا: لِمَ رجع إلى قبلتنا؟ لأنه يعلم أن ديننا هو الحق، مع أن دينهم هو عبادة الأصنام، ولا بد أنه سيترك ما هو فيه ويرجع إلينا.
وككل حادثٍ جلل حدث خللٌ بين ضعاف النفوس الذين يتأثرون بالأقوال، حتى رُوي أن هناك بعض من ارتدَّ عن الإيمان بسبب ذلك، كل هؤلاء قال فيهم الله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} فهؤلاء جميعهم سفهاء يعني عقولهم غير ناضجة وغير مكتملة.
ولِمَ ذكر الله المشرق والمغرب؟ لأن اليهود كانوا يتجهون إلى المغرب والنصارى كانوا يتجهون إلى المشرق، والله سبحانه وتعالى عَلِيٌّ عن ذلك، فنحن إذا توجهنا بالقالب إلى القبلة إلا أن القلب لا يتوجه إلا لله، فالمهم هو القلب:{ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} البقرة (142) هو الذي بيده الهداية، ولذلك قال لنا صلى الله عليه وسلم في ذلك في الحديث الذي ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها:
{ بَيْنَمَا أَنَا قَاعِدَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَاسْتَأْذَنَ أَحَدُهُمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَدْرِينَ عَلَى مَا حَسَدُونَا؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُمْ حَسَدُونَا عَلَى الْقِبْلَةِ، الَّتِي هُدِينَا لَهَا، وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْجُمُعَةِ، الَّتِي هُدِينَا لَهَا، وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ آمِينَ }[2]
هذه الأشياء التي يحسدنا عليها اليهود، وهم يعلمون علم اليقين أن ما وُجِّه إليه سيد الأولين والآخرين هو الحق، وعندهم في كتبهم هذه الأنباء واضحة لا لبس فيها.
أمة الوسطية
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أنتم الأمة صاحبة منزلة الوسطية، لا شرقية ولا غربية وإنما إسلامية قرآنية محمدية:{ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} البقرة(143)
رفع الله عز وجل شأننا في هذه الآية حتى أنه جعلنا أعلى من مراتب النبيين والمرسلين السابقين، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح:
إذاً فنحن شهودٌ على الأمم، والنبي شهيدٌ علينا وعلى الأمم، فأعلى الله مقام هذه الأمة وجعلهم في مقام الشهداء إذاكانوا كمن قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم:
ثم بيَّن الله تبارك وتعالى حكمة من حكم تحويل القبلة، ولِمَ جعل القبلة أولاً إلى بيت المقدس:{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } البقرة (143) اختبار وابتلاء وامتحان، وحياة الأنبياء وأتباعهم كلها اختبارٌ وابتلاءٌ وامتحانٌ.
الإسراء والمعراج كان امتحاناً، فمن الأتباع من أنكر ذلك وارتدَّ، ومنهم من زاد إيمانه وصدق حتى لُقِّب بالصديق، وكذلك في هذا الحادث الجلل { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} الذين هداهم الله عز وجل يستمعون بقلوبهم، ولأنهم صدقوا بقلوبهم لربهم ولنبيهم فيقولون: سمعنا وأطعنا، أما أصحاب الخلاف والإختلاف الذين يريدون أن يُحكِّموا عقولهم على الغيب المصون فيُنكرون.
وكيف للغيب أن يُشرق عليه العقل؟! إذا كان الإنسان لا يدري شيئاً عن عقله، فكيف يحكم بعقله على غيب ربه عز وجل الذي خلق عقله؟!.
حفظ الإيمان
دار حديثٌ بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما حال صلاة إخواننا الذين ماتوا وكانوا يتجهون إلى بيت المقدس؟ وما حال صلاتنا التي اتجهنا فيها إلى بيت المقدس قبل أن نتوجه إلى الكعبة المباركة، فقال الله إجابة على هذا السؤال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} اطمئنوا واعلموا علم اليقين أن الذي أمر في البداية هو الله، وأن الذي أمر في النهاية هو الله، وما دام الله هو الذي أمر فالعمل مقبولٌ إن شاء الله؛ ما دام العبد يؤديه بإخلاص قصدٍ لوجه الله عز وجل.
الرأفة والرحمة الإلهية
{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} البقرة (143) لنعلم ونطمئن أنه خاطبنا بأسماء الرأفة والرحمة الإلهية، ودائماً المؤمن عندما يذكر ويتذكر ربه يتذكر أوصاف الرحمة الإلهية.
أوصاف العقاب وأوصاف الجلال للكافرين والجاحدين والمشركين، لكن ليست لنا، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوصاف، فعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
{ أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لا وَاللَّهِ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِوَلَدِهَا }[6]
دائماً المؤمن يتذكر رحمة الله وفضل الله وإكرام الله وعفو الله لأن هذا هو الألْيَق في معاملة الله عز وجل بعباده المؤمنين.
تحويل القبلة
ولأن الله عز وجل يحب حبيبه ومصطفاه فإنه سبحانه رأى ما يدور في قلبه من رغبته في استقبال الكعبة البيت الحرام في صلاته، فأجابه عز وجل إلى ذلك بغير طلب، حيث كان صلى الله عليه وسلم يُصلي الظهر أو العصر في بني سلمة، وبعد أن انتهى من صلاة الركعة الأولى والثانية تجاه بيت المقدس نزل عليه الوحي الإلهي وهو في الصلاة بقول الله تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فاستجاب لها صلى الله عليه وسلم فوراً واتجه في الركعة الثالثة إلى البيت الحرام، وتحول عن الاتجاه إلى بيت المقدس، وتابعه المصلون خلفه في ذلك، وحتى يُثبِّت الله النبي وأتباعه في هذا أخبره أن توجهه إلى الكعبة في الصلاة هو الحق الثابت عند الله.
وقد ذكر ذلك في الكتب السماوية السابقة، وعلى ألسنة الرسل، فقال تعالى في ذلك{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} وحتى لا ينشغل الرسول صلى الله عليه وسلم بأقوالهم الباطلة وليِّهم للحقائق مع معرفتهم للحق قال تعالى: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) البقرة } فهو عز وجل يراهم ويراقبهم ويطلع على أعمالهم الظاهرة، ونوياهم الباطنة.
ثم أراد الله عز وجل أن يجلِّي لحبيبه حقيقةً الأمر حتى لا يشغل نفسه إلا بما يفيد، فأخبره خبراً أكيداً{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} أي بكل معجزة وبكل دليل وبكل برهان فلن يسيروا خلفك ولا يتبعوا قبلتك، لماذا؟ لأنهم يعرفون أنه الحق، وما الذي يمنعهم؟ الحسد الذي عندهم، وما دام الداء هو الحسد فلا ينفع مع الحسد برهانٌ ولا دليلٌ ولا آيةٌ.
{ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} لأنك تعرف أنه الحق اليقين، الحق الذي حدده لك رب العالمين من قبل، وهم كذلك مع بعضهم:
{ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} فلن يمشي أحدهم تابعاً للآخر.
توجيه للأمة الإسلامية
ثم خاطب الله عز وجل الأمة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، عندما يكون هناك رئيسٌ عمل وهناك توجيه لأحدٍ تحت رئاسته فالخطاب يوجَّه لمن؟ لرئيس العمل ولكن من هو المسئول فيه ومن المخاطب فيه؟ المُوجَّه إليه الخطاب، فوجَّه الله عز وجل الحديث للحبيب لأنه أمير هذه الأمة ونبيها وقائدها في الدنيا وزعيمها في الآخرة، ويقصد بالحديث أمة النبي صلى الله عليه وسلم:{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له هوىً إلا في مولاه، وليس له هوىً إلا في رضاه، لكن الذين تتلاعب بهم الأهواء أدعياء الإسلام الذين يظهرون في كل عصر يتمسحون بالإسلام، وهم يريدون في نفوسهم غرضاً خبيثاً أو غرضاً دنيوياً تحت مُسمَّى الإسلام، وهذا معصومٌ منه النبي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وأنتم تعلمون أن أهل مكة عرضوا عليه فقالوا: إن كنت تريد بما جئت به مُلكاً ملكناك علينا، وإن كنت تريد بما جئت به مالاً جمعنا لك حتى تكون أغنانا، وإن كان ما عندك شيء من السحر جلبنا لك الحكماء حتى يطببوك، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه:
إذاً النبي صلى الله عليه وسلم ليس عنده هوى وقد قال الله فيه: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) }(النجم) قوله وحيٌ، وعمله وحيٌ، وتشريعاته كلها وحيٌ، وتوجيهاته ووصاياه كلها وحيٌ، إذاً الخطاب في هذه الآية للأمة.
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) البقرة} أي كل رجلٍ في الأمة يميل بهواه لقصدٍ غير ما يريده مولاه أو حبيب الله ومصطفاه يكون من الظالمين كما نصَّ الله جل في علاه.
معرفة أهل الكتاب بالنبي
وبيَّن الله عز وجل حقيقة أهل الكتاب وقال فيهم: { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } هل يوجد أحدٌ لا يعرف إبنه؟! هم كذلك، دقة الوصف الذي وُصف به النبي صلى الله عليه وسلم على لسان موسى وعيسى وذُكر في التوراة والإنجيل الصحيح يجعلهم يعرفون النبي أكثر من معرفتهم لأبنائهم.
سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسأل عبد الله بن سلام بعد ما أسلم فيقول له: هل كنت تعرف النبي كمعرفتك بإبنك؟ قال: كنت أعرف النبي أكثر من معرفتي لإبني، قال: كيف؟ قال: نزل أمين السماء على أمين الأرض بصفات هذا النبي فصدقناه وعرفناه، لكن إبني لا أعرف حقيقته عند أمه.
فهذا معنى الآية التي ذكرها هذا الحبر من أحبار اليهود:
{ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) } البقرة
وهذا حدث معهم عندما أسلم سيدنا عبد الله بن سلام فقال:
{ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) البقرة } إياك أن تشك لحظة في كلام الله، وأيضاً وهذا الخطاب لأمة النبي: إياكم أن تشكوا في أى شرعٍ أو أى أمرٍ أو أى وصية جاء بها شرع الله، أو جاء بها نبي الله، وهذا الكلام حدث في هذه الأيام التي نحن فيها الآن، وزاد عن الحد من أُناسٍ جهلاء أُعطوا منصَّاتٍ في الفضائيات ويريدون أن يفسروا كلام الله بأهوائهم، وأن يُفتوا في دين الله بضلالهم؛ لأنهم حادوا عن الحق وبعدوا عن الصواب، لكن المؤمنين آمنوا بكل ما جاء به النبي:
ما فهمنا مقاصده فنحمد لله، وما لم نفهم مقاصده عملنا به وتركنا أمره لله، لأن العقل الذي خلقه لنا الله ليس له الإحاطة بالتشريع الذي جاء به رسول الله إلا بقدر ما يعلمه الله جل في علاه.
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أراح الله عز وجل نبيه من جهة هؤلاء، فعرف أنها إرادة الله، فهو الذي يولِّي هذا للمشرق وهذا للمغرب وهذا لليهودية وهذا للنصرانية، ونحمد الله عز وجل على أن وجهنا للديانة الإسلامية الحنيفية فضلاً من الله ونعمة: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (17الحجرات)
{ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (52الشورى).
فنور الله عز وجل الذي يتفضل به علينا الله فضل من الله وإكرام من الله، فأمرنا الله عز وجل أن نستبق فعل الخيرات، ونعمل على زيادة النوافل والقربات، ونستزيد من الصالحات؛ لأننا نعلم علم اليقين أننا في الختام سنُجمع عند الله: { أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} كلنا بعد الفناء وبعد الموت سيجمع الله الكل في يوم معلوم في موقف محتوم لا يستطيع أحدٌ أن يجادل عن نفسه، ولا يستطيع أن يكذب {لأن هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} (44الكهف) وستظهر الحقائق كما هي: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (281البقرة).
حكمة تكرار الأمر بالتوجه إلى البيت
ثم كرر الله عز وجل الأمر للنبي لحكمٍ علَّمها الله عز وجل لمن يشاء من عباده، حتى لا نشك ولا نرتاب أولاً، فقال له: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} يعني حتى لو سافرت لأي مكان: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} تأكيداً على أن هذا هو الحق حتى لا نشك لحظة في أمر الله جل في علاه{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) }ولذلك إذا سافر الإنسان يتحرَّى أن يتجه إلى القبلة، ويحاول قدر استطاعته أن يتجه إلى القبلة، ليس له عذرٌ في ذلك إلا إذا لم يستطع تبين الأمر بياناً شافياً، ففي هذا الوقت يكون عذره { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (115البقرة).
إذا كان الإنسان في سفرٍ ويصلي على أى حالة فعليه أن يولِّي وجهه جهة القبلة ولو لحظة نية الإحرام، ثم بعد ذلك يتجه كما يشاء كما رأى بعض أصحاب المذاهب الفقهية.
أما المذهب المعتمد ففي الفريضة لا بد من الإتجاه إلى القبلة، وفي النوافل يجوز أن يتجه الإنسان مع نية الإحرام إلى القبلة ثم يجلس في الكرسي الذي هو فيه، أو في المكان الذي هو فيه في أى اتجاه، لأنه قد يكون قلبه مع الله وقالبه اتجه في البداية إلى القبلة كما شرع الله لحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
وحتى لا تظن الأمة أن هذا الأمر للنبي كرر الله الأمر وقال: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} يعني اصرف وجهك { شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني تجاه المسجد الحرام، وقال لنا:
{ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} يعني اصرفوا وجوهكم تجاه المسجد الحرام.
كرر الله هذا الأمر ثلاث مرات، لماذا؟ تأكيداً لهذا الأمر وأنه من عند الله، وبعض السادة الأجلاء قالوا: قال صلى الله عليه وسلم:
فإذا كنت في المسجد الحرام فيكون الإتجاه إلى الكعبة نفسها، وإذا كنت في مكة يكون الإتجاه للمسجد وليس للكعبة، وإذا كنت في أى موضع في الأرض يكون الإتجاه إلى مكة حتى يذكر الحالات التي يكون فيها الناس للإتجاه إلى الصلاة في كل أنحاء الدنيا.
لماذا شرفتنا يا رب بهذا الأمر، وأمرتنا به؟ لعدة حكم إلهية ذكرتها ختام هذه الآية القرآنية: أولاً: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} حتى لا يكون لأحدٍ حُجة ويقول أن ذلك من عند النبي، أو أن ذلك رغبة منكم في الرجوع إلى قبلة إبراهيم، وإنما أكَّد الله هذا الأمر ثلاث مرات.
{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} وليس لنا شأنٌ بالظالمين لأنهم يقولون ويهزأون بما يريدون به تحويل الحق باطلاً والباطل حقاً.
ثانياً: { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} حتى تصلوا إلى مقام الخشية، فأساس العلاقة بين المؤمن وربه هي خشية الله، ومن وصل إلى مقام خشية الله فذلك الذي في المقام الأعظم عند الله:
والخشية هي حقيقة الخوف في القلب، وفي باطن القلب من الله، فهذا العالم بالله عز وجل: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (46الرحمن) الذي يخشى الله ولا يخشى الخلق فهذا المقام الأعلى، فقد يخشى الإنسان الله، لكنه يراقب الخلق ويخاف من ملاماتهم وهذا مقام، لكن المقام الأعلى أن يخشى الله ولا يخشى أحداً إلا الله:
ثالثاً: تمام النعمة: { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }فإن الله أتم على المؤمنين النعمة بأن أتمَّ عليهم الدين، واكتملت شرائع الله عز وجل في دين سيد الأولين والآخرين، وجعل الله عز وجل كل ما يريده من خلقه من الأولين والآخرين مجملاً ومفصلاً فيما أتى به سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3المائدة).
فدين الإسلام هو دين الكمال لأن الأرض حدث فيها اكتمالٌ للعقول واكتمال للأجسام واكتمال للقلوب وللنفوس فأنزل الله عز وجل الكمالات الإلهية التي يرجوها من البشرية على يد خير البرية صلى الله عليه وسلم.
وهدى الله هذه الأمة وهو مسك الختام: { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} (البقرة)
ولعلكم تهتدون إلى مالم يهتدي إليه غيركم من الأمم، فقد أرادوا أن يهتدوا إلى الحق ولكن الله عز وجل لدهائهم ومكرهم وحيلهم صرفهم عنه وهدى هذه الأمة إلى الحق المبين.
نسأل الله عز وجل أن يُتم علينا نعمته وأن يتنزل علينا بسكينته وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
[1] الزقازيق ـ مسجد الدعوة إلى الله 11 من شعبان 1436هـ 29/5/2015م