Sermon Details
الإمام الشافعي رضي الله عنه
اليوم أتحدث عن رجل من كُمَّل الصالحين، من العلماء الأولياء، والأولياء العلماء، فكان من كبار العلماء، حتى قال فيه صلى الله عليه وسلَّم قبل ميلاده:
{لا تَسُبُّوا قُرَيْشًا؛ فَإِنَّ عَالِمهَا يَمْلأُ الأَرْضَ عِلْمًا}[1]
وقد حدث، وكان من الأولياء لأنه كان على بصيرة نافذة، وهب حياته كلها للعلم ولله تبارك وتعالى، وهو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه.
الإمام الشافعي كُتب فيه كتب لا تُعد، وسأذكر قصته باختصار شديد، فالإمام الشافعي أبوه كان رجلاً فقيراً، وهو من رهط النبي، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلَّم في الجد الثالث للنبي وهو عبد مناف، وهو الجد السادس للشافعي.
ولذلك يُروي أنه قبل أن يبلغ رأى النبي صلى الله عليه وسلَّم في المنام فقال: ممن أنت يا فتى؟ قال: قلت من رهطك يا رسول الله – يعني من جماعتك يا رسول الله – قال: افتح فاك، قال: فأخذ من ريقه ووضعه على لساني وشفتيَّ، فقام من النوم لا يُلحن قط في نُطق أي كلمة، ولذلك كان بليغاً وفصيحاً.
أبوه كان فقيراً، ومكة كما نعلم في دائرة العمل بلد فقيرة، فانتقل أبوه إلى غزة الموجودة الآن، ووُلد الشافعي في غزة سنة 150 هجرية.
ولكي نعلم قول الله تبارك وتعالى: ” مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ” (106البقرة). يعني الأولياء كالزعماء، كلما مات زعيم قبل أن يدفنوه يكون لهم زعيمٌ آخر، كذلك فكل ولي ينتقل إلى جوار الله فلا بد للتركة التي معه أن يرثها وليٌ جديد من أولياء الله، وهي سُنَّة الله إلى يوم القيامة.
ففي نفس العام الذي انتقل فيه إلى جوار الله سيدنا الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، وُلد الإمام الشافعي رضي الله عنه سنة 150 هجرية.
أُمُّه كانت كنساء العصر الأول تقية نقية، وحريصة على زرع النقاء والصفاء والتُقى في قلب ابنها، فأرسلته ليحفظ القرآن، وكان طفلاً صغيراً، يقول: حفظت القرآن ولي سبع سنوات، وكانت أمي لا تجد ما تعطيه للشيخ، لأن أبوه توفى بعد ولادته بسنتين، وأمه التي تكفلت بتربيته.
وكان قد وهبه الله شدة الذكاء والألمعية، فكان يسمع الشيخ يُقرئ غيره أو يستمع منه، فيحفظ ما يسمعه، فكان يحفظ من أول مرة.
فلما وجد الشيخ سرعة بديهته، وجودة حفظه، ارتضى منه أن يجلس مكانه ويكون هذا بمثابة أجره، يعني إذا ذهب الشيخ إلى قضاء شيئاً له، فمن الذي يجلس مكانه ويُحفِّظ الأولاد؟ الشيخ الشافعي، وهذا كان بديل الأجر.
بعد أن أنهى حفظ القرآن في عمر سبع سنوات، أُمه من فقهها قالت له: هيا بنا نذهب إلى بلدك مكة لتتربى في وسط أهلك، وتأخذ الفصاحة من أهلها، فانظر كيف كان نساء الزمن الفاضل ونساء زماننا؟!! ففي زماننا قد تمنعه من زيارة أهله، وإذا ذهب إليهم قد تخاصمه!!.
فأخذته وذهبت به إلى مكة، وكان بيت الله الحرام معهداً علمياً يُدرَّس فيه الأئمة العظام في الإسلام، منهم من يُدرِّس حديث، ومنهم من يدرس فقه، ومنهم من يدرس تفسير، فكان يتنقَّل بين هذه الحلقات، وساعده – كما قلت – جودة الحفظ.
كان في هذه الآنات كتاب مشهور وضعه الإمام مالك اسمه (الموطأ) والموطأ يعني المؤسس، فيقول: وبعد أن أتممت حفظ الموطأ وعندي عشر سنين أخذ أحفظ الأحاديث، ولذلك يسمى (ناصر الحديث).
أي عالِم يعتمد على ما درسه في معاهد العلم والجامعات فقط، فهذا ليس معه شيء، ولن يكون له شأنٌ في مجتمعه، لكن العالِم الذي يريد أن يكون له شأنٌ ماذا يفعل؟ يُكمِّل نفسه، فينظر إلى مؤهلات العالم ويستكملها.
يعني هو ضعيف في السيرة فيستكمل السيرة، أو ضعيف في الحديث فيقرأ الأحاديث، أو ضعيف في الفتاوي، فيقرأ كتب الفتاوى، وهذا – والحمد لله – النهج الذي مشينا عليه.
فالإمام الشافعي لم يستعجل على الظهور إلا بعد أن ربَّى نفسه في كل النواحي، حفظ الموطأ، وحفظ الأحاديث، وعرف كل المسائل الفقهية، وكان قد وصل إلى سن الخامسة عشرة سنة، حتى أن إمام علماء الحرم في عصره وكان اسمه مسلم بن خالد الزنكي، قال له: أنت تُفتي وقد أذنتُ لك بالفتوى، لماذا؟ لمخايل النجابة التي رآها عليه، فأذن له بالفتوى، لكنه لم يتعجل وقال: أُكمِّل نفسي أولاً، حتى يظهر ظهور ليس بعده خسوفٌ ولا كسوف.
فأراد أن يزيد في فصاحته في اللغة العربية، وكان بين مكة والمدينة أشهر قبيلة من القبائل العربية في نُطق اللغة العربية الصريحة الصحيحة، والتي لم تختلط باللغات الأجنبية، فالجماعة الذين هم في الأطراف كالعراق والشام اختلطوا بالروم واختلطوا بالفرس، فأخذوا كلمات من هؤلاء وكلمات من هؤلاء، فأصبحت لغتهم غير صريحة، وهو يريد اللغة الصريحة الصحيحة.
فاختلط بقبائل هُزيل، ومكث معهم حوالي ست سنين ينتقل معهم، ويحفظ الأشعار، لأنه رأى سيدنا الإمام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما والذي دعا له النبي وقال:
{ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ }[2]
كان إذا سُئل عن تفسير آية في كتاب الله، وفيها كلمة صعبة، فيأتي من أشعار العرب القديمة ما يوضح معنى هذه الكلمة، لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين.
ظل معهم الإمام الشافعي حتى حفظ عشرة آلاف بيت من أشعار هُزيل فقط حتى ينال الفصاحة، غير الأحاديث وغير القرآن وغير ذلك.
همةٌ شديدة، ومن يُريد أن يكون له شأن في هذا المجال عليه أن ينظر لهؤلاء أصحاب الهمم ويمشي مثلهم، فإذا كانت الهمة ضعيفة فلن يصل إلى شيء مثلهم ويكون عادياً.
بعد أن حفظ أشعار هُزيل وعاد إلى مكة لم يُرد أن يُفتي أيضاً، وقال: أذهب لأُصحح الموطأ أولاً على الإمام مالك صاحب الكتاب، وكان لا يزال على قيد الحياة، ويعيش بالمدينة المنورة، ومالك وما أدراك ما الإمام مالك؟! قيل فيه:
يأبى الجواب فلا يُراجع هيبةً |
والجالسون نواكس الأذقان |