الحمد لله الذي جمعنا على حبِّ حبيبه ومصطفاه، وملأ قلوبنا بالتعظيم والحب والرغبة الأكيدة في الوصول إلى أنوار حضرته، والطمع في أن نكون يوم القيامة جميعًا تحت لوائه.
اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد واشرح صدورنا جميعًا للعمل بسنته، ونوِّر أرواحنا بتاج محبته، وانظمنا جميعًا في عقد معيته، واجعلنا جميعًا من الجنود العاملين بنصرة شريعته ووفقنا لأن نسير على نهجه وسنته حتى نفرح به في يقظتنا ومنامنا وحلنا وترحالنا ودنيانا وآخرتنا نحن وإخواننا والمسلمين أجمعين.
أما بعد …. فيا إخواني ويا أحبابي: بارك الله فيكم جميعاً
لم نحتفي بميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
الإمام أبو العزائم رضي الله عنهوأرضاه لخصَّ الإجابة على هذا السؤال في بيتين:
مولد المصطفى حيـــــــاة قلـوب شوقها قد نما بداعي الغرام
مولد المصطفى لروحي بشرى شــــــــــاهدتْهُ فيه بغـير لثــــــــــــام
مولد المصطفى يعيش فيه الصالحون في كل وقت وحين لأنهم يستحضرون دائما أوصافه النورانية، وصفاته القرآنية، وأحواله الروحانية صلوات الله وسلامهعليه عندما يحتفلون بمولده صلوات الله وسلامه عليه، فالسرُّ في ذلك أنهم يستحضرون هذه الأوصاف – مع التعلق بآداب هذه الخصال – ليقوى حبُّهم للتعلق بها، فيكرمهم الله عزَّ وجلَّ فيخلع عليهم شيئاً منها فيقومون بها، لأن التخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالجهاد بقدر ما هو خلع وهبات، يتفضل بها الله عزَّ وجلَّ على مَنْ ملأ الله قلبه بِحُبِّ سيِّد السادات صلى الله عليه وسلم.
التخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم
فالذي يريد أن يتخلق بخلق الصدق – مثلاً – من صفاته الكريمة صلوات الله وسلامه عليه، ماذا يفعل؟ وما الباب الذي يجاهد فيه؟ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [119التوبة]، يجالس الصادقين، ويكثر من مجالسة الصادقين، ليكرمه الله عزَّ وجلَّ ويجعله صادقًا مثل هؤلاء الصادقين. ولذلك كنا نجد الصالحين لهم اهتمام عظيم بهذه الأيام المباركة أيام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحرصوا على إحيائها كل ليلة، وليس ليلة واحدة في العام، خاصة ليالي شهر ربيع بالذات من أول الشهر، لماذا؟ ليتذكروا أوصاف رسول الله، وأخلاق رسول الله، وأقوال رسول الله، فيكرمهم الله عزَّ وجلَّ بنفحة من هذه الأخلاق المحمدية.
وهناك رجل من الصالحين وصل إلى الله عزَّ وجلَّ بشدة تعلُّقه بميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه طوال العام أي مجلس يحضره – في قرية أو مدينة – كان يأمر بقراءة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لماذا؟ لأن قلبه تعلَّق بهذا المقام العظيم. هذا الرجل هو الشيخ عبد الفتاح القاضي – ومقرُّه شبلنجة مركز بنها – رضي الله عنه وأرضاه، وهذا في عصرنا وزماننا الذي نحن فيه، كان مجلسه دائماً في أي مكان يحييه بقراءة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لماذا؟ لأن أقوى باب يعيننا على طاعة الله في هذا الزمان هو استحضارنا الأوصاف المحمدية، والأخلاق الأحمدية، التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالدنيا من بدئها إلى ختامها صراع بين الحق والباطل، وأهل الحقِّ – ما الحقُّ الذي معهم؟ القيم الإلهية والأخلاق الربانية التي توجد في كتاب الله، والتي أمر بها الله عزَّ وجلَّ في قرآنه الكريم، وهذه هي بضاعتهم. وأهل الباطل معهم الأموال، ومعهم المناصب ومعهم الشهوات، ومعهم الحظوظ والأهواء والأشياء التي تميل إليها النفس.
فدائماً تميل النفس لهذه الأشياء؛ تميل للشهوات والأهواء، والحظوظ والراحات والملذات، فكان الصالحون يحيون الإثنتا عشرة ليلة كلها، والإمام أبو العزائم قال لنا: (يتعين – أي: يجب – على آل العزائم أن يحيوا الإثنتا عشرة ليلة الأُول من شهر ربيع الأول كلها). والذي يريد أن يكرمه الله بالفتح يا إخواني لا يفتح لنفسه باب الاعتذار: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [36المرسلات]. ويعمل حسابه ويستعد قبل هذه الليلة بليالي، ويجهز نفسه ويجهز قلبه ويجهز روحه – قبل تجهيز ملابسه – لأنه ذاهب للحبيب صلى الله عليه وسلم، والحبيب صلوات الله وسلامه عليه كما قيل ما ذُكِرَ في مجلسٍ إلا وحضر، وما حضر إلا ولأهل هذا المجلس نظر، ولا نظر لأحد من البشر إلا وكساه مما جمله الله عزَّ وجلَّ من الأحوال الإلهية، والصفات الربانية صلوات الله وسلامه عليه، لأنه كما قال الله في شأنه: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ [24التكوير]، ليس بخيلاً، ولكنه كريم صلى الله عليه وسلم، وكرمه لا يقدر أحَدٌ أبداً أن يصفه!! وقد أشار إلى هذا النعت بعض الصالحين فقال:
ولا تظنوا أن عطاء رسول الله للناس الروحانيين فقط، بل عطاؤه أكثر للظالمين لأنفسهم، فقد قال الله عزَّ وجلَّ لهم: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [64النساء]. فعطاؤه أكبر للظالمين لأنفسهم، حتى أن شفاعته يوم القيامة قال فيها: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي} (الحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه)، لأنه كلَّه رحمة وحنان، وشفقة وعطف، صلوات الله وسلامه عليه.
استحضار أوصاف الحبيب
فالمؤمن في هذه الأيام على الأقل يخلي البال ولا يجعل على البال إلا حبيب الواحد المتعال صلى الله عليه وسلم، يكفيه ما يشغله من مشاغل طوال السنة فيشغل البال في هذه الأيام على الأقل به صلى الله عليه وسلم، حتى يتعلق به فينام مشغولاً به ويقوم مشغولا به ويجلس يطالع في سيرته، ويقرأ في أخلاقه، ولسانه لا يمل من الصلاة عليه، وقلبه دائمًا يستحضر أوصافه فهو مشغول دائمًا في هذه الليالي والأيام برسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه يا إخواني أحوال الصالحين والمتقين في أيام ميلاد سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، ولا شك في أننا في هذا الزمان نحتاج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر لأن الفتن ظهرت في كل زمان وفي كل مكان من أرض الله عزَّ وجلَّ، وكثرت وكانت أولاً في بلاد الكفر فقط ولكنها الآن دخلت بلاد الإسلام، وكانت أولاً في بعض الأماكن من بلاد الإسلام والآن لم تترك بيتًا من بيوت المسلمين إلا وفيها المظهر الذي يظهر الفتن التي تتجدد في كل نفس من أنفاس هذا العصر.
من الذي يُعِينُنَا على الخلاص من هذه الفتن؟ لا يوجد غير أحوال وأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطالما نحن بعيدون عن أحواله الشريفة ولا نستحضر ذاته البهية على بالنا فليس أمامنا شيء يُعِينُنَا على التمسك بالقيم والمبادئ في وسط زحام هذه المادة التي طَغَتْ على كل شيء. لكن المؤمن دائماً أمامه صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول له دائماً: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [48الطور]، أنت أمام عيني دائما، يُعرض عليه مشهد من مشاغل الدنيا يجرُّه لأحوال الدنيا وأحوال أهلها المخزية، ينظر حال رسول الله عندما كانت تعرض عليه هذه الأمور ماذا كان يفعل؟ فيتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما أمره به ربُّه في قوله: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [131طه].
رسالة مكارم الأخلاق
باختصار يا إخواني حتى لا أطيل عليكم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، طويلة ومتشعبة وعريضة الجوانب وهناك من يتكلم عن سيرته النورانية، وهناك من يتكلم عن سيرته في الجهاد، ومن يتكلم عن سيرته في العبادات، ومن يتكلم عن حياته المنزلية، ومن يتكلم عن معاملته لجيرانه وأحبابه وخلانه وأعداءه. أمور لا عدَّ لها ولا حدَّ لها، لكن مهمتنا نحن في هذا الزمان أن نتمسك بالقيم وبالأخلاق التي جاء بها النَّبِيُّ العدنان، وهذا أصعب الجهاد في زماننا هذا!! يسهل عليك أن تقلده في العبادات، لأن هذا بينك وبين ربِّك، لكن إعجازه صلى الله عليه وسلم في زمانه لم يكن في مجال العبادات، حيث كان أمر العبادة حواليهم منتشراً في الأديرة والصوامع المليئة بالرهبان الذين تركوا الدنيا مقبلين على الآخرة وعبادة الله عزَّ وجلَّ، لكن رسول الله صلى اللهعليهوسلم وصل بعدما ذُبحت القيم، وانتهت الفضائل، إلا بقية قليلة كانت في الأمة العربية التي ظهر فيها، لأن الله عزَّ وجلَّ كان يجهِّزُهم لحمل تلك الرسالة وأداء تلك الأفعال.
فالمَدَنِيَّةُ التي كانت حوله: الفرس والروم، ولم يكن عندهم فضائل ولا قيم ولا أخلاق، مع أنهم يمتلكون الحضارة والمدنية، والفنون والأموال، والصناعات والمباني وغيرها من أصناف المادة، كالزمن الذي نحن فيه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه). وفي رواية: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} (أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه)، ليحضر لنا الأخلاق الصالحة التي نحتاج لأن نعيدها من جديد في هذا الزمن الذي نحن فيه، وهذه الأخلاق لا ننقلها من أمريكا أو روسيا لأن هؤلاء القوم قد ذُبحت الأخلاق والفضيلة عندهم وإنما نأخذها من القوم الذين ينظرون لرسول الله ويطبعوا على أنفسهم هذه الأخلاق الكريمة التي جاء بها من عند الله عزَّ وجلَّ فإن الله عزَّ وجلَّ كما جاء في الأثر: {يحب من خلقه من كان على خلقه}.
فأخلاق الله لما لم يكن أحد فينا يستطيع أن يتخلق بها على قدر الله، أظهرها الله على يد حبيبه ومصطفاه في صورته البشرية، ولذلك كما قال الرجل الصالح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال: كنت نائماً فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المنام وسمعت قائلاً يقول: إنه بشر، وآخر يرد عليه ويقول: إنه بشر ليس كالبشر، بل ياقوت بين الحجر. فالياقوت نوع من الحجر، والذهب كذلك حجر، لكن ليسا كسائر الأحجار. قال: فانتبهت من نومي ولساني يقول: محمد بشر ليس كسائر البشر كالياقوت بين الحجر.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أقامه الله عزَّ وجلَّ في حالة البشرية ليظهر على يديه ما يناسبنا من الأخلاق الإلهية، فإذا أردت أن أتخلَّق باسم الله العفو، فلن استطيع أن أصل فيه إلى مقدار عفو الله، إذاً بمَنْ أَتَشَبَّه؟ بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان يعفو، فإنه كان صورة من صور العفو التي كانت في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ما يلفت نظرنا إليه الصالحون رضي الله عنهموأرضاهم حيث عبَّر عن ذلك بعضهم في قوله: (والله ما أكل صلى اللهعليه وسلم إلا لنا، ولا شرب إلا لنا، ولا تزوَّج إلا لنا، ولا نام إلا من أجلنا، لكي يعلمنا كيف نأكل، وكيف نشرب، وكيف نتزوج، وكيف ننام حتى نسير على نهجه وهداه صلى الله عليه وسلم.
أصناف الورثة لحضرته
فهناك من ينشر لسِيرَتِه وهم العلماء، وهناك الناشرون لسُنَّته وهم علماء الحديث، وهناك الناشرون لهَيئَتِهِ وهم إخواننا الذين تشبهوا بظاهره صلوات الله وسلامه عليه، وهناك الناشرون لجهاده، وهم الذين يحثون الناس على الجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ، وهناك الناشرون لِقِيَمِه وأخلاقه وفضائله وهم الصادقون في كل زمان ومكان، وهم الذين ينشرون الأخلاق والفضائل والقيم والمثل والمبادئ التي كان عليها صلوات الله وسلامه عليه، وكيف ينشرونها؟ باللسان؟ لا، بالفعال وبالخصال، وبالأحوال في تعاملهم مع الآخرين، ولو درسنا ديوان الصالحين من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا، لوجدناهم على هذا الهدى والسمت قائمين.
وقد سمعت من رجل من الصالحين في زماننا هذا – وكان أميًا لا يقرأ ولا يكتب – أنه ذهب لزيارة بعض إخوانه في بلدة ومعه جمع من الإخوان، وكان في هذه البلدة العلماء، وفيها الأولياء، وفيها العبَّاد، وفيها من يظهرون المحبة، وفيها من يصيح في حلقات الذكر ويظهر تودده وعشقه، فلما جلسوا وكل منهم يقول بلسانه، وإذا بامرأة – لم تفعل كفعلهم، ولم تصنع كصنيعهم – ذهبت إلى بيتها وجهزت طعاماً لهؤلاء وأتت به إليهم، فقال الرجل: لقد سبقت هذه كل هؤلاء الرجال!! لماذا؟ لأنها تشبهت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين قال الله في شأنهم: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾،والقرار ماذا يا ربِّ؟ ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[9الحشر].
نشر الفضائل المحمدية
فعندما يأتي عالم ويتحدث ويملأ المنابر والمحافل بيانا، ويتحدث عن الفضائل الإسلامية والأخلاق المحمدية؛ ولا يعرف أحد كيفية الدخول إلى بيته، وإذا دخل أحد إلى بيته يجد الشُّحَّ يطلُّ من كل جنباته، فبِمَ يتأسى الناس به؟ بفعله أم بقوله؟ أجيبوا يا إخواني، بفعله أو بقوله؟ بفعله. وهذه هي الأحوال المحمدية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
فنحن محتاجين على أن ننشر هذه الفضائل بالفعال وليس بالكلام وبالخصال والتخلق بما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فقد كان الرجل منهم يفتح المدن بفعلة واحدة عملها لله عزَّ وجلَّ، أو بخُلُقٍ واحدٍ قد تخلَّق به على هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإليكم بياناً واحداً:
دخل جيش المسلمين مدينة سمرقند ولم يرسلوا إلى أهلها في البداية الإنذار المعتاد أن يرسله جيش الإسلام، فقد كانوا دائماً ينذرون من يحاربونهم، بالإسلام أو الصلح أو الجزية، فدخلوا المدينة واستولوا عليها بدون إنذار، وأهل المدينة كان قد سبق إليهم ونما إلى علمهم أحوال جيش المسلمين، فلما وجدوا أن البلدة قد فتحت على غير الهيئة المتعارف عليها عند المسلمين رفعوا الأمر إلى القاضي – قاضي المسلمين – فتناول القاضي حيثيات القضية، ولما تأكد أن جيش المسلمين دخل على غير الهيئة الإسلامية، أصدر قرار المحكمة بأن يغادر جيش الإسلام هذه المدينة ويتركها لأهلها. فخرج الجيش وترك المدينة، فما كان لأهل سمرقند ومن جاورهم إلا أن دخلوا جميعاً في دين الله أفواجاً، رغبة من عند أنفسهم، بغير ضرب ولا شدة ولا إكراه ولا حرب، وإنما دخلوه رغبة في هذا الدين الذي نصر المستضعفين على الغزاة الفاتحين.
كيف ننشر الإسلام؟.
هذا هو نظام الإسلام يا إخواني، نظام الإسلام الذي انتشر به الإسلام، الذي يأمرنا به وعليه المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ننشر هذه الفضائل بأنفسنا، وأن نبدأ فيها بأنفسنا، وأن نُعَلِّمَ إخواننا هذه الأخلاق الإلهية، بأن نبدأ بها أولاً في أنفسنا، ولذلك لا ينفع بيننا المداهنة ولا الرياء ولا المخادعة، بل لابد أن تكون فعالاً صادقة تعبر عن هي النيَّات وعن هذه الأحوال، لأننا نريد أن يكون لنا نصيب في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [29الفتح].
(والذين معه) في كل زمان ومكان، فكل واحد منا يا إخواني مطالب بأن يكون عارضاً للأزياء المحمدية؛ وما هي الأزياء المحمدية؟ الزهد المحمدي، والكرم الأحمدي، والتواضع النبوي، والافتقار إلى الله، والحب الصادق للصادقين من عباد الله، والمواساة في الله، والمؤاخاة في الله، والبذل في الله، والتوادد في الله، والتزاور في الله، والتجالس في الله، وكل ذلك عن صدق ويقين ابتغاء وجه الله عزَّ وجلَّ.
ولو عرضنا هذه البضاعة بصدق لالتف الوجود كلُّه علواً وسفلاً حولنا؛ لأنه لا مخرج في هذا الزمان للناس من أزماتهم إلا بهذه الأخلاق الإلهية، وبهذه المبادئ الربانية، وبهذه التعاليم الروحانية التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكن الناس – وإياك أن تظن أن الناس فيهم غباء – لأنه لا يخفى عليهم حال إنسان، واسمع معي قول القائل:
وهذه هي المشكلة كلها، أن الرجل منا ربما لا يدري العيب الذي فيه، مع أنك تجد أن صبيان المسلمين يعلمون ذلك الخُلُق فيه، لكنهم يدارونه، وإن كانوا يشعرون ويعرفون جميعاً ما به، فالإنسان المؤمن صادق مع نفسه، وأمامه صورة حبيب الله، وخلفها وبينها صورة أصفياء الله وأحباب الله، من صحابة رسول الله والصادقين في كل زمان ومكان.
سَبَبُ حُبِّنَا لشيخنا الشيخ/ محمد على سلامة
ونحن جميعاً لِمَ أحببنا هذا الرجل وعاهدناه، وعشقناه ومشينا حوله، الشيخ محمد على سلامه رضي الله عنه وأرضاه؟. أمن أجل العلم فقط؟ كلا، بل من أجل الأوصاف المحمدية والأخلاق الإلهية التي رأيناها فيه، ومشينا حوله لأننا أحببنا هذه الأخلاق.
فنريد جميعاً أن نشتغل في هذه البضاعة، ونعمل في هذه المعارض المحمدية، وكل رجل يريد أن يفتح توكيلاً في المكان الذي هو فيه ليعرض هذه البضاعة لابد أن يكون صورة صادقة مجملة بأوصاف: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [29الفتح]. والذي يريد أن يشتغل في هذه البضاعة ما مشكلته؟ لابد أن ينال شيئاً من التعب، كأن يسهر في طاعة الله، ولا يعطي نفسه حقها في النوم، ويقدم شيئاً من ماله لربِّه، وأن يكون بيته صورة من بيوت الأنصار مكتوب عليه بالأنوار: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا﴾ [9الحشر]. وأن يكون – في سيره مع إخوانه، ونومه مع إخوانه، أو سفره مع إخوانه- أمام عينيه: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ [9الحشر]. فيؤثر إخوانه بالمكان الطيب في النوم، وباللقمة الهنيئة في الأكل، وهو يفعل ذلك كلَّه ليس تكلُّفاً، لأن لو فعله تكلفاً كان رياءً أو مداهنة، وليس له أجر عند الله عزَّ وجلَّ، وإنما يفعله عن صدق وعن إخلاص: ﴿لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [5البينة].
هذه يا إخواني أوصاف الذين يريدون أن يكونوا عارضين للأزياء المحمدية، ونحن في هذا الزمان في أمس الحاجة لتلكم الأخلاق وهذه الأوصاف، لأن الناس كلَّها ملَّتْ من النفاق، وكرهت أحوال المجتمع، حتى سمعت من أكثر من رجل من الصادقين أنهم في هذا الزمان يستغيثون بما قال به سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمان يَمُرُّ الرجل على قبر أخيه فيتمنى أن لو كان مكانه} (متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه). لماذا؟ لأنه يرى الذين يحيطون به وقد اتصفوا بالنفاق والرياء والدهاء والخيلاء في كل مكان.
والناس على هذا ومع هذا يحنون إلى الصدق – ولو لم يكن حالهم، ويتمنون أن يكونوا من أهل الأمانة – ولو لم تكن بينهم، ويتمنون الإخلاص ويحبون مجالسة المخلصين – ولو كانوا ليسوا منهم، لأن هذه فطرة الله الذي فطر الله عزَّ وجلَّ الناس عليها.
وأعظم بلاء في هذا الزمان أن القوالين فيه كثير، والمتحدثين فيه كثير، والناس قد سئمت الأحاديث وسئمت تردادها في الشرائط وفي الإذاعات، ويريدون أن يروا هذه الأحاديث ظاهرة على هيئات القائلين بها. نريد أن نرى هذه الأوصاف ظاهرة علامات على رجال الله عزَّ وجلَّ، الذين نتعشم أننا جميعًا منهم إن شاء الله، لأن الناس في الدنيا والآخرة في فقر إلى هذه الأخلاق الحميدة، وليس لنا في الدنيا والآخرة رفعة إلاَّ بهذه الأخلاق الكاملة؛ أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخلاق أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُجَمِّلَنَا بأحوالهم، وأن يُخَلِّقَنَا بأخلاقهم، وأن يُكَلِّمَنَا بصفاتهم، وأن يرزقنا المتابعة لهديهم، وأن يوفقنا للسير على مناهجهم، وأن يأخذ بأيدينا وناصيتنا للسير على منوالهم، حتى نكون منهم ومعهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
*************
الخميس 14 من ربيع الأول 1416هـ- 10/8/1995م بمسجد الأنوار القدسية بالمهندسين بالقاهرة بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف