الصوفي الذي يحيط بكل مستجدات العصر ولا تشغله عن الله عزَّ وجلَّ طرفة عين، الصوفي العصري في نظري جالس علي الكمبيوتر، ويطلع علي أحدث مافي الكون، وقلبه يدور مع ربِّ الكون عزَّ وجلَّ، فيجلب المعلومات الأرضية من الآلة التكنولوجية الأرضية، ويجلب المعلومات اللدنية الإلهية بالقلب الطاهر من ربِّ البريَّة عزَّ وجلَّ. فالصوفي يا إخواني هو الذي يأخذ بكل مستحدثات العصر، ولا تشغله عن الله عزَّ وجلَّ طرفة عين ولا أقل، ولكن يأخذها من حلال، فيشتريها بمال حلال، ويستعملها في الحلال، ولا تشغله عن ذي الجلال والإكرام طرفة عين ولا أقل. وهذا هو الجندي الذي نريده في هذا العصر، نريد وليـًّا يقول فيه الإمام أبو العزائم رضي الله عنه: أَضْحَى وليـًّا لَهُ قَلْبٌ وَمَعْرِفَةٌ يَرَي النَّبِيَّ عَيَـاناً حَالَ خَلَوَاتِ
شارك الموضوع لمن تحب
بسم الله الرحمن الرحيم
السالك ماله ومال الحسد ، السالك يغبط ويتمني أن يكون مثل أخيه ، ولكن لا يتمني زوال النعمة عن أخيه، يقول له: إنتظرني يا أخي لنركب معى القطار، فيقول له: لا، اذهب أنت لأني عندي ظروف، وأنا سأسسبقك، فيقول: لعل القطار الذي ستستقله يعطل لكي لا تذهب!! .. ماهذا الكلام!! ولا يحدث حتى مع عوام المسلمين؟!! إنها مصيبة في الثقلين لو حدثت!! لا أريد أن أقول: أن هذا ليس من السالكين، ولكنه من الهالكين، وهذه أيضا مصيبة أعظم لأنه ينتسب إلي الصالحين رضوان الله تبارك وتعالي عليهم أجمعين. فلن تنال الخير عند الله، ولا الوصول إلي حضرة حبيب الله ومصطفاه، إلا إذا إنفطر قلبك علي حبِّ الخير لكل عباد الله، والخير لمن أساء إليك في هذه الحياة.
سألوا سيدنا أبا اليزيد البسطامي رضي الله عنه وأرضاه: ما الفتوة؟ ومن هم أهلها؟ فقال: أهل الفتوة هم الذين يشفعون يوم القيامة في أعدائهم قبل أحبابهم، فلا يقول فيهم: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه )(30:31-الحاقة)، إنه كان يعاديني ويخاصمني، لا … يقول: أدخل هذا – أولاً – الجنة من أجلي قبل الأحباب!! لأنه من خاصة الأحباب، وربنا لن يخزيه في الأحباب، لأنه قد أخذ وعداً من البداية معه. وهؤلاء الناس أعدائي نعم لكن لا مانع من أجلي وقد عفوت عنهم، أدخلهم الجنة من أجلي. وهذه هي الفتوة، عند من؟ عند الشيخ أبى اليزيد البسطامي رضي الله عنه، يعني لا يشمت حتي في الأعداء وليس في الأحباء فحسب.
فالصوفي ليس إنساناً قليل العلم، ضيق الأفق، ويقترب من الصالحين ويعتقد أن مَنْ يمسُّه بسوء أو أذي …… ……. فيعزُّه رب العالمين، لكن الصوفي الذي يحيط بكل مستجدات العصر ولا تشغله عن الله عزَّ وجلَّ طرفة عين، الصوفي العصري في نظري جالس علي الكمبيوتر، ويطلع علي أحدث مافي الكون، وقلبه يدور مع ربِّ الكون عزَّ وجلَّ، فيجلب المعلومات الأرضية من الآلة التكنولوجية الأرضية، ويجلب المعلومات اللدنية الإلهية بالقلب الطاهر من ربِّ البريَّة عزَّ وجلَّ. فالصوفي يا إخواني هو الذي يأخذ بكل مستحدثات العصر، ولا تشغله عن الله عزَّ وجلَّ طرفة عين ولا أقل، ولكن يأخذها من حلال، فيشتريها بمال حلال، ويستعملها في الحلال، ولا تشغله عن ذي الجلال والإكرام طرفة عين ولا أقل. وهذا هو الجندي الذي نريده في هذا العصر، نريد وليـًّا يقول فيه الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
ومع ذلك يعمل علي الكمبيوتر ويستخدم كل المستحدثات العصرية، ويتكلم بما يستطيع من اللغات الأرضية، ليبلغ دعوة ربِّ البريَّة عزَّ وجلَّ، ويلبس أفخر الثياب – ولكن من حلال – ويشكر الله عليها ولا يتفاخر بها علي خلق الله، ولا يزهو بها علي من سواه، ولا يقول: أنا لبست جلباباً ليس علي أحد مثلها، ولا حلة لم يأت بمثلها أحد، ويفرش أفخر الرياش ولكن هذا لا يشغله عن طاعة الله وذكر الله طرفة عين، ويتزوج أجمل النساء – لكن لا يجلس بجوارها وينسي الله – بل تساعده وتقويه وتعينه علي الوصول إلي مراضي الله عزَّ وجلَّ.
فالصوفي في هذا العصر هو المسلم الحقيقي، وهو ما ذكرناه، والذي ملأ الله قلبه بمعرفته، وعقله بعلمه، ووسع فكره علوم عصره، ونطق لسانه بالبيان المناسب واللغة المناسبة لأهل عصره، وهو الذي يسع أهل عصره بماله قبل علمه، وبأخلاقه قبل حاله، ولا يمد يده إلي أحد إستغناءاً بالواحد الأحد الفرد الصمد عزَّ وجلَّ، فيكون أهلاً أن يقال فيه: ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ) (9-الإنسان).
ماذا نطعمكم؟ علماً ونوراً، وهداية وبياناً، وأكلاً ولحماً وفولاً وعدساً وغيره، كل هذا وهذا من أين؟ من فيض فضل الله عزَّ وجلَّ. والعقبة الكئود التي إذا لم يجتازها أي مريد فليعلم علم اليقين أنه سيظل بعيد، ولن يلين الله قلبه إلا إذا ألان الحديد، وهي عقبة حب المال والدنيا. حب المال الذي يجعله يستكثر علي نفسه أن يخرج منه حقوق ربِّه، ويستكثر أن يخرج حتي حقِّ الله – والتي هي الزكاة – ويقول: ما يحتاجه البيت يحرم علي الجامع. من أين أتي بهذا الكلام؟!! لا أدرى!! قال صلي الله عليه وسلم : (هلك الأكثرون ، هلك الأكثرون، هلك الأكثرون، إلا من قال بالمال: هكذا وهكذا وهكذا).
الذي يخرج حق الله في مال الله عزَّ وجلَّ: ( وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ ) (33-النور). هذا المال مال الله، وأنت عندما تخرج من الدنيا ماذا تأخذ؟ لا شيء معك، إلا ما حولته إلي فضل الله وكرم الله. فمن بخل بالمال، فَعَنْ طريق الحقِّ قد مال، وهو بعيد المنال عن تحقيق أي مآل، لأن أول إختبار جعله الله لسالكي طريق الله هو المال، وقال في هذه الحالة الإمام أبو العزائم رضي الله عنه: (أول ما نمتحن مريدنا بالمال فإن نجح فيه فما بعده أيسر منه، وإن رسب فيه فما بعده أشد منه، وإذا نجح في هذا الإختبار فعلي بركة الله يكمل باقي مواد الإمتحان، لم ينجح ، فلماذا يكمل الإمتحان ؟ وعليه أن يُرِح نفسه. { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}(111-التوبة)، فالذي يريد الجنة فلا بد أن يبيع نفسه وماله، فما بال من يرد الله!! فماذا يبع وماذا يعمل؟!! نفسه هذه من أجل الجنة، فمن يرد الجنة يبع نفسه وماله، لكن من يرد الله ماذا يفعل؟!!
فيبذل الروح إن كان يستطيع، فلو كان له سيطرة أو هيمنة علي عالم الروح فيبذلها، وذلك من أجل أن يعلن صدقه في دعواه طلباً لحضرة الله عزَّ وجلَّ.
فالعصر الذي نحن فيه، يمكن لا يوجد فيه عُبَّاد مثله – ماشاء الله، فتجد الرجل قائم الليل كله يقرأ القرآن، وكل ثلاثة أيام لسانه لا يفطر عن ذكر الله عزَّ وجلَّ، لكن أول ما تقول له: إعط شيئاً لله – أى: تصدَّق – يقول: من أين؟ ليس معي شيئاً. فما ثمرة هذه العبادات؟!! ليس لها ثمرة ولا أثر. لكن ما ثمرة العبادات؟ هي أن تَفُكَّ اليد – أي تنفق من مال الله – رغبة فيما عند الله عزَّ وجلَّ.
فأول عتبة – يا إخواني – هي هذه، من يقدر عليها، فيا بُشْرَاه!! فيكونوا قد فتحوا له الباب لكي يمشي في طريق الله، ولكي يبدأ المسير لكي يصل إلى مبتغاه. والذي لا زال واقفا عند هذه الحالة فكيف يسير في طريق الله؟!! فيكون لا زال واقفاً عند دنياه وحظوظه وهواه وشهواته وأهوائه، ويكون ما زال داخل بيته، فمتي يخرج من بيته؟!! وكيف سيسافر؟!! فلا بد أن يخرج من هذا أولاً.
سيدنا أبو بكر كيف أخذ درجة الصديقين؟ بأى شىء؟ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وضَّح وقال: ( ما فضلكم أبو بكر بكثير صلاة ولا كثير صيام، ولكن بشيء وقر في صدره ). ما هو؟ الدنيا لم تكن عنده تساوي جناح بعوضة!! يسمع أن أخاه فلاناً يعذب في الله، فيذهب لصاحب هذا العبد، لماذا تتعب هذا العبد أفلا تبعه لي؟ فيضاعف صاحب العبد ثمن العبد أضعافا مضاعفة، فيشتريه ثم يعتقه لوجه الله، فكلما وجد أحداً من إخونه المسلمين يعذب في طريق الله عزَّ وجلَّ – من العبيد، يذهب ويعتقه. فكم أعتق يا إخوانى؟ من الذي يذكر – من الجماعة العلماء؟ حوالي عشرة!!
وعندما هاجر مع رسول الله صلي الله عليه وسلم، أخذ كل ما يملك من مال، ولم يترك لعياله شيئاً، وتركهم بغير مال، فجاء أبوه – وكان قد كف بصره – فقال للسيدة أسماء: أظن يا بنيتي أن أباك قد خرج، وقد فجعكم بأخذ المال كله معه؟ فقالت له: لا، لقد ترك لنا خيراً كثيرا، فقال لها: أرنيه – والمال كان في هذا الوقت قطع كبيرة – فأحضرت بعض الحجارة ووضعتها في الطاقة التي يضعوا فيها أموالهم، ووضعت عليها قماشة، وقالت له: تعالي وضع يدك عليها، فقال: الحمد لله لقد ترك لكم خيراً كثيرا. وهى حجارة – وباليقين لو أراد الله لهم شيئاً لتحول إلي ذهب.
وكان سيدنا رسول الله يدعو للبذل، فلما جمع كل ما في بيته وأتي به، فقال له: ( ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر؟ فقال له: تركت لهم الله ورسوله). فلم يقل له: لا، أنت أسرفت، أو أنت قتَّرت – لأنه يعلم اليقين الذي عنده. وبهذه الخصلة فاز وجاز، ونال لقب الصديقية العظمي في كتاب الله: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا )(69-النساء). أليست هي – يا إخواني – أم غيرها؟!!
وضَّحَ الحبيب صلوات الله وسلامه عليه أثر هذا الأمر عندما قال سيدناعمر رضي الله عنه: لمـَّا دعا رسول الله صلي الله عليه وسلم للإنفاق في سبيل الله، وكان عندي سعة، فقلت: اليوم أغلب أبا بكر فيه – يوجد تنافس بينهما علي الفوز بفضل الله ورضوان الله، وليس صراعاً علي مَنْ يُنشد ولا من يمسك الذكر، ولا من يكون شيخاً. ماذا تفيد شيخ أوغيره؟ التنافس يكون علي فضل الله ورضوان الله عزَّ وجلَّ – فجاء سيدنا عمر رصي الله عنه بنصف ماله، فقال له النبي صلي الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: نصف مالي، فسأل النبي صلي الله عليه وسلم أبا بكر رصي الله عنه: وأنت يا أبا بكر ماذا أبقيت لأهلك؟ قال له : تركت لهم الله ورسوله، فقال نبيكم : بينكما ما بين كلمتيكما).
إذن فالموضوع معناه هنا السباق، في أي شيء؟ في الإنفاق في سبيل الله، السباق بالإنفاق … السباق بالإنفاق … السباق بالإنفاق: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (9-الحشر). وهذه – يا إخواني – هي النقطة الجوهرية في طريق الله عزَّ وجلَّ، يقول الواحد منا: أنا أريد الكشف، أنا أريد المشاهدات، أريد الرؤيات، أريد ولا يدري ماذا أريد؟
ننظر له في البداية: رجل غايته الدنيا ومتمسك بها، فتكون دعواه كاذبة، وأقواله غير صادقة، لأنه يدعي بغير بيِّنة، ويرتدي جلباب غيره. فالأساس الأول هو الإنفاق، وهذا سر تقديم الأنصار، وتفضيل المهاجرين، ودرجات الصالحين في كل وقت وحين. درجات لمن يا رب؟ قال فيها الحبيب صلوات الله وسلامه عليه : ( إن في الجنة غرفا يري ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، قيل لمن هي يا رسول الله ؟ قال : لمن ألان الكلام ). لا يكلم إخوانه – ولا غيرهم – بخشونة، ولا بصخب ولا بكِبْرٍ، ولا بإزدراء، ولكن باللين والرحمة. قال: (هي لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام). فإطعام الطعام هذا عبادة تدخل بها الجنــة، (وأطعم الطعام)، وفي رواية: (وبذل السلام)، وفي رواية: (وصلَّى بالليل والناس نيام).
يعني آخر شيء: الصلاة، ولكن أولها إلانة الكلام، وإطعام الطعام!! لأن هناك من إذا أخرج قرشاً – يخرج معه خلع الدرس – ويظل يحكي عنه بعد ذلك سنين: أني فعلتُ كذا، وسوَّيتُ كذا، وأعطيتُ فلاناً كذا، وكلما جلس في مجلس يحكي … فما لهذا ولطريق الصالحين؟!!! الصالحون إذا عملوا عملاً لله ينسوه ولا يتذكروه، لأنه عمله لله خالصاً، ويكون عيباً حتي أن يقول عملتُ كذا، ولا يلوكها علي لسانه في أى مكان. وكلما جلس في مكان يقول: أنا فعلتُ كذا وسويتُ كذا!! هذا ليس من آذاب السالكين في طريق الله عزَّ وجلَّ: ( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) (6-المدثر)، وما المَنُّ؟ هو: المعايرة، أو يذكر الشيء علي سبيل المباهاة والفخر، ( لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى ) (264-البقرة)، فلا يَمُنُّ علي أحد لأنه أعطاها لله، ولا يؤذي أحداً – يعني: لا يقول أنا عملتُ كذا ولا سويتُ كذا، لأنه عمل لمن؟.. لله عزَّ وجلَّ.
وهذه الأحوال الخفيَّة، والمناهج غير الظاهرية، والتي يعرج عليها الصالحون إلي فضل ورضوان رب البريَّة عزَّ وجلَّ، فمن أين أتي هذا الكلام؟ من هذه النقطة الجوهرية!! فيبحث له عن منهج خفيٍّ وفيٍّ، ولا يطلع عليه إلا صدِّيق تقي نقي، لكي يكون العمل بينه وبين الله، فيقربه الله عزَّ وجلَّ إلي فضله، ويحبوه بجميل عطاياه عزَّ وجلَّ.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يعيننا علي اجتياز هذه العقبات، وأن يصلح لنا الظواهر والبواطن والسرائر والنيَّات، وأن يواجهنا في كل أحوالنا بجماله وكماله الرباني ونوره البهي.