يقول أحد الصالحين: {الحج إشارة إلى السير إلى الله}.
نرجو التوضيح.
الجواب:
في الحقيقة كل العبادات الإسلامية التي أمرنا بها الله ونستنُّ فيها ونقتدي فيها بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، هي في حقيقتها المعنوية سيرٌ ووصولٌ إلى الله سبحانه وتعالى.
فالحج كالصلاة كلها سيرٌ إلى الله تبارك وتعالى، فإذا نوى الإنسان الحج فعليه أن يخرج من جميع المعاصي والمخالفات، ويتشبه بأخلاق الملائكة عمار الملكوت الأعلى حتى ينطبق عليه قول الله سبحانه وتعالى:
﴿ لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (6التحريم).
فإذا خرج من هذه المعاصي والذنوب والآثام كلها، وانطوى على الطاعات والقربات، دخل في مقام الخُلة الإبراهيمية، فخلع ملابسه الدنيوية، ولبس ملابس الإحرام، يعني أنه حرَّم على نفسه كل الشهوات الحسية، وكل المطاعم الدنيوية، ليعبر من الأرض إلى ملكوت الله، دخولاً في قول الله:
فإذا وصل إلى بيت الله الحرام، وبدأ الطواف، بدأ بتقبيل الحجر الأسعد إن إستطاع، وإلا أشار إليه، ويستحضر العهد الذي عاهد الله سبحانه وتعالى به يوم ألست بربكم، حيث قال الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحجر وهو يخاطبه:
[إنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقبلك ما قبلتك].
فقال الإمام عليٌّ رضي الله عنه وكرم الله وجهه:
[إنه يضر وينفع بإذن الله يا أمير المؤمنين، أما علمت أن الله حين أخذ العهد على الذُرية، ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (172الأعراف).
كتب هذا العهد في كتاب، ثم ألقمه هذا الحجر، فهو يشهد عند الله يوم القيامة لكل من استلمه أو قبله أو أشار إليه].
ثم يبدأ الطواف حول البيت سبعاً، وفي كل مرة من هذه المرات السبع يطوف بجسمه حول بيت الله الحرام، ويطوف بقلبه في نور الملكوت الأعلى لحضرة الله، ويطوف بروحه حول البيت المعمور، ويطوف بنفخته القدسية حول قدس ذي الجلال والإكرام.
فإذا إنتهى من الطواف، صلى ركعتين في مقام إبراهيم لأنه دخل في مقام الخُلة، ولم يقُل الله تعالى: فيه مكان إبراهيم، وإنما قال فيه مقام، ومقامه يعني درجته التي بلغها عند الله بفضل الله وإكرامه، فيدخل في مقام إبراهيم النوراني، فيُصبح عبداً ملكوتياً نورانياً في طينةٍ آدمية، وفي جسم طيني، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإذا نازعته نفسه في هذا المقام، صلى ركعتين خلف المقام يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون، ليتبرأ من كل
فإذا وقف على عرفات عرف نفسه بصفاته العبدية، وواجهه الله عز وجل بجمالاته العلية، فسمع له الدعاء، وحقق له الرجاء، وفتح له كل كنوز الفضل الإلهي، ودعاه للزُلفى والقرب بين يديه، فنزل إلى المزدلفة ليتقرب إلى الله عز وجل بما أودعه الله في قلبه وفؤاده، من العنايات والعطاءات والهبات الربانية على عرفات.
ثم نازعته نفسه فيذهب إلى منى ويرمي جمار الإحتجاب، ويرمي جمار الشهوات، ويرمي جمار الذنوب والمعاصي في مِنى.
ثم يستحضر لقاء حضرة الله فيحلق أخلاقه الذميمة بحلق شعره، وينحر نفسه الأمارة بنحر هديه، ثم بعد ذلك يذهب لطواف الإفاضة الذي يُفيض الله عليه فيه من المعارف الإلهية والأنوار الربانية، ما يعجز عن وصفها أي لسان مهما كان، حيث يرى أن بيت الله هو قلبه، بيت الخليل فيه آثار الخليل، وبيت الجليل هو قلبه المحمَّل بكل آثار الجليل تبارك وتعالى.
فيرى أن الله عز وجل معه في قلبه حيثما توجه وأينما كان:
﴿ أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (115البقرة).
ويعلم علم اليقين أن الله عز وجل معه ويطلع عليه ويراه، فيراقب الله تعالى في كل حركاته وسكناته، فيخلع الله عليه عز وجل أوصافه، فيطوف حول البيت ويتجمَّل بأوصاف الله النورانية في نفسه:
(كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به).
فيودِّع بيت الخليل، ويبقى معه بيت الجليل أينما حلَّ وأينما سار وأينما توجَّه.
وهذا هو العبد المخصوص بالعناية، الذي يواليه الله تبارك وتعالى بالرعاية، ويتكفل به في كل أحواله.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يذيقنا قطرةً من هذا الشراب، وأن يُدخلنا في جملة هؤلاء الأحباب، وأن يتفضل علينا بما تفضل به على أُلي الألباب.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
دار الصفا الجميزه الخميس: 5/8/2021 موافق 26 ذي الحجة 1442 هـلقاء الأحبة على برنامج زووم ـ على الإنترنت