• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:59 PM

Sermon Details

6 أغسطس 2015م

الحلقة الخامسة_ الآداب القرآنيه مع خير البرية_آدب النجوى

هذه الآيات فيها سعادة الفرد والمجتمع لو وعيناها وفقهنا فحواها، وعملنا بالأدب الذي وجَّهنا إليه المولى عزَّ وجلَّ فيها، فقد وجَّهنا الله عزَّ وجلَّ فيها إلى أول أمر وأهمه بالنسبة للمرء في دنياه، الذي يرغب الرفعة وعلو الذكر والشأن عند مولاه في الدنيا وفي أخراه، وهو أن يحاول المرء دائماً وأبداً أن يقيم نفسه في مقام المراقبة الدائمة لحضرة الله جلَّ في علاه، ويخاطب نفسه دائماً بقول ربِّه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)

شارك الموضوع لمن تحب

  قال الله تعالى:

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (7: 13المجادلة)

———————

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله صاحب الفضل والجود، خزائن عطائه وكرمه لكل موجود ممدوة بغير حدود. والصلاة والسلام على النبي الكريم الذي أوصله مولاه إلى أعلى مقامات القرب من حضرة الله، فضلاً من الله ومنَّة، واصطفاءً من الله ونعمة، وجعله صلَّى الله عليه وسلَّم عين أعيان الموجودات، وسر النور الساري في جميع الكائنات، وصاحب المقام الأعظم، والسرِّ الأبهى والأجلى لجميع الصالحين والصالحات في الدنيا ويوم الميقات؛ سيدنا محمد وآله وصحبه وسلِّم.

هذه الآيات فيها سعادة الفرد والمجتمع لو وعيناها وفقهنا فحواها، وعملنا بالأدب الذي وجَّهنا إليه المولى عزَّ وجلَّ فيها، فقد وجَّهنا الله عزَّ وجلَّ فيها إلى أول أمر وأهمه بالنسبة للمرء في دنياه، الذي يرغب الرفعة وعلو الذكر والشأن عند مولاه في الدنيا وفي أخراه، وهو أن يحاول المرء دائماً وأبداً أن يقيم نفسه في مقام المراقبة الدائمة لحضرة الله جلَّ في علاه، ويخاطب نفسه دائماً بقول ربِّه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (7المجادلة).

وكلمة (تَرَ): أي تعلم، ألم تعلم علم اليقين أن الله عزَّ وجلَّ يحيط بك ظاهراً وباطناً، ويعلم ظاهرك ويعلم خفاياك، ويطلع على سرِّك وخاطرك ونجواك، ولكنه عزَّ وجلَّ من عزيز كرمه، ومن عظيم ستره يستر عليك في دنياك لأنه يحبُّك، وقد يكرمك إذا لم تفضح نفسك في الدنيا بأن يستر عليك أيضاً في أخراك، كما أنبأ الصادق الأمين سيدنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم. ونهى الله عزَّ وجلَّ في هذه الآية عن أمر إذا اتصف به المرء حدث بينه وبين من حوله شقاق أو إحن، أو أحقاد أو كره، أو ما شابه ذلك، لأن الله عزَّ وجلَّ حريص على سلامة المجتمعات الإيمانية، فنهى صلَّى الله عليه وسلَّم كما وضَّحت الآية إذا كنا في جماعة عن حديث السرِّ بين رجل وآخر أو أكثر دون بقية الجماعة، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك: (إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ)[1].

وهذا يحدث كثيراً في مجتمعنا الآن، يكون الناس جلوساً ويصطفي كلُّ رجلٍ رجلاً بجواره ويتحدث، والحديث إذا كان على هذه الشاكلة ربما لا يثير دجراً أو مللاً، لكنهم إذا كانوا صامتين ودخل رجل فجأة فالتفت أحدهما إلى الآخر وتهامسا، فإنه فوراً يظن أن الكلام بشأنه، لأنهم تكلموا عندما رأوه، أو عندما مرَّ أمامهما، فنهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن النجوى، والنجوى هي المساررة، أي الكلام السرِّي الذي بين اثنين أو أكثر، ولا يستمع إليه غيرهم ممن هو معهم في نفس المجلس.

(مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)،كأنه عزَّ وجلَّ هو الرابع لهم يسمع ما يدور بينهم: (وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ)، كأن الله عزَّ وجلَّ هو السادس معهم، أي أنه يسمع كل ما يدور بينهم: (وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ)، أي اثنين: (وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)، أي أن الله عزَّ وجلَّ عندما يتناجى قوم فيما بينهم لابد أن يعلموا علم اليقين أن الله عزَّ وجلَّ يطلع على خفاياهم، وما يدور على ألسنتهم، ويعلم مع ذلك عزَّ وجلَّ نواياهم في هذا الكلام، وطواياهم وخفايا قلوبهم.

(ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فإذا أيقن الإنسان أن الله عزَّ وجلَّ يستمع إلى همسه وحديثه السرِّي، وأنه عزَّ وجلَّ سيحاسبه بعد ذلك يوم يلقاه، فهل بعد ذلك تنازع النفس، وتجعل المرء يقع فيما نهى عنه حضرة الله جلَّ في علاه، لا ينبغي أن يكون ذلك للمؤمنين أبداً.

(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (7المجادلة). وهذا تأكيد بأن الله عليم بغيب السماوات وعليم بغيب الأرض، وعليم بغيوب الكائنات، وعليم بغيوب القلوب، وعليم بخفايا الصدور، وعليم بكل ما تستكنه العقول، وما يدور بالخواطر ويجول في الأفكار، لأنه عزَّ وجلَّ عليم بعلم ذاتي، يعلم كل شيء بعلم لا يدركه إلاَّ هو جلَّ وعلا.

أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عندما سمعوا إلى هذه الآيات امتثلوا لها، وائتمروا بأمرها، وعملوا بما فيها، غير الذين لا يوفقهم الله من اليهود والمنافقين الذي يساكنونهم المدينة، وهؤلاء وهؤلاء شيمتهم: (سمعنا وعصينا)، لأن هذه سمة المنافقين واليهود لعنة الله عليهم أجمعين، لكن المؤمنين شيمتهم: (وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، ومع ذلك يقولون: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (285البقرة). فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُرسل أصحابه إلى السرايا الحربية – العدد المحدود – والغزوات، فيمر المؤمنون الذين لم يذهبوا وهم بالمدينة على جماعة اليهود أو جماعة المنافقين، فإذا مروا عليهم تسارروا فيما بينهم، فيظن المؤمنون أن إخوانهم المجاهدين في سبيل الله حدث لهم شيء، أو أنهم قتلوا، أو أنهم هُزموا، أو أنهم حدث لهم أمر غير مقبول، فشكوا ذلك إلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم.

فنهى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم اليهود – بحكم سكناهم معهم – والمنافقين عن مثل هذه الأفعال، عن التناجي والمساررة عندما يمر عليهم نفر من المسلمين، ولكنهم لأن الله صنع نفوسهم من طينة الخبال، وجعل موئلهم في الدار الآخرة إلى النار وبئس القرار -كذَّبوا ولم يؤمنوا به ولم يتبعوا وصاياه، فقال الله عزَّ وجلَّ في شأنهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) (8المجادلة).

والشيخ الشعراوي رحمة الله عليه كان له تأويل لطيف في هذا الباب، فقد أجمع المفسرون أن كلمة (أَلَمْ تَرَ): أي ألم تعلم، لكنه قال: كلمة (تَرَ) بمعناها الظاهر، أي ترى بعين البصيرة، واستشهد بقول الله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) (1الفيل)، أنه رآهم رأي العين، (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) (45الفرقان)، فكان هذا تأويل لطيف منه، وكان من المُلهمين رحمة الله تبارك وتعالى عليه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى)، وهم اليهود والمنافقين، (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، لو كانت النجوى بخير أو في خير فلا مانع، فلم يمنع الله عزَّ وجلَّ النجوى في الخير، فالآيات التي نتحدث فيها الآن تتحدث في النجوى التي حرَّمها الله عزَّ وجلَّ، ومنعها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وسيأتي بيان الله في النجوى التي أباحها لنا الله عزَّ وجلَّ، ولم يحرمها علينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

فالنجوى التي حرَّمها الله ونهى عنها رسول الله التي تسبب ضرراً ظاهراً أو باطناً للآخرين من المسلمين والمؤمنين، والنجوى التي حثنا عليها الله وأمرنا بها رسول الله التي فيها مصلحة ومنفعة للمؤمنين أو للمسلمين أجمعين، كأن نرى إنساناً بيننا، نشعر أنه في حاجة إلى المعاونة، ولا نريد أن نجرح مشاعره، فنستسر فيما بيننا ونحن طائفة لنعاون بعضنا بعضاً ونعينه على هذا الأمر الذي هو فيه، فهذه نجوى أمرنا بها الله. وكاجتماع القادة في الحرب لوضع خطة حربية ينبغي أن تكون سرية حتى لا يطلع عليها الأعداء، وهكذا التناجي في مثل هذه الأمور أباحه الله عزَّ وجلَّ.

لكن النجوى التي تسبب ضرراً ظاهراً أو باطناً، نفسياً أو معنوياً لعباد الله، وهي التي يختص بها المنافقين واليهود نهى عنها الله وقال فيها: (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ)، وصفها بأنها (ْإِثْمِ) لأنها وزر وقعوا فيه، لأنهم خالفوا أمر الله، ووصفها بأنها (عُدْوَانِ) لأنها اعتداء على حرمة أناسٍ آخرين يتحدثون في شأنهم، ووصفها بأنها (مَعْصِيَة) لأنهم لم ينتهوا عن النهي الذي نهاهم عنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

وهناك وقفٌ لطيف يقول فيه بعض السادة القراء: (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ)، كأنه جعلها معصية عامة، فهي أيضاً معصية، فيجوز الوقف عند (وَمَعْصِيَتِ) ، ويجوز قراءة الآية كما هي (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ).

ثم بيَّن الله عزَّ وجلَّ صفة أخرى من صفات هؤلاء القوم؛ اليهود والمنافقين تبين أنهم يبارزون بالعداوة المسلمين والمؤمنين وهذا النبي الكريم الذي اصطفاه ربه وسماه: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (128التوبة)، فقال تعالى: (وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)، كان المنافقون إذا جاءوا إلى حضرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لا يحيونه بالسلام الذي نزل به الله، ويحيونه بتحية الجاهلية؛ فيقولون نعمت صباحاً أو نعمت مساءً – مثلما أخذنا نحن الآن من أهل الغرب مساء الخير، ومساء النور – فكانوا في الجاهلية بقولون نعمت صباحاً ونعمت مساءً، أي صباحك أو مساءك ناعم، أحياناً كانوا يختصرونها فيقولون عمت صباحاً أو عمت مساءً.

فكانوا يحيَّون النبي بهذه التحية، مع أنهم يعلمون أن تحية الإسلام السلام: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) (44الأحزاب)، لكن ليدلوا على عفن قلوبهم وعلى نتن نفوسهم وعلى عدم توفيق الله عزَّ وجلَّ لهم، فإن الإنسان يظهر من فلتات اللسان، ولذلك قال له الرحمن عزَّ وجلَّ: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (30محمد)، لا يستطيع أن يكتم ما بداخله، فيخرج منه أي كلمة لتبين طبيعته ومعدنه الذي جعله الله عزَّ وجلَّ عليه.

واليهود كانوا أذكى من المنافقين، كانوا يريدون أن يحيوه بتحية تشابه تحية الإسلام في ظاهرها، وهي سبٌّ ودعاءٌ عليه في باطنها، لأنهم أهل حيلة ومكر ودهاء، فكانوا يقولون: السام عليكم، والسام أي الموت، وكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أفطن الفطناء وأذكى الأذكياء، فكان يقول: (عليكم).

نحن في تحية الإسلام عندما يقول المرء لأخيه (السلام عليكم) بلسان الجماعة لأنك تحييه وتحيي من معه من الحفظة الكرام، وينبغي أن يرد عليه ويقول لتكون التحية إسلامية (وعليك السلام ورحمة الله وبركاته) بالواو، لكن إذا قال (عليك السلام) فقد رد السلام – الذي أعطيته له – عليك، وليس له نصيب، لكن الواو تعني المشاركة، أي نحن الإثنان نشترك في السلام، وهذه معظم المجتمع يقع فيها، ولا يراعيها كثير من المؤمنين والمسلمين، فإذا سبقتها بالواو فقد أشركته معك في السلام، والسلام يعني الأمان من الله في الدنيا؛ من غضب الله، ومن عقاب الله، ومن وباء أنزله الله، ومن سخط يُرسله الله، وفي الآخرة من عذاب الله، ومن مواقف القيامة وخزيها إن شاء الله رب العالمين.

فلابد أن ترد وتقول: (وعليك السلام) بالواو، وقد تكون حييته بمثلها، وإذا قلت (وعليك السلام ورحمة الله) فقد حييته بخير منها، وإذا زدت (وبركاته) فهذا أفضل منها، وهذا هو الأفضل بالنسبة للمؤمنين أجمعين، وإذا أردت أن أقول له أهلاً، أو صباح الخير، أو غير ذلك فبعد السلام.

وهذا الأمر للغريب أو للقريب أو للحبيب أو لأهل البيت، عندما يدخل الإنسان بيته يقول: (السلام عليكم)، إن كان لزوجته أو ابنته أو ابنه أو مَنْ في المنزل، وإذا دخل المسجد يقول: (السلام عليكم)، وإذالم يجد أحداً في المسجد أو المنزل يقول: (السلام من الله علىَّ وعلى عباد الله الصالحين)، لأن كل مكان فيه عباد لله صالحين إن كان من الملائكة أو من الجن أو غيرهم: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) (44الأحزاب).

فكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عندما يقول له اليهود: (السام عليكم) يقول: (عليكم) ولا يأتي بالواو، ولذلك سمعتهم ذات مرة السيدة عائشة ففطنت، كما ورد: (دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: قَدْ قُلْتُ: عَلَيْكُمْ)[2].

ردَّها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الرفق حتى يُعَلِّم المؤمنين أجمعين إلى يوم الدين – أن المؤمن لا يستثار لمثل هذه الأمور، وينبغي أن يأخذها بالرفق والهوادة واللين، لأن هذا شأن المؤمنين أجمعين في كل وقت وحين.

الإمام عليٌّ رَضِيَ الله عنه وكرَّم الله وجهه وصل إلى مقام في الحلم لا يستثيره أحد، لأنه كان يتعامل مع الله، حتى أنه عندما كان في إحدى الغزوات وبينه منازلة وبين أحد الكفار، ورَفَعه – بعد أن كُسرت السيوف وماتت الخيول تحتهما – وألقاه لمس أكتاف، وركب فوقه وأخرج خنجره ليقتله، فبصق الرجل في وجهه ليستثيره فقام وتركه، فعجب الرجل وقال: لِمَ تركتني بعد أن تمكنت مني؟، قال: كنت أحاربك لله، فلما بصقت في وجهي خفت أن أقتلك انتقاماً لنفسي، وليس طلباً لمرضاة الله عزَّ وجلَّ، قال: وهل تراقبون الله في هذه المواقف؟ قال: وأدقَّ منها.

وأراد قوم أن يستثيروه يوماً فأجَّروا رجلاً من السفهاء مشى خلفه وأخذ يقذفه بأقبح الألفاظ وأشنع الكلمات، وهو لا يلتفت إليه فلما وصل إلى الشارع الذي فيه منزله وقف وقال: يا هذا إن كان بقي عندك شيء فهاته، حتى لا يسمعك أحد أولادي فيؤذيك، وكان هؤلاء الذين يريدون أن يمتحنوه يتابعوه، فتعجبوا، فقالوا له: لِمَ لم تغضب يا إمام؟ فقال: 

              يخاطبني السفيه بكل قبح      فأكره أن أكون له مجيباً

        يزيد سفاهة وأزيد حلماً               كعود زاده الإحراق طيباً

هؤلاء القوم كانوا يذهبون إلى الصالحين – وهناك قصص لا تعد ولا تحد في هذا المنوال لتقيسوا أحوالكم وتعرفوا شئونكم – الإمام الشافعي رَضِيَ الله عنه ذهب إلى خياط ليخيط عنده ثوباً، فذهب قوم إلى هذا الخياط ودفعوا له مبلغاً كبيراً، وطلبوا منه أن يجعل إحدى كميه وهو اليمين ضيقاً، واليسار واسعاً، وانتظروا اليوم الذي يذهب فيه للخياط ليقيس ثوبه، والإمام الشافعي كغيره من الصالحين ينظرون الأمور كلها من الله، لأنهم يعرفون أن مسبب الأسباب هو الله، وأن الفعال لما يريد بواسطة الأسباب وبغيرها هو الله جلَّ في علاه: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) (30الإنسان)، فعندما لبس ثوبه قال: أحسنت .. كأنك كنت تعلم ما في نفسي، قال: وما الذي في نفسك يا إمام؟ قال: عندما كنت أمسك القلم لأكتب باليمين كان كُمِّي الواسع يضايقني، فالآن صار ضيقاً لا يضايقني، وكنت عندما أحمل الكتاب بيدي وأعرق، يتأثر بالعرق فيتغير فالآن أضعه في كمي هذا الواسع فلا يتأثر بالعرق!!.

هذه أحوال الصالحين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.

فهؤلاء القوم المنافقين واليهود والظالمين، ومع هذا يأمر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم زوجته التقية النقية وسائر المسلمين أن يكونوا رفقاء في كل أمورهم حتى ولو بأعداء هذا الدين، وبمن يريدون أن يسببوا لهم أذى أو ضيقاً أو سفاهة، لأن الله قال له ولنا: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (199الأعراف)، ولكن زاد هؤلاء في سفههم، وقالوا في أنفسهم ولمن حولهم: لو كان هذا رسول لعذَّبنا الله لعدم إطاعته في النجوى، وبعدم إطاعته في السلام: (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ).

نفس الأمر لمن يختبرون الأولياء والصالحين في كل زمان ومكان، يؤذونوهم ويقولون لو كانوا أولياء يُظهرون لنا كرامة، أو يُظهرون لنا شيئاً من الأذى، يحدث هذا في كل زمان ومكان، وهي نفس حجج اليهود والمنافقين، فمن يقع في ذلك فقد وقع في هؤلاء وأصبح منهم، حاشا لله عزَّ وجلَّ أن يكون أحد من إخواننا منهم أجمعين.

ثم قال الله عزَّ وجلَّ لهم: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، وحَسْبُهُمْ: أي يكفيهم، ماذا يريدون غير جهنم؟ و يَصْلَوْنَهَا: أي يدخلونها ويصطلون بنارها، وبِئْسَ الْمَصِيرُ أي دخول جهنم والعياذ بالله عزَّ وجلَّ.

ثم يوجِّه الله عزَّ وجلَّ المؤمنين إلى المناجاة التي يحبُّها الله عزَّ وجلَّ ويحثُّ عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ)، إياك أن تكون المساررة بينك وبين أخيك فيها غمز أو لمز، أو غيبة أو نميمة، أو سبٌّ أو شتم أو لعن لأحد من إخوانك المسلمين، لأن الله عزَّ وجلَّ يغار على المسلمين، ويكفي قول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)[3]، والمؤمنون كلهم أولياء لله عزَّ وجلَّ.

(فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) ونحن شرحنا معاني هذه الآية وقلنا أن الإثم هو الذنب والوزر، والعدوان أي الاعتداء على حرمة الآخرين، ومعصيت الرسول أي مخالفة الأوامر والتشريعات التي جاء بها الرسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم.

بِم نتناجى يا رب؟ قال عز شأنه: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى)، التناجي بعمل فيه برّ، فيه خير، نريد أن ندير مشروعاً خيرياً ومعنا في المجلس جماعة في الفقراء قد يقعون في الحرج إذا كان الحديث أمامهم لأنهم لا يستطيعون المساهمة في هذا العمل، فلا مانع من هذه النجوى على أن لا يشعرون بأن هذه النجوى تمسُّهم أو تصيبهم بحزن أو أذى، وكما قلت: كل ما يمسُّ أمن الدولة، أو الأمور الحربية، أو الأمور التي لا ينبغي أن يطلع عليها الصغار؛ أمور تخصُّ الكبار، أو تخصُّ الأخيار والأطهار، كل هذه الأمور حثَّنا عليها الله، ولم يحرمها علينا: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (9المجادلة)، حتى نعرف ونراقب أننا سنُحشر يوم القيامة إلى الله، ويحاسبنا على كل قول قلناه، أو فعل أو عمل عملناه سبحانه عزَّ في علاه.

(إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ): كلام السرِّ في الأصل إيحاء وإيعاذ من الشيطان إذا كان في الشرِّ والإثم والعدوان، (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا): إذا تناجوا لأنهم يتألمون بعد النجوى لما حدث منهم، أو في القراءة الأخرى: (لِيُحْزِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) الذين يرون من يتناجون فيحزنون لأنهم يظنون أنهم يناجون في شأنهم، فالآية عبَّرت عن الاثنين معاً، عن الفاعل والمفعول.

ثم يُطَمئن الله عزَّ وجلَّ المؤمنين بأن ما يفعله المنافقون واليهود من النجوى لا يضر المؤمنين شيئاً: (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، تأكدوا واعلموا علم اليقين أنه لن يقع ضرر عليكم أبداً من مساررة المنافقين واليهود لأنكم تتوكلون على الله، ومن توكل على الله كفاه (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (10المجادلة).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

[1] صحيح مسلم وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ الله عنه

[2] سنن النسائي

[3] صحيح البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ الله عنه


1     المعادي ندوة دينية بعد صلاة العشاء بمقر الجمعية العامة للدعوة بحدائق المعادى القاهرة  الخميس21 من شوال 1436 هـ الموافق 6/8/2015م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid