الحمد لله الذي لم ينسَ من ذكره، ويزيد من فضله وجوده وخزائن كرمه من شكره. والصلاة والسلام على سيِّد الذاكرين سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد …
أيها الأخوة الكرام: إن أهم عبادة أوجبها الله عزَّ وجلَّ علينا، وتدور فى كل الفرائض المفترضة، هى ذِكْرُ الله عزَّ وجلَّ، فإن الله عزَّ وجلَّ جاء على الغاية العظمى من العبادات الإسلامية وهى ذكر الله تبارك وتعالى، فأما فى الصلاة فقال سبحانه وتعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (14طه) وقال عز شأنه: (أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ) (114هود)، (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) (45العنكبوت).
فبيَّن عزَّ وجلَّ أن الغاية من فريضة الصلاة هى ذكر الله، وكذلك عبادة الحج، وكذلك عبادة الصيام. فأما عبادة الحج فقال فيها ربُّ العزة تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) (200البقرة)، فجعل الغاية فى فريضة الحج هى ذكر الله تبارك وتعالى، ومن ضمن الذكر التكبير، وجعل الغاية من عبادة الصيام حيث يقول عزَّ وجلَّ في آخر آيات الصيام: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (185البقرة).
ولما كانت عبادة الذكر هى لب العبادات الإسلامية خصَّها الله عزَّ وجلَّ بالمزيد فى الآيات القرآنية، فنادى الله عزَّ وجلَّ عباده المؤمنين وقال لهم – وهو أصدق القائلين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (41الأحزاب).
وعبادة الذكر – يا إخواني – لها أنواع عديدة؛ فالصلاة ذكر لله تعالى، وتلاوة القرآن ذكر لله تعالى، والتسبيح والتهليل والتكبير والحوقلة – أي: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم) – كلها ذكر لله عزَّ وجلَّ، وكذلك الإستغفار ذكر، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لله تعالى – لأن الذي يقول: (اللهم صلِّ على سيدنا محمد)، فهو يوكِّل فيها حضرة الله عزَّ وجلَّ أن يصلى بذاته على حبيبه ومصطفاه، فيبدأها بكلمة: (اللهم صلِّ على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم)، فكلمة: (اللَّهُمَّ) معناها: (يا الله)، وهي ذكر لله تعالى – وكذلك كل طاعة فيها تذكر لجلال الله، ومراقبة لحضرة الله، وخوف القلب وخشيته من مولاه، هى ذكر لله عزَّ وجلَّ.
وأعظم من ذلك كله ما أشار إليه الحديث النبوى أن موسى عليه السلام قال: {(يا ربِّ، خصَّني بعبادة أعبدك بها لا يعبدك بها أحد سواى، فقال: يا موسى، قل: (لا إله إلا الله)، فقال موسى: يا ربِّ كل عبادك يقولون: (لا إله إلا الله)، ولكن خصنى بشيء أذكرك به فى نفسي. قال: يا موسى، قل: (لا إله إلا الله)، ثم قال: يا موسى لو كانت السموات والأرض فى كفة و(لا إله إلا الله) فى كفة لرجحت كفة (لا إله إلا الله)}[1]. فأعظم الذكر: (لا إله إلا الله)، وإلى ذلك يشير الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو واقف على عرفات يوجه أصحابه إلى أفضل ما يناجون به ربهم فقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله)[2].
وذكر الله عزَّ وجلَّ – يا إخواني – يقول فيه الإمام عبدالله بن عباس رضى الله عنهما: ((كل عبادة فرضها علينا الله عزَّ وجلَّ جعل لبعضٍ العذر فى عدم القيام بها، إلا ذكر الله عزَّ وجلَّ)). فالصلاة مثلاً للمؤمن أن يصليها قاعداً إن لم يستطيع أن يصليها من وقوف، وله أن يصليها نائماً إن لم يستطيع أن يصليها من قعود أو من وقوف، والصيام يرفع فى وقت عن المريض ليؤديه فى وقت آخر، والحج لمن استطاع إليه سبيلا، والزكاة لمن يملك النصاب، أما ذكر الله عزَّ وجلَّ فلا عذر للمؤمن فى تركه فى لحظة في ليل أو نهار، لأن الله عزَّ وجلَّ لم يستوجب لذكره هيئة مخصوصة، أو مكان معلوم، بل يستطيع الإنسان أن يذكر الله إن كان متوضأ أو على غير وضوء، إن كان فى بيت الله أو حيثما حلَّ فى أى أرضٍ من أرض الله، عملاً بقول الله عزَّ وجلَّ فى محكم التنزيل: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ) (191آل عمران). بل إن العبادة الوحيدة التى أباح لغير الطاهر الطهارة الكلية أن يقوم بها لله تعالى هى ذكر الله تعالى، فإن المؤمن إذا كان على حالة الجنابة أو الحدث الأكبر لا يسمح له بتلاوة القرآن، ولا تباح له الصلوات الخمس، ولا أي عبادة من العبادات، أو طاعة من الطاعات، ولكنه يباح له فى هذه الحالة ذكر الله عزَّ وجلَّ، بل إن الله سبحانه وتعالى من فضله وجوده وكرمه دعا خلقه إلى ذكره فى كل حال ينتابهم فى حياتهم الدنيا فقال عز شأنه: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) 152البقرة).
أي اذكروني إذا كنتم متلبسين بالمعاصى أذكركم بإسمي الغفار فأغفر لكم الذنوب والأوزار، وأذكروني فى حالة الهمِّ أفرج عنكم بذكري لكم هذا الهمَّ، وأذكروني فى حالة الفقر والضيق أذكركم بتيسير الأقوات والأرزاق، وأذكروني فى حالة القتال مع الأعداء أذكركم بتحقيق النصر والثبات مع الأعداء، لقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (45الأنفال).
وكذلك إذا ذكر المؤمن الله عزَّ وجلَّ فى أى حالة من حالاته يكون ذكر الله تعالى له بما يناسب هذه الحالة من احتياج المؤمن لمولاه، وما يطلبه من كنوز فضل الله، وكان ذلك سرَّ قول حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة)[3]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اجعل صمتى فكراً، ونطقى ذكراً، ونظرى عبرة)[4]. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهب لنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وبدنا على الطاعات لله صابراً. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
**********************
[1]رواه ابن حبان والحاكم عن أبي سعيد رضي الله عنهTop of Form
[3]روى الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن سرَّه أن يستجيبَ الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء).