وافى ربيعٌ لنا بالخير والبُشرى فيه لقد أشرقت شمس الهدى الكبرى
وغداً إن شاء الله غُرة ربيعٍ الأول شهر الأنوار وشهر الأسرار وشهر علُوِّ الحب في القلوب، قلوب الأخيار والأبرار لحضرة النبي المختار صلى الله عليه وسلَّم.
اللهم صلِّ وسلَّم وبارك على حضرته، صلاةً تكشف بها عنا كل حجاب، وترقينا فيها لكي نكون مع أُولي الألباب، الذين يتمتعون بالنظر إلى وجه حضرته في الرواح وفي الإياب، في الدنيا والآخرة في اليقظة والمنام في الحل والترحال، حتى نكون معه ومع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين آمني يا ربب العالمين.
أيها لأحبة:
بارك الله تعالى فيكم أجمعين.
يقول الإمام أبو العزائم رضي الله تبارك وتعالى عنه في حكمة عليه عن الحضرة المحمدية في كتابه {الطهور المدار على قلوب الأبرار}:
[معلومٌ أن أول الإرادة آخر العمل].
وأول مراد الله تعالى هو حبيبه مصطفاه صلى الله عليه وسلَّم، وسبق في علمه أنه حبيبه ومصطفاه، وأنه الإنسان الكلي الممد لجميع العوالم صلى الله عليه وسلَّم.
كثيرٌ من الأحباب يقرأون هذه العبارة فتستغلق عليهم في الفهم:
أول الإرادة آخر العمل، ما معناها؟
أنا أريد أن أبني منزلاً فأُحضر المكان، وأُحضر مواد البناء، وآتي بالمهندس ليرسم لي هذا البناء، وأقوم بإحضار من يقوم بإتمام البناء، فإذا تم البناء يكون قد تم هذا العمل الذي كنت أريده، وهو الإرادة.
الإنسان الذي يريد أي شيئ، يكون آخر شيئٍ تحقيق هذه الإرادة، لأنه يسعى بكل ما في وسعه لتحقيقها.
والرسول صلى الله عليه وسلَّم هو مراد الله تعالى من جميع الكائنات، فهو الحبيب المصطفى، وهو الممد لجميع العوالم العلوية، والعوالم السفلية من قبل ومن بعد، ورُوي في هذا حديثٌ صحيح رواه الإمام محمد بن سهل في تفسيره للقرآن الكريم قال فيه:
(يقول الله تعالى: إني خلقتُ محمداُ لذاتي، وخلقت آدم لمحمد، وخلقتُ كل شيئٍ لبني آدم) ـ أي أن كل شيئٍ في الوجود عاليه ودانيه، خُلق من أجل الإنسان:
والإنسان ـ هذا الإنسان سر تكوينه ونشأته هو أن الله عز وجل أظهر حبيبه فأراد أن يُظهر جماله في الأكوان، فخلق الإنسان ليظهر الله تبارك وتعالى بجماله في حبيبه مُفرداً، ويُظهر من حبيبه في جميع بني الإنسان، فهو سر الجمال الإلهي الذي إنتشر في الأكوان عاليها ودانيها.
ورسول الله صلى الله عليه وسلَّم كي نُفصل هذا الكلام، له مبنى: وهو ظاهره وهو جسمه.
وله معنى: وهو معانيه الباطنة من القلب والروح والفؤاد والسر والخفى والأخفى والنفخة القدسية الإلهية.
فكل ما ظهر من الحضرة الخِلقية، أو من الحضرة الجسمانية، يُسمى في حضرته:
{الأُفق المبين} وكل ما ظهر من الأحوال العلية من الحياة الروحانية ومن الأعضاء العُلوية في ذاته البهية، فهذا يُسمى {الأُفق الأعلى}.
فجعله الله سبحانه وتعالى في بشريته أكمل إنسانٍ في كل شيئ، لأن الله عز وجل جعله الممثل بمبناه بجسمه حقيقة ما يُقرب إلى الله تعالى في جمال العبودية، فيظهر على هذا الجسم جمال العبودية لله، الذي يُحبه الله من العبيد أجمعين:
فجعل هذا الجسم جمال العبودية مشعاً وظاهراً فيه لمن أراد أن يكون قريباً ومقرباً من خالقه وباريه، فيقتدي به في ظاهره في جمال العبودية، ليكون مقرباً للحضرة الإلهية.
والله سبحانه وتعالى له مرادٌ من العبيد، وأكمل مرادٍ يُحبه الله أظهره على مبنى حبيبه ومصطفاه، ليتجمل به، لمن أراد أن يكون من المقربين والأطهار والأخيار إلى حضرة الله سبحانه وتعالى.
والجمال الظاهر هذا جمال العقيدة، وجمال العبادات، وجمال الأخلاق، وجمال المعاملات، لن تجد أكمل في البشرية كلها إنساناً يظهر فيه جمال هذه الكمالات، إلا سيد السادات صلى الله عليه وسلَّم، وعلينا أن نقتدي به في المظاهر الجسمانية، ونتأدب بأدب العبودية لله تبارك وتعالى.
ولذلك لأن الله جمله بما يحبه ويرضاه، جعله أكمل إنسان حتى في وجوده الظاهر في صورته البشرية:
وأجمل منك لم ترَ قط عيني وأكمل منك لم تلد النساء
فحتى صورته البشرية كانت أكمل الكمال في جميع الصور السابقة واللاحقة، لأنه صورة الحق التي جملها بمرادات الحق من الخلق تبارك وتعالى.
ووصف ذلك ـ وصف هذه الصورة شرحناه بالتفصيل في كتبنا عن الحقيقة المحمدية وعن الحضرة الأحمدية، وقال فيه الله عز وجل: قل لهم:
إنما أنا بشرٌ مثلكم، يعني لا يُعجزكم أي أمرٍ في التشبه بي، لأن الله يدعوكم إلى التشبه ببشريته، في العقيدة والعبادات والأخلاق والمعاملات، والعبودية لحضرة الله سبحانه وتعالى من التواضع والذُل والمسكنة في حالة مناجاة الله والدخول على الله سبحانه وتعالى.
ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى لمن يدَّعي أنه يُحب الله أن يأتي بدليلٍ على حبه لله، وأكبر دليل على حبه لله هو متابعته لسيدنا رسول الله:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي ﴾ (31آل عمران).
فأكبر دليل على محبة الله، هو المتابعة لحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
وبين صلى الله عليه وسلَّم فضله الذي شعَّ من حضرته على جميع العوالم، فقال سبحانه:
والرؤف هو الله والرحيم هو الله، ولكن لأن الحبيب صلى الله عليه وسلَّم فنى في ذات مولاه، جمله الله سبحانه وتعالى بهذه الأسماء الحُسنى التي فيها حرصٌ على البشرية كلها من الضلالة والغواية، والرغبة في هداية الناس أجمعين إلى الله رب العالمين، حتى أنه كان يحزن عندما لا يستجيب له أحد الكافرين، يحزن لأنه سيذهب به إلى النار وإلى دار البوار، فقال لله عز وجل له:
وهذا من فرط رأفته، ومن شدة رحمته بالخلق أجمعين صلى الله عليه وسلَّم.
وأكمل الله تبارك وتعالى له الجمال ليعلم جميع أهل الكمال، أن من أراد أن يكون له عند الله منزلةً وجاه، فليقتدي بسيدنا رسول الله في عطاء الله له في قوله: وإنك لعلى خُلقي عظيم.
وخُلق مضاف وعظيم مضاف، يعني إنك لعلى خُلق الله تعالى، فيقتدي به في أخلاقه، ليجمله الله ويفيض عليه خالص أوصافه، فيكون عبداً ربانياً يقول للشيئ: كن فيكون.
وكذا أثبت الله تبارك وتعالى له الشفاعة في الدار الأُخروية وفي الحياة الأخروية، ووعده بأنه لا يُخزيه في أي طلبٍ يطلبه.
﴿ يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ﴾ (8التحريم).
يعني أي طلبٍ يطلبه لأي عبدٍ فإنه مجابٌ عند الله تبارك وتعالى.
بل إنه وعده أنه سيُرضيه في كل ما يطلبه، فقال عز وجل:
أما أفق الكمالات الإلهية التي خصَّ بها الله خير البرية، وهي الأُفق الأعلى، فإن الله سبحانه وتعالى بيَّن أحوال هذا النبي الباطنية، ومنزلته القدسية عند رب البرية، فقام الله بذاته بالنيابة عن حضرته بمبايعة الرسل والأنبياء السابقين قبل بيعة ألستُ العامة لجميع العالمين، وهي قول الله:
﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ـ الذي أخذ الميثاق للنبيين أن يتبعوا وينصروا الله هو الله بذاته.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ـ أي عهدي ـ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (81آل عمران).
فكون الله تبارك وتعالى بذاته الجلالية الكبريائية يأخذ العهد على جميع الأنبياء والمرسلين لحضرته، دليل على رفعة قدره ومقداره عند مولاه، ودليل على عُلو منزلته عند ربه تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك أقام حبيبه مقام نفسه في البيعة الرضوانية، عندما بايع أصحابه بيعة الرضوان التي رضي الله عنها:
رضي الله عن هذه البيعة، ماذا قال الله تبارك وتعالى عن الحبيب وهو يبايعهم بالنيابة عن مولاه مع التنزيه الكامل لحضرة الله:
لم يقُل كأنما يبايعونك الله، وإنما قال: “إنما” تأكيداً لـــ “يبايعون الله”، واليد التي كانت فوق أيديهم يد رسول الله، ومع ذلك يقول فيها الله:
﴿ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (10الفتح).
ولم يقُل فوق أيديكم، فلو قال تبارك وتعالى يد الله فوق أيديكم، لكانت يد الرسول صلى الله عليه وسلَّم من جملة هذه الأيدي، لكن يد الله فوق أيديكم واليد التي كانت فوق أيديهم هي يد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وهذا مقامٌ عظيم لا نستطيع أن نُلمح لما فيه من المنزلة العلية للحضرة المحمدية.
كذلك أثبت الله تبارك وتعالى بنفسه في كتابه العزيز أن فعل النبي صلى الله عليه وسلَّم، هو عملٌ في الحقيقة قام به الله وأظهره على يد حبيبه ومصطفاه.
فالنبي صلى الله عليه وسلَّم في غزوة بدر أخذ حفنةً من الحصى في يده، ورمى بها الكفار وقال: شاهت الوجوه، وأثبتت الروايات ما من رجلٍ منهم، إلا وأصابه شيئٌ من هذا الحصى، ماذا قال الله في ذلك؟
﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى﴾ (18الأنفال).
ما هذه المنزلة الغريبة العجيبة لحضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم التي يبينها الله تبارك وتعالى في هذه الآية، هذا أمرٌ عُجاب ومعناه أن الحبيب صلى الله عليه وسلَّم ذاب في محبوبه تبارك وتعالى، ولم يعد له شأنٌ مع مولاه، بل سلَّم نفسه لله، وأصبح المحرك له والمسكن والعامل له هو مولاه تبارك وتعالى.
وفي ذلك يقول القائل:
[أنا آلةٌ والله جلَّ الفاعل].
فهو صلى الله عليه وسلَّم الذي يفعل به وله هو الله تبارك وتعالى.
أما المقام الأعظم الذي جعله الله فيه كعبةً لتنزلاته القدسية، فهو مقام الظالمين لأنفسهم، حيث أمرهم الله تبارك وتعالى عندما يقعون في ظُلم أنفسهم، أن يتجهون إلى حضرته، ويعتذروا إلى الله:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ ـ ولم يقُل جاءوا إلى البيت، بل جاءوك أنت ـ فَاسْتَغْفَرُوا الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ـ ماذا يجدون عند حضرته؟
لَوَجَدُوا الله ـ أي لوجدوا تنزلات الله وإكرامات الله، باسمه التواب واسمه العفُو واسمه الرحيم واسمه اللطيف ـ لَوَجَدُوا الله تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ (64النساء).
أي أنه هو الكعبة التي يتنزل عليها الله بأسمائه الحُسنى، وجمالاته العُليا، ليظهر فيها جمال الله للمؤمنين المصدقين، الذي يريدون أن تكون لهم منزلةٌ عالية عند سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.
ثم بين الله سبحانه وتعالى أنه فينا على الدوام، لا يخلو منه زمانٌ ولا مكانٌ إلى قيام الساعة، فقال سبحانه وتعالى في حضرته:
كيف يكون فينا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى؟ بورثته الهادين المهديين، فهم المرآة التي تُظهر جمال سيد الأولين والآخرين، وهو صلى الله عليه وسلَّم المرآة التي جمال رب العالين.
فهؤلاء الورثة لحضرته صلى الله عليه وسلَّم إنما هم مرآة، تعكس ما يتنزل على حبيب الله ومصطفاه، من الجمالات الإلهية، والكمالات الربانية، المناسبة لأهل زمانهم، والمناسبة لأحوال الصالحين في عصورهم، لأن لكل عصرٍ دوله ورجال.
والحقيقة أن الحديث عن الحبيب صلى الله عليه وسلَّم يُعجز كل إنسانٍ مهما علا قدره، وارتفع شأنه لأنه صلى الله عليه وسلَّم لا يُحيط به ولا يعلم به إلا ربه تبارك وتعالى.
عجز الورى عن فهم سر محمد لم يدرهِ إلا القويُّ القادر
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
الخميس: 7/10/2021 موافق 30 صفر 1443 هـ مجمع الفائزين الخيرى المقطم
لقاء الأحبة على برنامج التواصل الإجتماعي زووم ـ على الإنترنت