الحمد لله الذي أنزل كتابه القرآن الكريم شفاءٌ لما في الصدور وهدىً ونورٌ لهل القرب والحضور، وجعله مائدة الرحمن يأكل منه العارفون ما لذَّ وطاب من العلوم الإلهية والأنوار الربانية والحكم القدسية، وفيه من التجليات والمؤانسات والملاطفات ما يجلُّ عن الكلام والوصف والخطاب.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد التطبيق العملي للقرآن، فكان صلى الله عليه وسلَّم هو القرآن الحيُّ الذي يمشي بين الناس، صلى الله عليه وعلى آله الكرام وصحابته العظام، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين وعلينا معهم أجمعين آمين آمين يا رب العالمين.
أيها الأحبة:
إتفق الصالحون منذ عصر النبوة إلى يومنا هذا وإلى يوم الدين أن القرآن الكريم هو سرُّ الوصول لكل عبد تمسَّك بالأصول وأراد أن يُشرف عليه رب العزة ويمتعه بأنوار الوصول.
لأن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال في شأنه:
(أفضل عبادة أمتي تلاوة القرآن).
لكن التلاوة مع التدبر والتذكر والتفكر.
سيدي أحمد بن إدريس رضي الله عنه قال:
[سلكتُ طريق الذكر ثم سلكت طريق الفكر ثم سلكتُ طريق الصيام والقيام ثم رأيتُ الحبيب صلى الله عليه وسلَّم في المنام، فقلتُ: يا رسول الله ما الطريق الذي أصل به إلى الله؟ قال: القرآن].
عليك بالقرآن بكتاب الله عز وجل، فأقبل على القرآن حتى أفاء الله عز وجل عليه من علوم القرآن ما جعل أهل زمانه ومن بعدهم يتحيرون في كمِّ هذا العطاء الذي خصَّه به رب الأرض والسماء.
حتى رُوي أنه أي السيد أحمد بن إدريس وهو في زبيب في بلاد اليمن، وروضته في زبيب في بلاد اليمن، وأنا لا أحب لأحدٍ أن يقول:
زُرت ضريح فلان من الصالحين، أو قبر فلان من الصالحين، تريد أن تقول ولابد فتقول: روضة الإمام الحسين، روضة السيدة زينب، ولستُ أنا من قال هذا الكلام، ولكن من قاله هو رسول الله، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حُفرة من حُفر النار).
وهؤلاء أين؟ في روضة، فعندما تتكلم وتريد أن تصف الزيارة تقول: زُرت روضة الولي فلان.
وليس مكانه هو المقام؟ لأن المقام لا يعلمه إلا الله، وهل هذا هو مقام الولي الذي أمامنا؟ لا إنه مكانه، لكنَّ مقامه عند رب العزة لا يعلمه إلا الذي قربه وحباه وأدناه.
وهو في زبيب كان بعد صلاة الفجر يجلس مع رفاقه يُفسِّر لهم آية من كتاب الله، ومكث في تفسير الآية حتى قريباً من صلاة الظهر، وصلَّى الظهر ثم أخذ في تفسير الآيةحتى قريباً من العصر، وصلَّى العصر وأخذ في تفسير الآية حتى قريباً من المغرب، وصلَّى المغرب وأخذ في تفسير الآية حتى منتصف الليل وأخرُّوا صلاة العشاء، ومكث على هذا الحال ثلاثة أيام وكلما فسَّر أتى بجديد لم يسمعوه ولم يقرأوه.
وبعد الثلاثة أيام قال: وعزِّة ربي لو أعطانا الله الأعمار وجلسنا إلى قيام الساعة ما أعدتُ تفسير كلمة علمينها الله عز وجل لسعة العلوم الإلهية التي أفاضها الله عز وجل على أهل القرب من حضرته.
وهنا الكلمات يعني معاني الكلمات، لأن الكلمات ثابتة وكلنا نحفظها، لكن معاني الكلمات هي التي يتنزَّل بها بارئ الأرض والسماوات على قلوب السالكين إلى حضرته طريق القرآن الكريم متآسين بنهج الرؤف الرحيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم.
هذه الأشجار كلها لو أخذنا كل فروعها وعملناها أقلام:
والبحر يمده من بعد سبعة أبحر ما نفدت معاني كلمات الله جل في علاه، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلَّم:
(يأتي القرآن يوم القيامة بكراً لم يفضض بكارته أحد).
كلٌ يأخذ على قدره، وقدر القرآن لعُلو شأنه لا يصل أحدٌ إلى مداه، ولا يبلغ أحدٌ منتهاه، ولكن غاية المني أن يقول كما علَّم الله حبيبه ومصطفاه:
“وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا” (114طه).
ولذلك دائماُ نُكرر على الأحباب لابد أن يكون له وردٌ من القرآن كل يوم، والورد القرآني لا نريده تلاوةٌ فقط، ولكن معه التفكر والتدبر، لابد أن يكون لك كما كان يعمل السلف الصالح، كان الواحد منهم له ختمة للتعبد، يقرأها بتأني وتدبر وهي الختمة التي يكون فيها يمشي شوية ليتعبد لله عز وجل.
وختمة أخرى للتدبر، فختمة التعبد جائز ربما يقرأها في أسبوع على حسب منهجه، أو في أسبوعين ماشي، لكن ختمة التدبر قد يفنى عمره ولم ينتهي منها.
سيدنا عمر رضي الله عنه حفظ سورة البقرة في ثمان سنين، لماذا؟ قال وقالوا: كان لا ينتقل من عشر آيات إلى العشر التي بعدها إلا إذا طبَّقها وعمل بها، فليس حفظاً كما نحفظ؟ لا ـ عشر آيات بعشر آيات، يقرأهم ويتدبرهم ويعيد ثم يُطبِّق على مسرح نفسه وعلى من حوله ما يطلبه منه رب العزة عز وجل.
إذا طبقها عملاً ينتقل إلى غيرها، والإمام الغزالي رضي الله عنه يقول:
[كان من يحفظ سورة البقرة بين اصحاب ، يعطوهرسول الله صلى الله عليه وسلَّم يُدعى عظيماً] فيعطوه لقب عظيم ـ والذي نقول فيها الآن ـ باشا ـ وهي كلمة تركية وأخذناها من الدولة العثمانية، لكن هي في اللغة العربية عظيم، فكان من يأخذ لقب عظيم، من يحفظ سورة البقرة، وكيف يحفظها؟ علم وعمل.
ولذلك نقول للأحباب لابد أن يكون معك مصحفاً مفسَّراً تقرأه ولو في عمرك مرة، فتعرف أسباب نزول الآيات وتعرف معاني الكلمات، وتعرف المعنى البسيط الذي لا غنىً عنه للآيات وبعد ذلك تأتيك النفحات من خالق الأرض والسماوات عز وجل، تقرأ تفسير الجلالين ماشي، والمصحف المفسَّر يكون القرآن في النصف والتفسير في الجوانب، أفضلهم وأحسنهم تفسير الجلالين: الإمام جلال الدين السيوطي والإمام جلال الدين المحلِّي، وجلال الدين السيوطي مدفون في القاهرة، وجلال الدين المحلي مدفون في رشيد.
وكانا في عصر واحد وكانا متآخيين وجعلوا هذا التفسير البسيط لآيات الله عز وجل وبإمكان كل واحد يستطيع قراءته بالفهم البسيط الذي لا غنى لأحدٍ عنه، تحتاج أن تعرف سبب نزول هذه الآية ولماذا نزلت؟ وتعرف معنى الكلمات الصعبة في هذه الآيات، وما معنى هذه الكلمة؟ وتعرف المعنى اللغوي العام لأن ربنا قال لنا في القرآن:
كأن من لم يتدبر القرآن قلبه مغلق، وهذا كلام رب العزة، أي أنَّ على قلبه قفل:
أم على قلوبٍ أقفالها، فلابد أن نتدبر معاني القرآن لنصل إلى المراتب العُليا والتي أعلاها مراتب الرضوان عند الحنان المنان عز وجل.
ولذلك عندما نستطلع أحوال الصالحين نجدهم على هذه الشاكلة، يبدأ الواحد منهم أولاً أن يقرأ باللسان وبعدها تحضر الروح، ولما يقرأ بالقلب وبالروح فهذه تلاوة مختلفة تماماً، سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقرأ القرآن كله من أوله إلى آخره في ركعتين ما بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء، كيف هذا؟
هل اللسان يستطيع؟ فيكف كانت هذه التلاوة؟ بالقلوب.
الشيخ سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه يقول لما إطلعت على هذه الآثار قلت كيف يحدث هذا الموضوع؟ فسألت شيخي، وشيخه كان رجلاً أمياً وهو سيدي على الخواص، فقال: إن شاء الله ستصل إلى هذه الحالة، سيأتي عليك يومٌ وتمرُّ بهذه الحالة.
قال: فسكتُّ وبعد فترة قال: يا عبد الوهاب إذهب إلى مقياس النيل بعد صلاة العصر ثم إذهب وصلِّ المغرب في مسجد الإمام الشافعي، قال: فذهبتُ ـ وكان المريدون عندما يسمعوا قول العارفين يقولون: سمعنا وأطعنا، غير مريدين هذا الزمان، فمريدي هذا الزمان يقولون: سمعنا وعصينا، ولذلك يقول: أين الفتح ـ أنا لي عشرين سنة ـ أنا لي ثلاثين سنة؟ وهل أطعتَ ولم يأتك الفتح؟
وكلام العارفين ليس فيه إلحاح، وأحياناً يكون إشارات، لأن كل واحد يأخذ من الإشارات ما يلائم حاله وما قدَّره له مقدر الأقدار عز وجل.
فيقول: ذهبت عند منيل الروضة لمقياس النيل، وبعد صلاة العصر فإذا بي أشعر بالفتح الإلهي ـ في الوقت الذي حدده الشيخ ـ فذهبتُ إلى مسجد الإمام الشافعي وصليت المغرب خلف الإمام، قال: فابتدأ الإمام بسورة الفاتحة ـ وطبعاً الإمام في مسجد الإمام الشافعي يصلي على مذهب الإمام الشافعي ـ نحن هنا في الصعيد مالكية الإمام يقرأ الفاتحة ووراءها على الفور يقرأ سورة لأن الإمام مالك أخذ بقوله صلى الله عليه وسلَّم:
(قراءة الإمام قراءة للمأموم).
يعني المأموم لا يقرأ وراءه وإلا يقع في مخالفة يقول فيها الله:
كيف يقرأ الإمام القرآن وهو مشغول بتلاوة أخرى، لا ـ لابد أن يسمع ويُنصت، وتلاوة الإمام تلاوةٌ له.
الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه عنده الفاتحة ركنٌ من أركان الصلاة فلابد أن يقرأها كل مصلي، فمتى يقرأها؟ قال: أن الإمام ينتظر قليلا ويسكت إلى أن يقرأ من خلفه الفاتحة، وأنتم طبعاً رأيتم هذه الحالة في مساجد القاهرة، الإمام يقرأ الفاتحة وبعدها يسكت ليقرأ الفاتحة من كان خلفه، لأن قراءة الفاتحة ركنٌ عند الإمام الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلَّم:
(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب).
فلابد للمصلي أن يقرأ الفاتحة.
فيقول الإمام الشعراني: قرأ الإمام الفاتحة وفي أثناء السكتة قرأت الفاتحة وأُخذتُ فاسترسلتُ:
ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه ـ وانتبهتُ بعد السكتة وقد وصلتُ إلى سورة الملك والإمام يقول: بسم الله الرحمن الرحيم:
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيئٍ قدير، قرأ في هذه السكتة ـ وأنظر إلى أي مدى ما قرأ من القرآن إلى أن وصل إلى سورة الملك.
هذه القراءة طبعاً بالروح، قراءة روحانية وهي مهما نتكلم فيها فلن نستطيع تكييفها ولا توضيحها، وهي تحتاج إلى: ذُق تعرف.
فالإنسان يجاهد نفسه ويتعرض لفضل الله ويحرص على صحبة الصالحين ليحظى بنظراتهم، فإن بسر نظراتهم يقربه مولاه ويرفع عنه كل حجاب حضرة الله، ويجعله من المقربين عنده بسر ملاحظات الصالحين ودعوات الصالحين ونظرات الصالحين.
وهذا ما يقول فيه الإمام الشافعي رضي الله عنه:
[مابين وضع قدمي في سرج دابتي وإمتطاء دابتي يمرُّ القرآن كله من أوله إلى آخره على قلبي].
ماهذا؟ هذه هي الحالة التي يقول فيها: حالة روحانية نالوا فيها وراثة الإسراء والمعراج لخير البرية، ذهب لبيت المقدس وصلى بالأنبياء وصعد للسماوات ويقول:
(ما بين الأرض والسماوات مسيرة خمسمائة عام، وعرض كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماءٍ مسيرة خمسمائة عام).
سفر خمسمائة سنة، صعد هذه المسافات كلها، والجنة والعرش والكرسي، حتى كان قاب قوسين أو أدنى وعاد وفراشه ساخنٌ لم يبرد بعد.
ماهذا يا إخوانا؟ هذه الحالة إسمها طيُّ الزمان، يطوي لهم الله عز وجل الزمان فما يفعله الإنسان في ألف عام يفعله العارف بفضل الله في نفس.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلَّم:
(إن من أمتي رجال التسبيحة من أحدهم كجبل أُحد).
التسبيحة كجبل أُحد وليس كل التسبيح متساوٍ، فهي أنفاس.
فلابد للإنسان أن يبدأ في هذا الباب ويمضي في هذا الطريق، وهذا طريق التوفيق الذي لا ضلال فيه ولا زلل فيه ومن سلكه فهو هادٍ مهديٍ إلى خالقه وباريه، لأنه كلام الله عز وجل.
“وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثًا” (87النساء).
البعض يقول: أنا أريد أن يكون الذكر أسرع.
سيدي أحمد حجاب رضي الله عنه رجل من الأولياء المعاصرين حصل على العالمية في الشريعة وأخذ حجرة في مسجد سيدي أحمد البدوي في الدور الثاني، وأخذ يتعبد لله فيها ولا ينزل إلا وقت الفرائض ثم يعود إلى حجرته، واستمر على ذلك يتعبد لله عز وجل، وكان سيدي أحمد البدوي يوجهه، وكان يراه ويسمع كلامه وهي حالة روحانية نورانية.
قال: فاحترتُ يوماً أأذكر بأنواع الذكر، أم أقرأ القرآن، قال: فقال لي سيدي أحمد البدوي: القرآن القرآن القرآن يا أحمد.
لأن سيدي أحمد البدوي كانت سكِّتُه هكذا، كان إذا إنتصف الليل يقرأ القرآن حتى مطلع الفجر.
فهذه عبادة وجهاد الصالحين أجمعين.
نسأل الله أن يدخلنا فيها وأن يفتح علينا بالقرآن وأن يجعل القرآن العظيم نور قلوبنا وجلاء حزننا وذهاب همنا وغمنا وسبب وصولنا إلى حضرة ربنا عز وجل.