• Sunrise At: 5:02 AM
  • Sunset At: 6:59 PM

Sermon Details

17 يونية 2011م

القرآن وحقيقة الإسراء و المعراج (خطبة الجمعة)

فضيلة الشيخ/ فوزي محمد أبوزيد

شارك الموضوع لمن تحب

القرآن وحقيقة الإسراء والمعراج

——————————

الحمد لله ربِّ العالمين، المنزِّه عن الجهات، الذى  بَسَطَ قدرته على الأرض والسماوات، البارئ البديع في صُنْعِهِ عن كل المخترعات والمبتكرات. سبحانه .. سبحانه، لا صُنع كصُنعه، ولا فعل كفعله، ولا قدرة كقدرته.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كان ولا شيء معه، وخلق الوجود عُلواً وسُفلاً وملأه من مخلوقات، وقوَّاهم بالخيرات، وخلق الملكوت وجعل فيه الجنَّات، وَوَسِعَهَا بألوان النعيم والطُرفات، وخلق العرش وَوَسِعَهُ وجعله يَسَعُ الأرضَ والسماوات، وخلق العرش وهو منزَّهٌ عن الحركات، ثم هو بعد ذلك على ما عليه كان. أشهد أن لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كُنْتُ مِنْ الظالمين. وأشهد أن سيدنا محمداً حامل لواء شرع الله، ومُبَلِّغ الوحى عن حضرة الله، بلسانٍ قال فيه مولاه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (3، 4النجم).

اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد الذي خصصته بأنوارك، وجعلته في إسرائه ومعراجه فوق كل مخلوقاتك، ورفعت قَدْرَهُ على ملائكة سماواتك، وجعلته في الدنيا فاتحاً خاتما، وفي الآخرة شفيعاً وضامنا. صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكل من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين يا ربَّ العالمين.

أيها الأخوة جماعة المؤمنين:

بينما أنا أطالع صحيفة الأهرام يوم الاثنين الماضي، إذا بي أنظر إلى خبرٍ عجيبٍ وغريبٍ، “توني بلير” الذي كان رئيسَ وزراء بريطانيا سابقاً، يقول: (إني لابد أن أقرأ القرآن في كل صباح، لأتعرَّفَ منه الأخبار، وأتحسَّسَ منه الأحوال) – والخبر في الأهرام، ومن لم يجد الأهرام يجده في موقع النت فيجد هذا الخبر – فسألوه، أكدُّوا عليه في السؤال، قال: (لابد لي أن أقرأ القرآن في كل يوم)، لا يقصد أنه يقرأ القرآن كلَّه، لكنه يقرأ ما تيسَّر من القرآن.

ونحن أهل القرآن – وربما تسعة وتسعون في المائة منا – لا يقرأون القرآن إلا في رمضان، وإذا قرأوا يسارعوا في العدِّ، وكلُّ واحدٍ يُباهي بأنه قرأ القرآن في رمضان مرتين أو خمس مرات أو أكثر أو أقلَّ!! وليس الهزَّ هو المهم، ولكن المهم هو التَّمَعُّنُ في القرآن، والتَّدَبُّرُ في تلاوته مع الله الذي أنزل هذا القرآن.

جعل هناك نظاماً لتلاوة القرآن للمؤمنين،كيف نقرأ القرآن يا ربِّ؟ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ﴾ (17القمر). ولم يقل للتِّلاوة، ولكن (للذِّكْرِ)، يعني: التَّذَكُّر والتَّفَكُّر، وللتَّدَبُّر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (17القمر).

وقال عزَّ شأنه لملايين المسلمين الذين يقرأون القرآن بألسنتهم ولا يسمعونه بالفكر من عقولهم، ولا بالتدبر من قلوبهم، ولا بالفقه من نفوسهم، يقرأون القرآن ألفاظاً وكلمات، ولا يتمعنون ليصلوا إلى المعاني التي ساقها الله في الكلمات، والعيون التي بثَّها الله عزّ وجلَّ في هذه العبارات، يقول الله عزّ وجلَّ لهؤلاء: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (24محمد).

لماذا لا يتدبرون في آيات القرآن؟!! لماذا لا يتفقهون في كلمات الرحمن؟!! لماذا لا يتمعَّنون في خير بيانٍ أنزله الله عزّ وجلَّ لبنى الإنسان؟!! لماذا لا نطيع الله؟!! وماذا نقول إذا عاتبنا الله يوم نلقاه؟!! وبماذا نَرُدُّ على الشكوى التي تُقدَّمُ فينا أو في أبنائنا إلى حضرة الله؟ ويقول فيها لنا الله: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا﴾ (30الفرقان).

من الذي سيقدِّم الشكوى؟ النائب العام لجميع الأنام وهو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. لِمَنْ؟ لله؟ وفي مَنْ؟ في أمة الإجابة وأمة الإنابة. وما هذه الشكوى؟ هجروا القرآن، لم نهجر تلاوته لأن القرآن يُتلى والحمد لله في الإذاعة وإذاعات خاصة، إن كان في فضائية إو إذاعات الأرضية، ويُتلى على الكافر. حتى أننا في كل صباح نركب الميكروباصات ونسمع كلام الله في الميكروباص يُتلى صباحاً، ومعه السَّبُّ والشَّتْمُ واللعْنُ والغِيبَةُ والنَّمِيمَة!!! وهكذا في كل صباح ونقول: أننا نسمع القرآن، وإنما يجب أن ننصت للقرآن، ونتمعن في القرآن، ثم بعد ذلك نعمل بالقرآن.

لأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلَّم نظر ببصيرته النافذة إلى ما سيحدث في أيامنا هذه من أنواع الخلاف – الذي نراه في كلِّ صباحٍ ومساء – فتنٌ لا تُعدُّ ولا تُحصى بين الخلق، إن كانت في الأسواق، أو كانت في الأعمال، أو كانت في أى مجال، فتنٌ لا يستطيع أحدٌ ذكرها وعدَّها وحصرها وأنتم تعلمونها، ذكر الحبيب هذه الفتن، وعندما رآها أُخِذَ مِنْ هَوْلِ الصَّدمة وقال: (ألا إنها ستكون فتنٌ كقطع الليل المظلم). الليل المظلم الذي لا يضيئ فيه قمرٌ ولا بدر، ولا مصباح وسراج، كيف يمشي الإنسان في هذا الظلام؟ وهذا حال الإنسان الذي يمشي في هذا الزمان!! الذي يمشي بغير نور ولا مصباح يضيئ له، الذي يمشى بغير نور القرآن في هذا الزمان كالذي يمشي في يومٍ مظلم داجن ساكن، وليس له نورٌ ولا معه مصباح ينظر إلى ما حوله، حتى أنه إذا أخرج يده لم يكد يراها.

فقال: (إنها ستكون فتنٌ كقطع الليل المظلم. قيل: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله تعالى، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحُكم ما بينكم، هو الجَدُّ ليس بالهزل، وهو الذي لا تنقضى عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، ولا يَخْلَقُ من كثرة الردِّ، وهو الذي لَمْ تَنْتَهِ الجنُّ إذ سمعته إذ قالوا: “إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدى إلى الرشد فآمنا به”. من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبارٍ قصمه الله عزّ وجلَّ)[1].

هذه علتنا وهذا جوابنا، هذه كل مشاكلنا وهذا شفاؤنا، فماذا نبغي بعد ذلك؟ وهو يقول لنا: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (82الإسراء). ولم يقل الله: أنزلنا من القرآن، ولكن قال: ﴿وَنُنَزِّلُ﴾، أي: بالفعل المضارع المستمر، وليس هناك تنزيلٌ لألفاظ وعبارات جديدة في القرآن، وإنما هناك تنزَّل من معاني القرآن، ومن أسرار القرآن، ومن نور القرآن لمن يتدبر القرآن ويقرأه ويعمل به. تحُلُّ له كلُّ الأزمات، وترفع عنه كلُّ النكبات، وتزيل عن بصيرته كل الغشاوات وتجعله ينظر بنور الله في كل الحالات، وينطبق عليه قول الله عزّ وجلَّ في محكم الآيات: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ (122الأنعام).

تعالوا معي لننظر في آية واحدة من كتاب الله لِنَرَى معجزات الله في كتاب الله: العلماء والفلاسفة والمستشرقين وأهل الدين والعاميين كلٌّ يُدلي بدلوه في حادثة الإسراء بسيِّد الأولين والآخرين- منهم من يُشكك، ومنهم من يؤكد، ومنهم من له موقف أمام جانب منه، ومنهم من لا يعترف بجزءٍ منه – والله عزّ وجلَّ قد حسم هذه المور في آية واحدة، مَنْ تدبَّرها بما فيها لا ينتابه أى شكٍّ في أى مرحلة من مراحل هذه الرحلة المباركة!! آية واحدة يقول فيها الله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (1الإسراء).

ظهر لحبيبه ومصطفاه بعد أن جاوز الأرض والسبع السماوات والعرش والكرسي، يقول له الله: ﴿سُبْحَانَ﴾، سبِّح الله، أي: نزِّه الله عن أن يظهر في زمان، أو أن يحلَّ في مكان، أو أن يراه أى إنسان إلا إذا كان يوم القيامة بالكيفية التي يؤهلنا لها وبها حضرة الرحمن عزّ وجلَّ.

فكلمة ﴿سُبْحَانَ﴾ تقطع الشَّك باليقين على كل المشكِّكين والمتردِّدين، وأن تنزيه الله عزّ وجلَّ ينبغي للمؤمن أن يكون أساس العقيدة التي يعقد عليها قلبه لله ربِّ العالمين، فينزِّه الله عزّ وجلَّ على أن يكون في شيء، أو أن يظهر على شيء، أو أن يحلَّ في شيء، أو أن يغيب عن شيء، لأنه عزّ وجلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (11الشورى).

والقاعدة الشرعية التي اصطلحها لنا علماؤنا الأجلاء: (كلُّ ما خطر ببالك فهو هالك، والله عزّ وجلَّ بخلاف ذلك). إياك أن تحيِّزه وتجعله كإنسان لأنه عزّ وجلَّ تعالى في علوه، وتنزَّه في قدرته عن أن يحيط به بَشَر، أو يظهر إلا في أثر يكيِّفه ليرى فيه بديع قدرته البشر، لكنه عزّ وجلَّ من وراء كل القوى والقُدر.

وحتى رؤيته في الدار الآخرة لا بكمٍّ ولا بكيفٍ ولكن بأنوارٍ تعالت معنوية، لأن الله عزّ وجلَّ لا يكيِّفه تكييف، ولا يحيِّزه تحييز، لأنه هو الخالق البادئ البارئ عزّ وجلَّ. فنزِّه الله عزّ وجلَّ سبحانه على النظير وعن المثيل، وعن الضدِّ وعن الندِّ، وعن الشبيه لأنه عزّ وجلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (11الشورى). إذن لماذا علا النَّبِيُّ إلى السماوات؟

لأن الله عزّ وجلَّ أرسله رحمةً للعالمين، وقال في صريح قرآنه في تكليفه له: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (107الأنبياء). والعالمين: أي كلُّ ما سوى الله عزّ وجلَّ. فكلُّ ما سوى الله فهو من العالمين، فأرسله الله عزّ وجلَّ إلى الإنس فى الدنيا، وإلى الجن في الأرض، وجعله الله عزّ وجلَّ رسولاً للملائكة في السماوات، فلابد أن يرتفع إليهم ويصعد إليهم ليعلمهم أصول الدين الذي جعله الله عزّ وجلَّ دين الختام لجميع الأنام. وفي ذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:

وحكمة إســــــــــــــــراء الحبيب إغاثة       لعالمه الأعلى ورحمةُ حــــــنَّـانِ

ولم يَكُ ربُّ العرش فوق سـمائه      تنزَّه عن كيفٍ وعن برهــــــــــــــــانِ

ولكن لإظهار الجمـــــــــــــــــال لأهله      من العالم الأعلى ونيل أمــــــــانِ

أى أنه عُرِجَ به إلى السماوات ليُظهر جمال هذا الدين، ولطف هذا الكلام العلىِّ – كلام ربِّ العالمين – لأهل الملأ الأعلى كما أظهره لأهل الأراضين، لأن رسالته كما قال فيها ربُّه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ –  عامةً للناس جميعاً – بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ (28سبأ)، كافة للناس بشيراً ونذيراً.

كيف ذهب وعاد وهو صلى الله عليه وسلَّم أُوقظ من نومه في بيت ابنة عمِّه أم هانئ، ثم أُخذ إلى الكعبة وشُقَّ صدره وغسل قلبه وحُشي إيماناً وحكمة، ثم سار على البراق إلى بيت المقدس وصلَّى بالأنبياء إماماً، ثم عُرِجَ به إلى السماوات، واجتمع بأهل كل سماء من الملائكة وصلَّي بهم، ثم عُرج به إلى الجنة ليشهد ما فيها، ثم إلى النار ليرى ما أعده الله للكافرين والمنافقين فيها، ثم إلى العرش والكرسي ورجع وفراشه الذي ينام عليه دافئاً لم يَبْرُدْ بعد.

حتى أن البعض تباعد فى هذا المقام وقال: أن الإسراء كان رؤيا منامية – ولم يصدِّق أن الإسراء يقظة – وهم المستشرقون ومَنْ على شاكلتهم من المُشككين. إذا كانت الرؤيا منامية، فَلِمَ الاعتراض عليها؟!! فإن الإنسان – أيَّ إنسان – يرى في المنام ما يراه أيُّ إنسان آخر ولا يعترض أحد. أما اعتراض الكافرين لأنه كان يقظةً وروحاً وجسماً، فردَّ الله عزّ وجلَّ علينا في الآية. لماذا نستبعد هذا الأمر على الحبيب؟ والذي أجراه له هو مولاه!! الذي أخذه وأسرى به وعرج به هو الله!! وهل هناك يا إخواني أيُّ شكٍّ في قدرة الله جلَّ في عُلاه، ولذلك قال: ﴿الذي أسرى بعبده﴾.

من الذي أسرى بعبده؟ هو الله!! وما دام الذي أسرى به الله نقول سمعنا وأطعنا، لأن الله لا يعجزه قدرته شيءٌ في السماوات ولا في الأرض، لأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، والذي خلق الإنسان من العدم، والذي يرضخ الوجود كلُّه له من القِدَم، والذي بيده الموت والحياة، والذي بيده مقاليد السماوات والأرض، والذي بيده مقاليد كل شيء – هو الذي أسرى بحبيبه ومصطفاه.

إذن فلماذا العجب مادام الأمر منسوباً إلى قدرة الله جلَّ في عُلاه؟!! فهنا لا عجب ولا شك، لأن الأمر أمر الله جلَّ في عُلاه، ومادام ذلك أمر الله فلا نَشُكُّ ولا نرتاب ونقول: سمعنا وأطعنا.

كيف كان الإسراء بالروح أم بالجسم؟ ردَّ الله رداً حاسماً فقال: ﴿الذي أسرى بعبده﴾، لم يقل برُوح عبده!! وكلمة العبد إذا أُطلقت في الدنيا تطلق على أى إنسانٍ له جسمٌ فيه روحٌ أو حياة، لو نام الإنسان وتحركت ورأت روحه تكون رؤيا منام، ولو وُجد الإنسان بجسمه وخرجت روحه لا نقول عليه عبد، ولكن نقول مَيِّتٌ، أو نقول جيفة، أو نقول جثة، لكن كلمة (عَبْد) تطلق على الجسم الذي فيه حياة، الجسم والروح:

أَخْبَرَ اللهُ فِي آيـَـــــةٍ أُحـْكِمَـتْ       أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدٍ لِلْوِصَـــــال

لَفْظُ عَبْدٍ يَقْتَضِي الجِسْمَ الَّذِي       فِيهِ روحٌ فيه عِقْلٌ وِالخَيَال

كلمة (عَبْد) ردٌّ قاطع!! لأن كلمة (عَبْد) يعني فيه جسم وفيه روحٌ، وفيه حيوية وفيه حياة، وفيه كل ملكات الإنسان وخطوات الإنسان التي استودعها وأودعها فيه الرحمن عزّ وجلَّ. فإياك أن تشك بعد ذلك، بعد أن أخبر القرآن أن الإسراء كان رُوحاً وجسماً لسيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلَّم. ومن المؤيد والأدلة والبراهين فهناك ما لا حدَّ له ولا عدَّ مما ورد من البراهين من سُنَّةِ النَّبِيِّ الأمين، ومن اكتفى بالقرآن فالقرآن دليله ظاهرٌ للعيان لكلِّ مَنْ تدبَّر وتفقَّه في كلام الرحمن عزّ وجلَّ.

لماذا أَسْرَى به الله وَعَرَجَ به الله عزّ وجلَّ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؟ وحدَّد بداية الرحلة الأرضية ونهايتها: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا﴾، ولم يقل: لِيَرَى من آياتنا، ولكن الذي يُريه هو مولاه، وما دام مولاه هو الذي يمكِّنه من الرؤيا، وهو الذي يجهِّزه إلى الرؤيا، فلا عجب على قدرة الله جلَّ في عُلاه. فقد رأى آياتٍ أرضية، ورأى آيات سماوية، ورأى آياتٍ جِنانية، ورأى آياتٍ عَرْشِيَّة ورأى آياتٍ لا تُعدُّ ولا تُحدّ، أعانه عليها الله، وكاشفه بها مولاه، بلا سؤال كما سأله أنبياء الله ورسل الله السابقون.

وهنا يبين الله منزلة الحبيب الأمين صلى الله عليه وسلَّم، فإن أنبياء الله السابقين طلبوا من الله، وربما لم يعطهم الله بعد ما طلبوا!! نوحٌ طلب من الله وقال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ ـ فرَدَّ عليه الله وقال: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ (46هود). وابراهيم طلب من الله أن يريه ملكوت السماوات، ويريه كيف يحي الموتى، فقال له ربُّه: ﴿أولم تؤمن﴾ (260البقرة)؟ وموسى طلب من الله الرؤيا وقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾ (143الأعراف). وعيسى طلب من الله نزول المائدة.

لكن الله كاشف حبيب وأراه من آيات الله كما سمعنا بلا طلب، ولكن تفضلاً مِنْ حضرة الله، وعطاءً من الله، وخصوصية من الله لحبيبه ومصطفاه، لنعلم أنه في المكانة العُليا والدرجة العُظمى في القرب من حضرة الله!! ولذلك مَنَّ عليه الله بلا طلبٍ ولا إرب وأراه: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا﴾.

كيف يرى ما لم نستطع أن نراه؟!! أن الله أعطاه سمعاً من سمعه، وبصراً من بصره، ليرى بها آيات ربِّه. قال صلى الله عليه وسلَّم: يقول الله تعالى في حديثه القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يسمع به، وَبَصَرَهُ الذي يبصر به، وَلِسَانَهُ الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)[2]. أو كما قال: (أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).

الخطبة الثانية:

الحمد لله ربِّ العالمين، الذي أكرمنا بنعماه، ووسعنا بعطاياه، وجعل قلوبنا مَحِلّاً لنظره جلَّ شأنه، ومكاناً لقربه وفضله وعطاياه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه. اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارك على سيدنا محمد، واعطنا الخير، وادفع عنا الشر، ونجِّنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا يا ربَّ العالمين. أما بعد …

فيا أيها الأخوة المؤمنون: سامحوني في الإطالة، فإن الكلام له شجون، وكل ما أردتُ أن أقولُه – لنفسي أولاً ولإخواني ثانياً – أن الله أنزل لنا القرآن، وجعله لنا بلسماً شافياً إلى آخر الزمان.

أين نحن من القرآن؟!! هل نتردد على القرآن كما نتردد على الصيدليات لنأخذ منها الأدوية للأجسام؟ هل نتردد على القرآن لنأخذ غذاء القلوب وشراب الأرواح كما نذهب إلى السوبر ماركات ونأخذ منها قوت الأبدان وشراب الأبدان؟ إن القرآن يقول فيه نبيُّنا صلى الله عليه وسلَّم: (القرآن الكريم مأدبة الله عزّ وجلَّ في الأرض)[3].

المهمة الجامعة المانعة التي فيها كلُّ شيءٍ يهمُّنا – في دنيانا وآخرتنا، في أنفسنا وفي دولتنا، وفي أرزاقنا ومع أولادنا ومع زوجاتنا، ومع جيراننا وكل شيءٍ لنا في حياتنا – يحدث فيه مصاب، علاجه في كتاب الله، لكن نحتاج أجمعين أن نفتح كتاب الله ونتدبر منه كل يوم ولو آية .. آية!!

هل يعجز كلٌّ منا أن يتدبر آية واحدة من كتاب الله؟ ثم يخُطَّها على لوح قلبه، وينوى العمل بها في هذا اليوم، إنه بذلك يصير ممن يقول فيهم الله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (97النحل).

ولنا عودة أخرى بعد الصلاة لمن شاء إن شاء الله.

نسأل الله عزّ وجلَّ في هذا الوقت الكريم أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وجلاء حزننا، وذهاب غمنا وهمنا، وأنيساً لنا في قبورنا، وشفيعاً لنا في حشرنا، وأن يجعلنا من الذين يُحِلُّون حلاله ويحرمون حرامه، ويستنيرون به في حركاتهم وسكناتهم.

اللهم بارك لنا في القرآن، واجعل وقتنا فيه سعةً لتدبر كلام حضرة الرحمن، وأفض علينا منه البيان، وأعِنَّا على العمل به بالجوارح والأركان، يا ربَّ العالمين.  

 اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع مجيب الدعوات، يا ربَّ العالمين.

اللهم خُذْ بناصيتنا وأولادنا وإخواننا وأهلينا والمسلمين أجمعين إلى الحقِّ وإلى طريقك المستقيم.

اللهم اقضِ على الفتن التي تملأ حياتنا في هذا الزمان، واجعلنا محصَّنين في قولك: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان﴾ (65الإسراء)، وخذ على أيدي البلطجية والنصَّابين والأفَّاكين، وأعنَّا عليهم في هذا الزمان. اللهم أخرج مصر ورجالها من هذه الحيرة، واجعلنا على القدم القويم، وعلى المنهج المستقيم، واجعلنا جميعاً خلف عَبْدَكَ الرؤف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم.

اللهم اهْلِكْ الكافرين بالكافرين، والظالمين بالظالمين، وأقضِ على اليهود ومن عاونهم أجمعين، وخلِّص منهم بيت المقدس وأرض فلسطين، واقضِ على كل الفتن القائمة الآن في بلدان المسلمين، واجعل أهل لا إله إلا الله لهم الكلمة العُليا في الخافقين.

عباد الله أتقوا الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (90النحل).

اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.

————————————————

[1] أخرجه الترمذي عن الإمام عليٍّ رضي الله عنه.

[2] البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] رواه الحاكم عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: (إن هذا القرآن مأدبة الله فخذوا منه ما استطعتم).


     خطبة الجمعة بمسجد الجمعية العامة للدعوة إلى الله بالزقازيق   17/6/2011م الموافق 16 رجب 1432

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid