Sermon Details
القلب السليم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله الرؤوف الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب القلب السليم، وآله وصحبه آل التكريم، وكل من مشى على نهجه إلى يوم الدين .. آمين يا رب العالمين.
تحدثنا عن الطريقة السديدة لكيفية الفتح الإلهي لمن أراد أن يفتح الله تبارك وتعالى عليه، هذا الفتح لا يتم إلا إذا كان القلب سليماً، والقلب السليم هو الذي ليس فيه غير الله تبارك وتعالى في كل أوقاته وحالاته، لا ينشغل بغير الله، ولا يُعكر صفوه شيء أمام حضرة الله، وإنما خالياً من كل الأغيار ليملأه الله تبارك وتعالى بالأنوار، ثم يؤهله لمقامات الأبرار والأطهار والأخيار.
الخليل إبراهيم
وضرب الله لنا مثلاً في القرآن لأنبياء الله ورسله، نأخذ منهم مثالاً واحداً نقتفي أثره ونسير على هُداه، وهو أبونا وأبو الأنبياء والمرسلين سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، يقول الله تبارك وتعالى عنه في سورة الصافات: ” إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ” (84الصافات) فهو صاحب القلب السليم.
وسُمي خليلاً لأن محبة الله سبحانه تخلَّلت كل حقائقه الظاهرة والباطنة، فلم يعد فيه موضعٌ ظاهرٌ أو باطنٌ منشغلٌ بالكلية بغير مولاه.
والله سبحانه وتعالى جعله مثلاً في صفاء القلب ونقائه وحُسن إقباله على الله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل غيور، ويغار إذا دخل قلب عبده المؤمن شيئاً سوى حضرته، وإبراهيم كان قد بلغ من السن ما يزيد على الثمانين عاماً، ولم يُرزق بولد، فكان يطمع أن يُرزق بولد، ليس طمعاً في الولد، لكنه لأن الله علَّمه علم يقين أن هناك ورثةٌ للنبوة التي آتاه الله إياها من أبنائه وذريته، فيريد أن يُسلِّم ميراث النبوة، فرزقه الله تبارك وتعالى بإسماعيل.
وعندما رزقه الله بإسماعيل اقتضت البشرية التي فيه أن تميل شُعبةً من قلبه إلى ابنه، لأنه وارث نبوته، فغار الله سبحانه وتعالى من ذلك وأراد له مقام الكمال، ومقام الكمال أن لا يكون في قلبه غير مولاه، فأمره أن يأخذه وأمه ويُلقيهما بجوار موضع البيت الحرام، حتى يظل القلب متفرغاً لله لأن الله علم منه ذلك قبل ذلك.
فحتى عندما ابتلي وأُلقي في النار لم يطلب معونة من الذين عرضوا عليه المعونة وهم الملائكة، وقال: علمه بحالي يغني عن سؤالي.
ولما أراد الله سبحانه وتعالى إعلام الملائكة بمنزلته المباركة، أنزل مَلَكاً من الملائكة يذكر الله تبارك وتعالى بصوت عذب جميل، فقال له إبراهيم: كرر ذكر الله بهذا الصوت الجميل، قال: حتى تدفع الثمن، قال: وما الثمن؟ قال: أن تعطيني وادياً مملوءاً بالأغنام، قال: لك كل مالي وكل ما أملكه إن أسمعتني ذكر الله تبارك وتعالى بهذا الصوت الجميل، فعلمت الملائكة الكرام قدره في حبه لمولاه، وخُلُو قلبه مما سواه تبارك وتعالى.
فلما كان إسماعيل وأُمه في موضع البيت، ولم يكن في هذا الموضع إنسٌ ولا وحشٌ ولا طيرٌ ولا زرعٌ ولا ماء، وكل مقومات الحياة الإنسانية البشرية ليست موجودة، لكن الله يُعلمنا يقينه بمولاه، وأنه إذا أمره بأمر لا بد أن يتولاه.
وكان قد علَّم ذلك لزوجته التقية النقية، ولذلك كان تاركاً لها جراباً من التمر، فقالت: إلى من تتركنا هاهنا يا إبراهيم؟ فلم يُجبها، فكررت النداء فلم يجبها، فقالت في الثالثة: أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يُضيعنا.
كلهم أهل يقين، لأن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام زرع الله في قلبه وقلب ذريته اليقين.
وكان يذهب كل حين يمر على الأم وولدها، وكان يركب البراق في رحلته تلك، وعندما شبَّ الغلام وأصبح شاباً يافعاً، شعُر نحوه بالحب والحنين لحُسن إيمانه وصفاء طويته ويقينه بالله رب العالمين، لا لحسب ولا لنسب ولا شيء من ذلك.
لكن الله عز وجل غار عليه كذلك، فأمره أن يذبحه، وأراه ذلك في رؤيا منامية وليس وحياً تنزلياً أو إلهاماً قلبياً، ولكنه عندما قصَّ الرؤيا على إبنه وقال له: ” يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ” (102الصافات) فانظر إلى يقين الغلام، وتعليمه من الله الملك العلام: ” قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ ” (102الصافات) فكأنه علم أن منام النبي وحيٌ من الله تبارك وتعالى، وهو حقاً من أنواع الوحي الإلهي للنبي، خصوصية للأنبياء والمرسلين.
لكن المنام لعامة المؤمنين ليس وحياً، أما المنام بالنسبة للأنبياء وحيٌ من الله تبارك وتعالى لهم، ولذلك حتى في نبينا قال الله فيه: ” لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ” (الفتح) رؤياهم كلها بالحق ومن عند الحق تبارك وتعالى.
” فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ” (103الصافات) فلما أسلما معاً الوجه لله، وتله للجبين أي لجبهته: ” وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ” (105) (الصافات).
والله تبارك وتعالى ساق لنا قصة إبراهيم لنعلم مرتبة خير الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم، فالفارق بينهما كالفارق بين المريد والمراد.
طهارة قلب خاتم النبيين
فإن نبينا صلى الله عليه وسلَّم لأنه مرادٌ لذات الله، تولى الله تبارك وتعالى أمره منذ بدايته، وتولى الله تبارك وتعالى طهارة قلبه بذاته القدسية مع ملائكته المقربين، ورسم لنا الله تبارك وتعالى للصالحين وللسالكين وللعارفين كيفية الطهارة التي يحبها الله من المخلصين، فيما جهَّز به سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.
فإنه طاهرٌ من قبل القبل، لكن ما أُجري عليه من أنواع الطهارة الظاهرية كان عنواناً لسلوك أهل القرب إلى الذات العلية، فإنه صلى الله عليه وسلَّم تولى الله تطهير قلبه كما ذكرت كتب السيرة المعتبرة أربع مرات.
الطهارة الأولى (التخلي عن الصفات الإبليسية)
المرة الأولى عندما كان عند مرضعته السيدة حليمة السعيدية، وكان عنده أربع سنوات، فنزل جبريل وميكائيل، فأخذوه من بين إخوته لمرضعته وأضجعوه وشقَّوا صدره وأخذوا قلبه وغسلوه بماء زمزم، وأخذوا شيئاً وقالوا: هذا حظ الشيطان وألقوه بعيداً، ثم بعد ذلك جاءوا بخاتم النبوة، وهو خاتمٌ تحار الأبصار من نوره كما قال صلى الله عليه وسلَّم، وختموا به قلبه صلوات ربي وتسليماته عليه.
وهنا إشارة: هل النبي صلى الله عليه وسلَّم كان في قلبه حظٌ للشيطان؟! مع قول الله تبارك وتعالى في المؤمنين الصادقين: ” إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ” (42الحجر) وعندما قال الشيطان: ” فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ” (83) (ص) فما بالك بسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم؟!!
لكن هذه العبارة كما فسرها بعض العارفين الأكابر قالوا: هذا حظ الشيطان من الرحمة في قلبك، لأنه سيحاول أن يتقرب إليك لترحمه فلا ترحمه.
ولذلك ورد في رحلة الإسراء أنه وهو سائر من مكة إلى بيت المقدس، تعرَّض له نفرٌ كثيرين، وكلهم يقولون: يا محمد اُنظرنا، ويسأل جبريل: فمرة يقول عن امرأة كانت في أبهى زينة: هذه الدنيا، ولو نظرت إليها لغوت أمتك، ومرة يقول: هذا داعي اليهود، ومرة يقول: هذا داعي النصارى، ومرة يقول في رجل: هذا إبليس، فإبليس يرجو نظرة منه، والإمام أبو العزائم رضي الله عنه فسَّر هذه الحقيقة فقال:
لو نظرةً منه لإبليس انمحت |
عنه الشقاوة بالعطا المدرار |
لو نظر لإبليس نظرة، لمحى الله تبارك وتعالى عنه شقاوته، وإبليس لم يتعرض لرسول الله فقط، بل كان يتعرض للأنبياء السابقين، فقد ورد أنه تعرض لسيدنا موسى، وقال: إني أريد أن أتوب إلى الله تبارك وتعالى، وكان يعلم أن موسى يكلم ربه، فكلم موسى ربه، فقال له: يا موسى قٌل له يذهب لقبر آدم ويسجد له، فقال لعنة الله عليه: إذا كنت لم أسجد له حياً، فكيف أسجد له ميتاً؟! لأنه سبقت له الشقاوة من الله سبحانه وتعالى.
التخلي والتحلي
إذاً لا بد للسالك الذي يريد أن يسلك طريق الصالحين وأهل الفتح، ليفتح الله عليه بأن يُخرج حظ الشيطان من قلبه، وحظ الشيطان هو الوساوس والهواجس والخداع والمكر والدهاء والكبر والرغبة في السُمعة والرغبة في الشُهرة .. كل أعمال إبليس لا بد بأن يُخرجها من قلبه أولاً، كما فعل الله مع حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
لابد من التخلي ليحدث التحلي، ثم التجلي، ثم التملي، فتلك هي مراحل المقربين إلى الله تبارك وتعالى، لا بد من التخلي ليأتي التحلي، هل يستطيع الإنسان أن يدخل هذا المكان ويزينه بدون أن يجرد ما هو عليه الآن؟ لا بد أن يُجرد ما هو عليه الآن ثم يُصلحه، ثم بعد ذلك يزينه بما شاء وكيف شاء، كما قال إمامنا أبو العزائم رضي الله عنه:
التحلي بالتخلي |
بعد محوي لمحلي |
واتصالي بانفصالي |
عن سوى مجدي وأصلي |