الحمد لله الذي وجَّه حبيبه ومصطفاه إلى ما فيه خيرنا ونفعنا ورفعة شأننا في الدنيا وسعادتنا يوم لقاء الله. والصلاة والسلام على الحبيب الأعظم، والرسول الأكرم، الذي أثنى عليه مولاه في القرآن فقال: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [113النساء]. سيدنا وإمامنا محمد وآله الأطهار وصحابته الأخيار، وكل من تبعهم من خاصة المقربين والأبرار إلى يوم القرار، وعلينا معهم أجمعين آمين .. آمين، يا رب العالمين.
أخواني وأحبابي بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين:
هذه الآيات التي استمعنا إليها الآن وضَّح الله عزَّ وجلَّ فيها الأسس التي تُنَشَّأ عليها المجتمعات الفاضلة، ومجتمعات المسلمين والمؤمنين في أي زمان ومكان ينبغي أن تكون مجتمعات فاضلة، لأن أهلها تربوا على مائدة كتاب الله، وتزكَّتْ نفوسهم على منهج حبيب الله ومصطفاه، فأصبحوا مجمَّلين بخير الأوصاف التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في هذه الآيات.
ومن عجب أن هذه الآيات بيَّنتْ النموذج الأمثل لكل المجتمعات، الذي بناه الله لسيدنا رسول الله في عصره وزمانه من الأنصار والمهاجرين، ثم وضَّحتْ ما ينبغي أن يكون عليه مَنْ بعدهم إلى يوم الدين، نحن ومن قبلنا ومن بعدنا، حتى نكون كما قال الله عزَّ وجلَّ لنا: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [7الحشر].
إشارات نورانية
وفي الآيات إشارات نورانية، لمن أراد أن يكون من أهل الخصوصية، لا بد أن يأخذ هذه الآيات على مسرح نفسه، ويطبقها على نفسه، حتى يتخلق بخُلُقِ الأفراد، ويفوز بفضل الله عزَّ وجلَّ الذي يعمُّ به عباد الله الصالحين، وأفراد الله المقربين في كل وقت وحين.
إذاً الآيات فيها أمر عام للمجتمعات، وفيها إشارات خاصة للسالكين في طريق الله عزَّ وجلَّ، فمن أراد أن يُكَوِّنَ مجتمعاً تقياً نقياً، لا فيه مشاكل، ولا فيه تطاحن، ولا فيه صراعات، ولا فيه تنافس في الفانيات، فهاكم الآيات وضحت صفات أهل المجتمع الفاضل الذين اختارهم الله واجتباهم الله لحبيبه ومصطفاه، وعلى هيئتهم من أراد أن يلحق بهم في أي زمان ومكان ليدخل في قول الله: ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ﴾[13-14الواقعة].
والمهاجرين والأنصار وهي سمة لأي تجمع إنساني، أناس منتقلين إلى المكان، وأناس مستقرين ولهم أهلية في هذا المكان، هؤلاء يتشبهون بالمهاجرين، وهؤلاء يتخلقون بأخلاق الأنصار، وهؤلاء وهؤلاء يجمعون هذه الصفات ليكونوا من الصالحين والأبرار، أي أن الذي يتخلق يجب أن يتخلق بخُلق المهاجرين والأنصار ليكون من الأخيار والأبرار والأطهار عند الله عزَّ وجلَّ.
الفقراء
﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ﴾ وكلمة الفقراء تعني الذين أحسوا بأنهم بغير عناية الله، ومعونة الله، ورعاية الله، وتوفيق الله، وحول الله، وطَوْل الله، ضعفاء وفقراء لا يستطيعون دفع أي شيء عن أنفسهم، ولا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، إلا إذا أمدَّ واجد الوجود عزَّ وجلَّ بجوده وكرمه، وأسعفهم بفضله وواسع نعمه، فيعلمون علم اليقين أن الفضل كله لله، وأن الخير كله من عند الله، وأن باسط الأرزاق ومقسم العطايا هو الله، وأن الذي بيده الأنفس كلها، وبيده النعم والخيرات جميعها، هو الله جلَّ في علاه، ولا يشاركه في ذلك أحد من خلقه لا من قبل ولا من بعد: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء﴾[73آل عمران] لكنه عزَّ وجلَّ يؤتيه من يشاء!!.
فهل يجوز لأحد أن يتحكم في فضل الله، أو يتدخل في توزيع عطاءات الله؟! ينبغي للمؤمن المـُؤمن بتمام الأدب أن يتأدب مع الله جل في علاه، ويُسلم لله تسليماً كاملاً: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ [65النساء].
هجرة المؤمن
والمؤمن طوال عمره مهاجراً، لأنه وقف عند قول الحبيب: {وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ} (صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما)، فدائماً يهجر ما نهى عنه الله، وما حذر منه رسول الله، إذا وُجدت فتن – كما نرى الآن – هجر هذه الفتن، وصان لسانه وأعضاءه من الخوض فيها، قال صلى الله عليه وسلم: {الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا} (التدوين في أخبار قزوين للرافعي، وذكره صاحب (كشف الخفاء)، ورواه السيوطي في الجامع)، إلا إذا أراد أن يقول كلمة خير، أو يتوسط ليصلح بين طائفتين، أو يُهدئ الأمور بين فريقين، وبذلك يكون قد أحسن وله كريم الأجر والمثوبة عند الله عزَّ وجلَّ، لكن لا يؤجج فتنة ولا يثير زوبعة، ولا يردد الكلام الذي يزيد الأمور اشتعالاً بين الأنام، يردد الكلام الذي يؤدي إلى الوفاق، والذي يجلب الاتفاق.
فالمؤمن دائماً وأبداً يهجر ما نهى الله عنه، يهجر المعاصي والفتن ما ظهر منها وما بطن، يهجر قرناء السوء: ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [68الأنعام]. ويجالس الصادقين: ﴿ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [119التوبة].
يهجر وسائل الإعلام التي تعمل على إثارة الفتنة وزيادة الاشتعال في صدور الأنام، حتى يكون في راحة بال ويستطيع أن يؤدي ما عليه من فرائض أو ذكر أو تلاوة كتاب الله للواحد المتعال عزَّ وجلَّ. وخاصة أنني لست طرفاً ولا أستطيع أن أؤدي دوراً فيها، فإذاً نفسي تريد أن تشغلني بهذا عن الله عزَّ وجلَّ، وقد قيل: (نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل)، لأنك لا تزال تحفظ ما تقوله الفضائيات، وتذاكر ما تكتبه الصحف والمجلات، وتقطع الوقت بالأحاديث التي تثبت أنك متابع جيد للفضائيات، وقارئ عبقري لكل الصحف والمجلات، لا تفوتك شاردة ولا واردة ولا رأى لفلان أو فلان، هب أنك جاءك أمر الله عزَّ وجلَّ وأنت على ذلك، ماذا تقول لربك؟! إذا كان الله يعاتب من شُغل بماله وأهله، وماله يُنميه، وأهله يقوم لهم بما كلَّفه به خالقه وباريه من مسئوليات، فكيف يشغل نفسه بما لا يفيد!! لا في الدنيا ولا في يوم الوعيد:
إذا رأيت كثيراً من أهل هذا الزمان في خبال، ويُضيعون عمرهم – كما قيل- في القيل والقال، فهل يجوز لك أن تقتفي أثرهم؟! أو تمشي على منهاجهم؟! أم تمشي على منهاج سيد الأولين والآخرين، وتقتفي أثر الصالحين؟!!.
فالمؤمن ليس له وقت لقطعه في الفتن، لا أقول: لا تتابع أو لا تقرأ، لكن خذ الضروريات، ولا تشق على نفسك بمتابعة التفصيلات، واشغل نفسك بعد ذاك، فالوطن كله يحتاج إلى رجال قلوبهم صافية، يتوجهون إلى الله بإخلاص القصد، وصفاء الطوية، وتُفتح لهم أبواب الإجابة، ويفتح الله لهم كنوز الاستجابة، فيدعون الله عزَّ وجلَّ فيُطفئ نار الفتن، إذا كان الكل مشغول البال بهذه الفتن فأين هؤلاء الرجال؟! هل نستطيع أن نستورد رجالاً من هنا ومن هناك ليدعوا لنا؟! وأين الصالحون فينا وأين رجالنا؟! نحتاج إلى بعض الصفاء وبعض الوفاء للقيام بما كلفنا الله ومتابعة حبيب الله ومصطفاه.
ألسنا في أمَسِّ الحاجة الآن إلى هؤلاء الرجال؟! ومن هم غيركم، على أن تسدوا الباب لهذا اللغط الدائر في كل مكان، وتتوجهون بإخلاص الطوية وصفاء النية أن يُطفئ الله عزَّ وجلَّ هذه النار المشتعلة في الصدور.
لو كانت نار متوهجة في المباني لاستعنَّا بمطافي أمريكا وإسرائيل وغيرها لتطفئها، لكنها نار في الصدور، لا يُفلح في إطفائها الكافرون ولا المشركون ولا المساعدون ولا المعاونون، لا يُطفئها إلا من يقول للشيء كن فيكون، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُطفئ نار الكراهية والغضب والإحن في صدور إخواننا المصريين أجمعين، إخواناً وسلفيين وغيرهم من طوائف الشعب أجمعين، وأن يقذف في قلوبهم الحُبَّ لله، والحُبَّ لرسول الله، والحُبَّ لدِينِ الله، والحُبَّ للوطن، والحُبَّ لأهل مصر أجمعين .. آمين ..آمين، يا ربَّ العالمين.
﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ﴾: لا تنسوا أننا في شهر الهجرة، فيجب أن نهجر لغو الكلام، وكل ما يتعلق بالذنوب والآثام، وكل ما يغير قلوب الخلق نحو دين الإسلام، لأننا نقدم صورة قبيحة للإسلام في العالم كله. أخطأ إخواننا فظنوا أنهم على الحق، بينما لو نظر هؤلاء وهؤلاء لوجدوا أنهم يُسيئون إلى دين الله، لأن العالم الغربي والأمريكي وغيره يُشنعون علينا الآن أن هذا هو الإسلام!!! قوم مختلفون، ومتفرقون، ولا يجتمعون، ويُراهنون على أنهم لن يجتمعوا أبداً لأنهم وصلوا إلى طريق مسدود !!! وهل هناك بين أي مسلم وأخيه طريق مسدود؟!
ولماذا؟ من أجل الدنيا أو المناصب أو المكاسب!! صحيح أن هؤلاء يُسيئون إلى الإسلام لأنهم لم يتربوا على مائدة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، فما أولانا أن نلفت نظر الناس ونظرهم إلى السُنَّة المباركة التي ربَّاها الحبيب، وكيف كان تعاملهم مع بعضهم.
تأليف القلوب
لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة، وما بين قومين من الشرِّ كما بين الأوس والخزرج في المدينة، حروب متطاحنة ليس لها عدَّ ولا نهاية تُحدّ، وأنتم تعلمون ذلك، لكن اسمع إلى الله وهو يقول: ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ [63الأنفال].
وهذا يؤيد ما ذكرناه الآن، لو تدخل الشرق والغرب بعروضهم السخيَّة، وأموالهم وفرصهم ومساندتهم لن يستطيعوا أن يؤلفوا بينهم إلا إذا شاءت إرادة الله عزَّ وجلَّ، وإرادة الله مَن الذي يُحركها؟ أنتم: ﴿لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾. [34الزمر].
لو اجتمعنا ولو قلة قليلة، ونزهنا قلوبنا عن الميل إلى هذا أو ذاك، وهؤلاء أو هؤلاء، ودعونا الله بصدق وإخلاص، ووفينا ببعض أعمال الخواص في هذه الأيام، من صيام وقيام وذكر لله وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانشغلنا بهذه الأعمال التي تستوجب العطايا والنوال من الواحد المتعال، ثم دعونا الله لاستجاب لنا الله جلَّ في علاه.
فأنتم عليكم الآن إطفاء هذه الفتنة، ليس بمساعيكم لأنكم ضعفاء أمام هؤلاء، لكن بتوجهاتكم إلى الله، وبلفت نظر الخلق إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار الذين يقول فيهم الله: ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [90الأنعام].
وهذا كلام لا يستطيع أحدٌ أن يعارضنا فيه، فإذا خطبتَ الجُمعة يا أخي، أو طُلب منك إلقاء كلمة أو درس أو موعظة أو نصيحة، حتى ولو لرجل تجالسه، أو لسمير تؤانسه، أو زميل في العمل تخالطه، وتكلَّمتَ عن ذاك، غيَّرتَ ما بقلوب الناس، وجعلتهم يتجهون إلى الله عزَّ وجلَّ، لكن لو كان الكل يخوض: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾.[45المدثر].
فمن يدعو؟ ومن يسأل؟ ومن يُلح في الدعاء؟ ومن يكرر الرجاء لله عزَّ وجلَّ غير هؤلاء الذين نحسبهم قريبين من الله عزَّ وجلَّ بقلوبهم، لصفاء نواياهم وقصودهم؟ فنحن – والحمد لله – وإن لم نبلغ القمة لكننا أشبه الناس بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يكفينا أننا داخلين في قول الله: ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [28الكهف]. لا نطلب وزارة ولا إمارة، ولا مال ولا دنيا، وإنما نطلب جميعاً رضاء الله، ويكفينا هذا في التشبه بأصحاب رسول الله على قدرنا، ولنا جاه عند الله إن شاء الله أجمعين.
فلابد أولاً – لنُحقق المرام – أن نَهْجُرَ جميع الذنوب والآثام، ولذلك أناشد إخواني جميعاً إن كان في أحاديثهم مع بعضهم أو مع غيرهم، أو من يتجول على مواقع النت منهم، لا تخوضوا في أحد، لا في هؤلاء ولا في هؤلاء، فنحن شعارنا: نُجَمِّع ولا نُفَرق، ونُؤلف ولا نثير فتناً، ونجمع الناس على الحُبِّ، ونحاول أن نستل من صدورهم الشحناء والبغضاء.
قد تقول إنك على الحقِّ، وتعرف الحقّ!! أنت عرفت الحقَّ من كلام الخلق، إن كان من الصحف أو الفضائيات أو الإذاعات، وقد قال صلى الله عليه وسلم عندما جاءه متخاصمان: { إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلا يَأْخُذْهَا } (البخاري ومسلم وسنن الترمذي).
لأنه يقضي بالحجة التي أمامه وليس بما يعلم، فمن قضيت له بحق ليس على أخيه فإنما أقطعت له قطعة من النار. فأنت غير مأمور بمناصرة هؤلاء، ولا معاداة هؤلاء، وإنما نحن حمامة السلام، ورمز الوئام الذين يجمع الله بنا في هذا الزمان أهل الإسلام على منهج الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، إذاً لابد من الهجرة.
حاجة المؤمن لأخيه
﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾: تلبية لأمر ربِّهم، وتنفيذاً لطلب حبيبهم، فإن الله عزَّ وجلَّ يأمرك أن تخرج من دارك في أوقات الصلاة لتذهب إلى بيت الله، ويأمرك أن تُخرج من مالك حقَّ الفقير الذي أوجبه فيه الله، مَن الذي أخرجك من هذا الأمر؟ الله عزَّ وجلَّ، تخرج من دارك لأداء فرائض الله، ولا تجلس في البيت كما يحدث في هذا الزمان، فإن من الأمور التي أثرت في الروابط والعلاقات بين المسلمين اكتفاء الناس بالصلاة في البيوت وتركهم للمساجد إلا في يوم الجمعة، وحتى إذا ذهبوا إليها يوم الجمعة لا يحاول واحد منهم أن يتعرف على إخوانه المصلين.
وسوَّل الشيطان لكثير من بني الإنس في هذا الزمان أنك ما دمت لا تحتاج إلى مال من أحد، ولا إلى مصلحة من أحد، فلا عليك أن تواصل الخلق أو توادهم أو تتعرف عليهم، وهذه – والعياذ بالله عزَّ وجلَّ – أمريكية، لأن ذلك سياسة أميركا وأهل الغرب، وهو ما يُسمونه (مذهب المنفعة)، لا يتحرك إلا إذا كان له منفعة مادية، ولا يُدركون ما وراء المادة. ولكن نحن جماعة المؤمنين نعلم علم اليقين أن المنافع التي تعود على الأخ من إخوانه المؤمنين الأُخروية والروحانية والدينية والربانية تفوق أضعاف أضعاف أضعاف الدنيا كلها من أولها إلى آخرها إذا سلمها له مولاه جلَّ في علاه، فإن الأخ يحتاج إلى أخيه في الدنيا قبل الآخرة لمنافع ربانية، ولمنافع دينية، ولمنافع إلهية، جعلها الله عزَّ وجلَّ بيننا وقال فيها في قرآنه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾. [71التوبة].
كل مسلم يحتاج إلى إخوانه المسلمين، بل إن أغنى أغنياء المسلمين، بل إن سلطان المسلمين يحتاج إلى أفقر رجل من المسلمين!! وقد كان صلى الله عليه وسلم وهو يُوَرِّث أصحابه هذا الهَدْى، عندما يخرج بقواته وجيوشه إلى الغزوات يُعَرِّج على الشيوخ والعواجيز الذين لا يستطيعون الخروج للجهاد في مسجده المبارك، ويقول كما جاء بالأثر يا إخوتي: لا تنسونا من دعاءكم فإنما نُنصر بدعائكم، وورد في القرطاس أنه صلى الله عليه وسلم قال لغلام المغيرة: ادع لنا واستغفر لنا. وقال لعمر: لا تنسانا يا أخي من صالح دعواتك لما استأذنه للعمرة.
فهو لم يقل لإخوانه ( إنا نُنصر بسيوفكم ) بل قال الله عزَّ وجلَّ لهم: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾. [17الأنفال]. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لنا وللمؤمنين أجمعين: {ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ} (المستدرك والطبراني). ابحثوا عنهم لأن الضعفاء لهم وجاهة عند الله عزَّ وجلَّ، دعوة من أي رجل مؤمن قد تراه ضعيفاً أو حقيراً أو فقيراً قد تُغير الكونين، قال صلى الله عليه وسلم: {كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ} (سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان).
قد يكون مسلماً فقيراً ضعيفاً، لكنه يستطيع أن يُعَمر الصحاري، وليس معه مال، يذهب إلى الصحراء ويستغيث بمولاه فيُنزل الله له الماء، ولا تستطيع الإمكانيات الضخمة أن تأتي بالماء، لأن جوف الأرض ليس فيه ماء، ولا تستطيع أن تصنع سحاباً وتُسيِّره ليروي هذا المكان بالماء، لكن هذا المسلم الفقير إذا ذهب إلى أي مكان ولو كان صحراء جرداء وسأل الله فوراً أعطاه الله عزَّ وجلَّ مناه.
سلاح الدعاء استهونت به الناس في هذا الزمان، ولذلك لا بد أن نؤهل أنفسنا له، ونجهز أنفسنا له، ونتدرب على الدعاء، حتى يُصلح الله عزَّ وجلَّ بدعائنا كل هذه الأنحاء والأرجاء إن شاء الله ربُّ العالمين.
﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾: وهنا محط الكلام، ما طلباتهم؟ وما الذي يحتاجونه؟ وما الذي يبغونه؟ وما الذي يرغبون فيه؟ هل تشكيل أحزاب سياسية؟! هل التنافس على المقاعد البرلمانية؟! هل الوصول إلى الوظائف العلية؟! هل تكوين شركات كبرى تبتلع الفقراء والمساكين؟! أبداً والله، لكن الله يقول فيهم وهو أصدق القائلين:﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ يريدون فضل الله ورضوان الله، ولم يقل الله: (جناناً) لأن الجنة فوقها مقام الرضوان، وهو أعلى من مقام الجنة، مقام الجنات بما فيها من أنواع، فردوس وخلد وغيره مقام للنعيم، التنعم بالمأكولات، التنعم بالنساء، التنعم بالمسامرات والمؤانسات والمحادثات مع الأصحاب والأصدقاء، لكن مقام الرضوان يكون التنعم فيه بالمواجهات مع حضرة اللهعزَّ وجلَّ، لذلك هو أعلى:﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.[22-23، القيامة].
وهم كانوا أكياساً، علت همتهم فلا يطلبون إلا الأعلى والأغلى والأرقى من الله وعند الله جل في علاه.
هانت عليهم الدنيا وعلموا أن الدنيا لا تصلح لحى وطناً فلم يطلبوها، وعلموا أن الله عزَّ وجلَّ يجعل الدنيا خادمة ومسيرة وتابعة لمن يتوجه إليه، ويجعل طالب الدنيا والحريص عليها والشديد في طلبها خادماً لها، يسعي بجد نحوها، ويشغل وقته في طلبها، ولا يُحصِّل منها إلا ما كتبه الله عزَّ وجلَّ له فيها، وخسر الصالحات، وخسر الطاعات، وخسر القربات، لأنه انشغل في طلب الدنيا عن هذه الأمور التي يهتم بها المقربون والمقربات.
لكن المقربون والوجهاء علموا – بتعليم الله – أن الله عزَّ وجلَّ يرزق من غفل عنه وعصاه، فكيف لا يرزق من أطاعه ودعاه، فوَلُّوا وجوههم بالكلية نحو الله، وألقوا حبل الاعتماد على الله، وتوكلوا بالكلية على فضل الله، فجعلهم الله عزَّ وجلَّ كما قال في كتابه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾. [97النحل].
فعاشوا في الدنيا في حياة طيبة، لا فيها هم ولا غم ولا نكد ولا قلاقل ولا شجون ولا شئون، وإنما هي فرح دائم بما يرد على قلوبهم، وبما يرد على خواطرهم من عالم الله عزَّ وجلَّ من باب: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾. [282البقرة]. ومن باب: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. [4الجمعة].
﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾: فإذا ابتغوا فضل الله ورضوان الله، فعليهم أن يقوموا في الكون: ﴿وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾.
نصر الله ورسوله
كيف ينصرون الله ورسوله؟ ينشرون المنهج الوسطي الذي كان عليه النَّبِيُّ وأصحاب النبي من المهاجرين والأنصار، وأتباع النبي إلى يوم القرار.
ولو تدبرت في الفتن الجلية التي تراها الآن تجدها بين مفرطين ومتغالين. لكن أهل الوسطية المساكين هم القاعدون وليس لهم شأن بها، وإن كان لابد أن يُلحقهم ضرر، لأن هذه أمور تمس أهل الوطن أجمعين، فنحتاج إلى نشر ثقافة الوسطية حتى نخرج من كل هذه الضبابات التي فجرتها لنا (نجد) في الجزيرة العربية، وجعلت القلاقل في كل أرجاء الأُمة الإسلامية، وشوَّهتْ المسلمين بين العوالم الأخرى بما أخرجوه من تشدد، ومن فظاظة، ومن غلظة، ومن خشونة في التعامل، ومن تسلط في الآراء، ومن اعتقادهم أنهم وحدهم على الحقِّ وأن ما سواهم على الباطل.
بلغ بهم الأمر أن أحد هؤلاء في (نجد) قال منذ حوالي شهر على النت: لا يدخل الجنة إلا من كان من أهل نجد!! جعل الجنة قاصرة على أهل نجد!! عصبية ليست في دين خير البرية صلى الله عليه وسلم، ويسارعون – هداهم الله – إلى تكفير الموحدين، وإلى الرمي بالفسق للمسلمين المصلين!! كيف هذا؟! ويغفلون عن أن هذا إساءة بالغة إلى هذا الدين الذي قال فيه الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾. [19آل عمران]. وقال فيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ}[1]
تركوا اليسر وعسروا على الناس أمور دينهم. فنصرة دين الله ونصرة الله ورسوله في هذا الزمان بنصرة الوسطية التي كان عليها حبيبنا وقرة عيننا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. لا نستطيع أن نلعن مسلماً، ولا أن نكفر مؤمناً، ولا أن نُخرج من يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) من الملة حتى ولو ارتكب كبيرة من الكبائر ولم يتب منها إلى الموت، وإنما نقول: أمره مفوض إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء غفر له، ما دام قال (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، حتى لو كان قالها خوفاً من سيف، أو خوفاً من حاكم، أو طلباً لمنفعة، فقد قال الحبيب فيمن قالها: {مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ} (البخاري ومسلم والنسائي).
ناهيك بمن يُقتِّلون المسلمين، ويرفعون السلاح على الموحدين، هذا أمر لا ينبغي أبداً السكوت عنه جماعة المؤمنين، لا نُجابِههم بمثل أفعالهم، وإنما نوضِّح ونبين حقيقة هذا الدين، ويسره وتيسيره ووسطيته للعالم أجمع، حتى يعلم العالم حقيقة الإسلام.
وأول الناس، وأولى الناس الذين يحتاجون إلى هذه المعرفة إخواننا الذين يشاركوننا في الوطن، إن كانوا مسيحيين، أو ما يدَّعون عنهم أنهم ليبراليين، هَبْ أن هؤلاء الليبراليين لا يُقرون بالدين، وبعضهم – كما يقول البعض – شيوعيين، أو وجوديين أو غيره، – ما دام في أرض الإسلام، وتَسمَّى باسم من أسماء الإسلام، وينتسب إلى أبوين مسلمَيْن، ولا يقول لذلك بقول، ولا يدل على ذلك بفعل، وإنما حتى ظاهراً يقول إني مسلم، فينبغي علىَّ أن أُظهر له في فعلي وقولي معه سماحة الإسلام ويُسر الإسلام، وأن الإسلام دين الأُخُوة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. [10الحجرات].
نزع الشحناء والبغضاء
فإذا فعلنا ذلك ننتقل إلى الجانب الآخر، فنحاول أن ننزع الشحناء والبغضاء، ونضع مكانها المحبة والمودة والأُلفة والشفقة والعطف والحنان: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ ما أول شيء: ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾، الحب، ثم بعد ذلك: ﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا﴾. المسلم لا يجد شيئاً في صدره على أي واحد من المؤمنين، حتى المحاربين له إن كانوا يحاربوه، والمؤذين له إن كانوا يؤذوه، لأنه لا يحمل في قلبه إلا السلامة، ويحرص على أن يكون متخلقاً بقول الله: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. [89الشعراء].
أهم شيء يحافظ عليه المرء سلامة القلب من آفاته، وأعظم آفات القلب الغل والحقد والحسد والشح والكراهية والبغضاء ….. وغيرها من الأمراض التي عمت أرجاء الوطن الآن، فقطَّعت حبائل المودة، وجعلت الإخوة أعداء، والأصدقاء فرقاء، وصلة الأرحام أصبحت في خبر التاريخ، ولم تعد موجودة إلا في أقل القليل، كل ذلك توارى لأن المحبة خرجت من الصدور، ووضع مكانها والعياذ بالله البغضاء والشحناء من أجل دنيا فانية، قد يسعى الإنسان إليها ولا يُحَصِّلها، وقد يُحصِّلها ولا ينتفع بها، وقد يجمعها من حرام فيُنفقها في الذنوب والآثام، وقد يجمعها للورثة ويأخذها الورثة فينفقونها فيما لا يُرضي الله، فيُحاسب على هذا المال كله: من أين جُمعته؟ وفيما أُنفق؟ لأنه لم يهذب أولاده ولن يُعلمهم دين الله، وتركهم يتصرفون على أهوائهم، فيُشاركهم في هذه المسئولية يوم لقاء الله جل في علاه.
ما الشيء الذي في الدنيا يستوجب أن يبغض الأخ أخاه من أجله؟! لا أدري!! رئيس جمهورية، إلى متى؟! هل إلى يوم الدين؟! هب أنك ستظل رئيساً إلى يوم الدين، ويوم القيامة ماذا سيكون وضعك وشأنك؟! لقد قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمامهم سيدنا أبو هريرة t: (ينبغي أن نقول عند نعى أي عبد: مات عبد الله فلان) وينهى عن تلقيبه بألقاب، هل يأخذ الأوسمة والنياشين معه إلى قبره؟! هل تنتقل السلطات معه إلى عالم البرزخ؟
إذاً ما الشيء الذي في الدنيا يبغض من أجله الأخ أخاه، أو يحارب صديق، أو يعادي قريب؟! والله لا فيها شيء أبداً يفرح به الإنسان، لأن الشيء الذي ينبغي أن تفرح به ما يدوم لك الفرح به، وما الشيء الذي يدوم الفرح به في الدنيا؟ لا يوجد: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾. [58يونس].
المحبة والأحبة
نحن نريد أن نعمل في هذا الزمان عطارين، فنبيع حبَّة المحبَّة، ونضعها في قلوب المسلمين والمؤمنين والموحدين أجمعين، ونجالس الخلق وننزع منهم البغضاء والشحناء، ونضع مكانها الحُبَّ لله، والحب لرسول الله، والحب لكتاب الله، والحب للصالحين، والحب لعباد الله أجمعين، حتى نكون في الجنة في الدرجة العظمى مع أمير الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأنس رضي الله عنه: {إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ فَافْعَلْ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ} (سنن الترمذي والطبراني) من الذي يسيورثه؟ الذي ينشر الحب كما كان ينشره صلى الله عليه وسلم.
مجالسنا تكون كلها محبة، وكلماتنا كلها تعبر عن المحبة، وتتحدث عن الأحبة، وفي أي زمان ومكان لا نجالس إلا الأحبة: ﴿ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [45العنكبوت]. ولا نتكلم إلا بالمحبة: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [114النساء].
ننشر الحب والوئام للكل، وابدأ بنفسك، فانشر الحب بين بيتك، وأولادك، وزوجك، ثم إخوانك، ثم جيرانك، ثم ينتشر الحب، لأن الإسلام ما انتشر إلا بالحب، السلاح الذي نُشر به الإسلام في كل أركان الوجود هو سلاح المحبة، حمله أحبة فنشروا المحبة في كل أرجاء الكون، إياك أن تعتقد أنهم نشروا الدين بالكلام، فلم يكونوا ذو فصاحة كما نراهم الآن، ولم يكن معهم فضائيات مما نشاهده الآن، ولم يؤلفوا كتب، ولم ينشروا مقالات في صحف، وإنما كتبوا في الصدور بخيوط النور محبة الله عزَّ وجلَّ ورسوله والمؤمنين: ﴿أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾. [22المجادلة].
الدرجة العظمى
ومن أراد أن يكون في الدرجة العظمى مع أمير الأنبياء والمرسلين لا بد أن يُطهر سخيمة نفسه، ودخيلة فؤاده من كل شيء نحو إخوانه المؤمنين: ﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا﴾، قال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ بُدَلاءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِكَثْرَةِ صَلاتِهِمْ وَلا صِيَامِهِمْ، وَلَكِنْ دَخَلُوهَا بِسَلامَةِ صُدُورِهِمْ، وَسَخَاوَةِ أَنْفُسِهِمْ} (سنن البيهقي) ، الشرط الأول سلامة الصدور: وبعد سلامة الصدور: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف نفر منهم ذات ليلة يُقدم بعضهم بعضاً على إمامة صلاة العشاء حتى منتصف الليل، والكل يرى أن أخاه أولى منه بالإمامة فيُقدمه، والآخر يرى أن أخاه أولى منه بالإمامة فيُقدمه.
انظروا إلى حالنا الآن، وانظروا إلى سقيفة بني ساعدة، عندما انتقل الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، اجتمع الأنصار، ولم يجتمعوا من أجل سلطان، إنما أرادوا أن تجتمع كلمة المسلمين خوفاً من أن يتفرق جمعهم، وعلم نفرٌ من المهاجرين، أبو بكر وعمر وأبو عبيدة فأسرعوا إليهم، فقال أبو بكر: (يا معشر الأنصار أنتم الأنصار ونحن المهاجرون، ونحن قبيلة النبيِّ، ولا تعترف العرب إلا بهذا الحي من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء، قالوا: رضينا يا أبا بكر). لا خلاف ولا إتلاف:
فسيدنا أبو بكر كان ذكياً، لأنه أعطاهم الوزارة، لكن مشكلتنا الآن أن الذي يريد أن يأخذ شيء يريد أن يأخذه كله، ولا يترك شيء لأحد!! وهذا هو سبب الفتنة التي نحن فيها الآن، ثم قال سيدنا أبو بكر: يا عمر امدد يدك لأبايعك، فقال عمر: إن رسول الله ارتضاك لإمامتنا في الصلاة، أفلا نرتضيك في إمامتنا في الحكم، امدد يدك يا أبا بكر لنبايعك، قال: كيف تبايعني ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ} (البخاري والترمذي والإمام أحمد)، كل واحد يريد أن يدفعها عن نفسه.
وانظر إلى أصحابه عندما طُعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجاءته سكرات الموت بعد طعنه، وأجمعوا على أن يختاروا ابنه عبد الله بن عمر لصلاحه وورعه ودينه وقوته، لا لأنه ابن عمر، فقال عمر رضي الله عنه: لا، يكفي آل الخطاب منها واحد، لأنه أراد ألا يُقر مبدأ التوريث، وأن يجعلها شورى بين المؤمنين أجمعين، كانوا يتدافعون المناصب، وكانوا رضي الله عنهم كما علَّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصون على منافع الآخرة، وعلى مكاسب الدار الغالية العالية وهي الجنة، ولا تطرف عيونهم الدنيا مهما جاءتهم ومهما قابلتهم.
الكفاءة في القيادة
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم المثال الأعظم لمن يتشدقون بالدين ويتمسحون به في زماننا، فكان يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فيختار على حسب الكفاءة، وليس على حسب الثقة.
جاءه خالد بن الوليد، وكان خالد يحاربه، وكان سبباً في هزيمته هو وأصحابه في غزوة أُحد، لكنه عرف كفاءته القتالية وجدِّيته في قيادة الجيوش، فبمجرد دخوله في الإسلام أصدر النبي قراراً نبوياً بتعيينه قائداً لجيش من جيوش المسلمين، وتحت إمرته قدامى المسلمين، منهم من هو من أهل الشورى، ومنهم من هو من أهل بدر، ومنهم من هو كذا، لكنها الكفاءة، فكان هذا تعليماً لهم من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أن يولون الأكفاء في مناصبهم. جاءه عمرو بن العاص مسلماً فولاَّه قيادة الجيش وفيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما!! فكلٌّ له مجاله، والحرب خدعة وهي تحتاج لمثل عمرو وأمثاله الذين يفكرون بدهاء الأعداء، وليس للأتقياء الذين يعجزون عن فعل ذلك. ومشى على هذه السُنَّة أصحابه الأجلاء رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين، كانوا لا يُعينون الرجل لدينه، ويقولون: دينه لربه، وإنما نُعينه لكفاءته التي نحتاجها في عمله بعد دينه.
كان عمر رضي الله عنه جالساً في مجلس، وجاءت امرأة وقالت: يا أمير المؤمنين زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتلو القرآن آناء الليل وأطراف النهار، ولا يكف عن ذكر الله والتسبيح والتحميد، قال: إنه رجل صالح، فقال رجل بجواره لم يكن عمر يفطن له: يا أمير المؤمنين إنك لم تفطن إلى تعريضها، قال: وماذا أرادت؟ قال: إنها أرادت أنه مشغول بطاعة ربِّه ولا يُعطيها حقها، قال له: ما دمتَ قد فطنتَ إلى ذلك فاحكم لها.
فاستدعى الرجل وقال له: ألك زوجات غيرها، قال: لا، قال: إن الله جعل لك أربع، فاجعل لها ليلة كل أربع ليال على الأقل، فقال عمر رضي الله عنه متفرساً في الرجل: (أنت في حكمك هذا خير منك في بديهيتك هذه، اذهب فقد وليتك قاضياً على بلاد البصرة في العراق)، لأنه عرف أنه كفء لهذا العمل.
فكانوا يولون الأكفاء، ولا يتعصبون لأي أمر من الأمور، ولذلك نصرهم النصير، وأعزهم العزيز، وأغناهم الغني، وصاروا مُثُلاً مضيئة لنا وللمسلمين أجمعين في كل زمان ومكان، بل للتاريخ كله والعالم أجمع.
إذاً ما أحوجنا إلى أن نقلب هذه الصفحات، ونبينها لإخواننا المسلمين والمسلمات، حتى من يتشدقون بالعلوم، ومن يخطبون على المنابر، فقد أعماهم الهوى عن هذا الذي نقوله، فهم في حاجة إلى من يردهم إلى الحق، ويُبين لهم هذا المنهج القويم، والطريق المستقيم.
مَن الذي نقتدي به؟ سيدنا رسول الله، وأصحاب رسول من المهاجرين والأنصار في أُخُوتهم، وفي مودتهم، وفي ألفتهم، وفي تعاملاتهم مع بعضهم، وفي زواجهم وفي طلاقهم، وفي بيعهم وفي شرائهم، وفي كل أحوالهم مع بعضهم.
نسأل الله عزَّ وجل أن يرزقنا هذا الاقتداء، وأن يرزقنا النقاء والصفاء، وأن يجعلنا من الأمة التي اجتباها واصطفاها وطهرها من أدرانها، وأن يجعل لنا لسانًا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وبدنا على طاعته هينًا لينًا صابرا، وأن يوفقنا في هذا الزمان إلى ما يحبُّه ويرضاه، ويحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويجعلنا نورًا كاشفًا لظلمات هذا الزمان نأخذ بأيدي الضالين ونرد أهل الفظاظة والغلظة عن إخوانهم المؤمنين، ونأخذ بأيدي المؤمنين المتهاونين إلى العمل الصالح الذي ينفعهم في الدنيا ويرفعهم يوم الدين.