• Sunrise At: 6:05 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

2 ديسمبر 2010م

الهجرة فى العصر الحديث

كان الصالحون في كل زمان ومكان لهم في بداية العام الهجري وقفة صادقة لتصحيح مراد النفس ونواياها وطواياها، لتستعيد مكانتها عند مولاها وخالقها وبارئها عزَّ وجلَّ، فيسارعون إلى تخليص القلوب – وهى موضع الطوايا والنوايا – من كل شائبة تشوب الأعمال والأحوال والأقوال عند صدورها، لأنهم يراعون علام الغيوب عزَّ وجلَّ، حتى يَصلون إلى المقام العلى الذي يقول فيه المولى في كتابه القرآني: ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) [105التوبة].

شارك الموضوع لمن تحب

الهجرة في العصر الحديث (لا هجرة بعد الفتح و لكن جهاد ونيًّـة)

————————-

الحمد لله افتتح الوجود كله بنور حبيبه ومصطفاه، وجعله فاتحاً خاتما، وغمره بعظيم فضله وكريم عطاياه. اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد نور الهدى، وشمس الدجى، ومصباح القلوب الذي يتجلَّى فيه وبه وله ومنه حضرة علام الغيوب إلى كل عبد محبوب، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

إخواني وأحبابي بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين:

كل عام وأنتم بخير بمناسبة العام الهجري السعيد، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعله عام خير وفتح ونصر وتمكين لنا وللمسلمين أجمعين. كما نسأله عزَّ وجلَّ أن يتقبل منا هذا العام الذي أوشك على الختام، وأن يجعل أعمالنا فيه صالحات، ونيَّاتنا فيه طيِّبات، ورغباتنا من عملها وجه الله يوم الميقات.

مع فاتحة كل عام هجري جديد .. يستحضر المؤمن قول الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي خصَّنا به وكل أمته إلى يوم الدين، بعد أن أعلن انتهاء الهجرة الزمانيَّة والمكانية من مكة ومن حولها إلى المدينة المنورة، فقال صلى الله عليه وسلم لنا ولمن بعدنا وللمسلمين أجمعين: { لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جِهادٌ ونيَّة } (البخاري عن ابن عباس، ومسلم عن عائشة رضي الله عنهم).

بعد فتح مكة وكان في سنة ثمان من الهجرة النبوية لم يعد هناك هجرة مكانية، وإنما أصبحت الهجرة كلها في النيَّة .

– فضل النيَّة

فبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأمته فضل النيِّة، وأنها رُوح كل الأعمال التي يتوجه بها المرء إلى ربِّ البرية عزَّ وجلَّ. فالأعمال كالأجسام، الجسم ظاهره الأعضاء وروحه التي تحركه وتسيره هي الرُّوح التي نفخها فيه الحيُّ القيوم عزَّ وجلَّ. كذلك أعمال العباد نحو ربِّ العباد عزَّ وجلَّ ظاهرها أوامر الشرع – التي أمرنا بها الله وكلفنا بها في كتابه، أو على لسان حبيبه ومصطفاه – وباطن الأعمال الذي لا حياة لها إلاَّ به هو النيَّة، فالنيَّةُ رُوح الأعمال، ولذا قال الحبيب: { إنَّمَا الأعمَالُ بالنِّيَّات وَإِنَّمَا لكل امرئ ما نَوَى، فَمنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ فَهَجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أو امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } (البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما).

فالعمل بالظاهر امتثالٌ لأمر الشارع الأعظم عزَّ وجلَّ، واقتداءٌ بالحبيب صلى الله عليه وسلم، لكن ثوابه وأجره وفتحه وقبوله – كل ذلك – يتوقف على نيَّة العامل فيه، إن كان يريد به رضاء الناس والسُّمعة والشهرة عند الخلق كان عمله رياءً. فالرياء هو العمل مِنْ أجْلِ الخَلْق، أي: لا يقصد به إلاَّ الخلق، لا نيَّة فيه – من قريب أو بعيد – للحقّ، كلُّ همِّه وبُغيته فيه العمل للخَلْق، وفي مثله يقول صلى الله عليه وسلم: { مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، ومَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ } (مسند الإمام أحمد عن شداد بن أوس رضي الله عنهما).

والحديث بيان لقول الله جلَّ في علاه:(فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا )، وشرط قبوله: ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) [110الكهف]. أي: لا يجعل في نيَّته – عند توجهه للعمل، أو قيامه به – رغبة في السُّمعة عند الخلق، أو اكتساب المحمدة، أو التفاخر أو التظاهر، أو حتى الإعجاب بنفسه لأنه يعمل هذا العمل دون غيره، لأن هذا في نظر الله وفي كتابه شركٌ لا يُقبل العمل به، وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى في حديثه القدسي: {أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ} (صحيح مسلم عن أبي هريرة).

كل من عمل عملاً أشرك فيه مع الله عزَّ وجلَّ – في الوِجهة والقصد – الخَلْقَ أو النَّفْسَ أو السُّمْعَةَ أو حُبَّ الظهور، فإنه بذلك حُرِمَ القبول في هذا العمل، لأنه لم يأتِ بالمواصفات الربانية التي اشترطها ربُّ البريَّة لقبول الأعمال من جميع البرية، وهى الإخلاص، والإخلاصُ يعنى أن يطلب بالعمل وجه الله: ( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [14غافر]

وهذا العمل قد يظن البعض أنه في العبادات!! وهل هناك للمؤمن عمل ليس داخل في باب العبادات؟!!

– قيمة الإخلاص

إن المؤمن لو أخلص لله القصد والنيَّة، كانت حركاته وسكناته كلُّها بالكليَّة عبادةً وطاعةً لربِّ البريَّة عزَّ وجلَّ، حتى تناول الطعام، وحتى نكاح زوجته، وحتى مداعبة أولاده، وحتى تخفيف الحُزن عن مصاب، وعيادة المريض … كل عمل يستطيع الإنسان أن يجعله عملاً صالحاً متقبلاً عند الله إذا سبقه بنيَّة خالصة، بأن يبغى بهذا العمل وجه الله والدار الآخرة، ثم بعد ذلك يبغى إرضاء الخلق لا بأس، المهم أن ينوى أولاً وجه الله والدار الآخرة.

فلو عملت عملاً أبغى به وجه الله – وكنتُ قدوةً في مكاني – وعملت هذا العمل أمام غيري ليقتدوا بي كان لي أجران!! فهناك فرق بين ذلك وبين الرياء، فالرياء هو الذي لا يقصد صاحبه من وراء العمل إلاَّ الخلق، كأن يصلى ليقولوا عليه رجلٌ صالح، وإذا لَمْ يروه ربَّما لا يُصلى!!

ولذلك وضع الأئمة الكرام ميزاناً للأُمة في هذا المقام فقالوا: من عمل العمل في الظاهر أمام الخلق، وإذا عمله في الخفاء لا يزيد عن ذلك، أي أن عمله أمام الخلق كعمله بمفرده أمام الحق، فهذا هو الإخلاص. أما إذا كان يعمل العمل أمام الحقّ، وإذا رآه الخلق زاد في تحسينه، وزاد في تهيئة نفسه، فهذا داخله نوعٌ من الرياء، ليس كله رياء، ولابد أن ينزِّه نفسه عنه، أو إذا عمل العمل ورآه الناس تشجع واستمر فيه، وإذا عمله بمفرده لم يواصل وانقطع، فهذا فيه شبهة رياء لأنه يقصد بالعمل وجه الله عزَّ وجلَّ. لكن الأتم والأكمل والأفضل أن يعمل العمل يبغى به وجه الله سواء عمله أمام الحق فقط، أو أمام الحق والخلق، فإنه لا يبغى في كلتا الحالتين إلا وجه مولاه جلَّ في علاه.

وهذا ملحظ دقيق يلاحظه الصالحون في كلِّ زمان أو مكان، ليُخلصوا الأعمال لله عزَّ وجلَّ، فإن الله عزَّ وجلَّ ضرب مثلاً للعمل الخالص وقال فيه مُشبهاً له: { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } [66النحل]. يصنع الله عزَّ وجلَّ اللبن الذي نشربه من بين الروث الموجود في كرش الحيوانات والدم الذي يجرى في عروقها، لو وجدت في اللبن قليلاً من الدم لا تستطيع أن تشربه ولا تستسيغه، ولو وجدت فيه ولو قليلاً جداً من الروث لا تستطيع أن تشربه ولا أن تبلعه، ولكن الله خلَّصه من هذا وذاك، مع أنه خرج من بينهما – ليعرفنا كيفية الإخلاص لرب البرية عزَّ وجلَّ.

وأشار في ذلك الصالحون إشارة عالية في هذا المعنى القرآني – وإن كان المعنى الظاهري لا نهمله، بل نقرُّه ونعترف به – فقالوا: الدَّمُ إشارة إلى النفس، يجرى من ابن آدم مجرى الدم، والفَرْثُ إشارة إلى الجسم لأنه يتغذى من هذه الأشياء التي تخرجها بطن الأرض، فإذا كان العمل يتلذذ به الجسم، ويظهر به، ويحصل صاحبه على الإعجاب بسببه، فهذا العمل ليس خالصاً لله.

فالعمل بالجسم يراه الخلق، وإذا كان العمل ليراه الخلق ففيه شبهة، وإذا كان العمل لتَطَلُع في النفس – كحُبِّ الشهرة، وحُبِّ السمعة، أو الإعجاب بالنَّفْسِ، أو حُبِّ المدح، أو حُبِّ الثناء – كان أيضاً عملاً فيه شائبة رياء، ولكي يكون العمل خالصاً لله ينبغي ألا يكون فيه حظٌّ لا للنفس ولا للجسم، بل يكون الإنسان يبغى به وجه الله، والذي يتمتع به القلب الصافي – الخالي من النزغات والنزعات – الذي يتوجه به صاحبه إلى مولاه جل في علاه.

– الهجرة الدائمة

هجرة المؤمن الدائمة في كل لمحة، وفي كل طرفة إلى الله، لأنه في كل لمحة أو طرفة يتوجه بجارحة من جوارحه إلى حضرة الله بعمل، إما عمل يخرج من اللسان، وإما عمل تفعله العين، وإما خطاب تستنصت وتستمع إليه الأذن، وإما عمل باليد، وإما عمل بالقدم، وإما عمل بالفرج، وكل هذه الأعمال يستطيع المؤمن أن ينال بها رضاء الواحد المتعال إذا سبقها بنيَّة صادقة صالحة في هذا العمل، يبتغي بها رضاء الله عزَّ وجلَّ، ثم يتمِّمُها على نهج الحبيب. نيَّة ثم اقتداء بخير البريَّة، بهذا ينال العبدُ الأمنيَّة!! وقد قال الله عزَّ وجلَّ له – قل لهم: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) [163الأنعام]

فحياته كلُّها لله، بل موته كلُّه لله، كلمة الموت تعنى النوم، لأنه إذا نام فإنما يستعين بالنوم على القيام لطاعة مَنْ لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، فيكون نومه أيضاً لله، لأنه ينام رغبة في القيام بعد ذلك بنشاط في طاعة الله، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: { إنَّ عَيْنَيَّ تَنامانِ وَقَلْبي لا يَنامُ } (مسند الإمام أحمد عن السيدة عائشة رضي الله عنها).

إذا كان العمل لله لا يستطيع أجره ولا نوره ولا ثوابه غير الله عزَّ وجلَّ، حتى الملائكة المقربين لا اطلاع لهم على ذلك، والدليل أن الإنسان عندما يصوم ولا يعلم حقيقة الصيام إلا الله الذي لا تخفي عليه خافية، يقول فيه الله جل في علاه: { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ } (صحيح البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه). أي: أنا الذي أضع جزاءه وثوابه لأنه لا يستطيع وضع ذلك الثواب غيري – حتى الملائكة لا يعرفون ذلك.

أو إن شئت قلت: أن معنى (وَأَنَا أَجْزِى بِهِ): أنا ورؤية وجهي، ومشاهدة جمالي وجلالي وكمالي، هو جزاء الصائمين، وهذا في قوله عزَّ وجلَّ: { لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ } (البخاري ومسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه). فهذا أجر لا يستطيع أحد نعته ولا وصفه لأنها خصوصية من الله لصاحب هذا المقام.

وكل أعمال المُخلِصين والمُخلَصين يقول فيها الحبيب عزَّ وجلَّ على لسان رب العزة في حديثه القدسي: { الإخلاص سر من أسراري أستودعه قلب من أحب من عبادي، لا يطلع عليه شيطان فيفسده ولا ملك فيكتبه } (ورد في الخبر عن الحسن: {الإِخْلاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي أَسْتَوْدِعُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي}).

لأن المَلك لا اطلاع له على القلوب، وإنما يرى الأعمال ويسجلها كما يراها في الظاهر، أما الباطن فلا يعلمه إلا مَنْ يقول للشئ كن فيكون: { فَمَنْ كانتْ هِجْرَتُه إِلى دُنْيَا يُصِيبُها، أَوْ إِلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُها – أو ما شابه ذلك من الأمور الدنيوية – فَهِجْرَتُه إِلى ما هاجَرَ إِلَيه }.

– وَقْفَةٌ مَعَ النَّفْس

فكان الصالحون في كل زمان ومكان لهم في بداية العام الهجري وقفة صادقة لتصحيح مراد النفس ونواياها وطواياها، لتستعيد مكانتها عند مولاها وخالقها وبارئها عزَّ وجلَّ، فيسارعون إلى تخليص القلوب – وهى موضع الطوايا والنوايا – من كل شائبة تشوب الأعمال والأحوال والأقوال عند صدورها، لأنهم يراعون علام الغيوب عزَّ وجلَّ، حتى يَصلون إلى المقام العلى الذي يقول فيه المولى في كتابه القرآني: ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) [105التوبة].

أي: يجب أن تعمل وتعلم علم اليقين أن العمل الذي تعمله أو ستعمله – فيما يستجد من أيامك ويُستقبل من عمرك – سيراه الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذه الكيفية.

أي: اجعل الله أول قصدك، والتأسي بالحبيب غاية مرادك، والخلق إن كنت تريد أن يتأسوا بك ويقتدوا بك فهي في المرتبة الدنيا من نواياك وطواياك وأحوالك، تصيب القصد وتحقق المراد لأن هذا هو المنهج الذي وضعه الله عزَّ وجلَّ للسابقين والمقربين في كل زمان ومكان.

إذا غيَّر المرء هذا النسق وجعل غايته العظمى الخلق، وادَّعى بعد ذلك أنه يريد بعمله الحق، فإنه يغش نفسه: { مَنْ غَشَّنا فَلَيسَ مِنَّا } (صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما).

فأول العام الهجري وقفة مع النفس، راجع نفسك وراجع أعمالك التي عملتها في العام المنصرم، وضع لنفسك قاعدة تنال بها رضاء الله فيما يُستقبل من الأيام.

واعلم علم اليقين أن الخلق أجمعين لو اجتمعوا على أن يُثيبوك على عمل – ولو تسبيحة واحدة – لله ما استطاعوا أجمعين. واعلم أن الخلق أجمعين لو التفوا حولك وأحاطوا بك ما استطاعوا أن يُقربوك قدر أنملة لرضاء ربِّ العالمين، فاقصد الله عزَّ وجلَّ، وعامل الله بإخلاص وصدق ويقين.

بمثل ذلك يجدد الإنسان أحواله، بتجديد نواياه لله عزَّ وجلَّ. ولذلك كان بعض الصالحين لا يخرج من بيته متوجهاً إلى أي عمل حتى يُحقق نواياه، ويقول في ذلك: (إنِّي لا أخرجُ مِنْ بيتي إلاَّ إذا استجمعتُ سبعين نيَّة، كلُّها لله عزَّ وجلَّ). وسَبْقُ الصالحين ليس بالكم ولكن بهذه النوايا!! على سبيل المثال: لماذا جئتُ إلى هذا اللقاء؟

جئت لطلب العلم، وطالب العلم في سبيل الله حتى يرجع، هذه نية، جئت للتوادد في الله، والزيارة للإخوان الصادقين في الله، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: {مَن عَادَ مَرِيضاً أَوْ زَارَ أَخاً لَهُ في الله نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً } (سنن الترمذي عن أبى هريرة رضي الله عنه).

جئت لأقف على نفسي، أعرف ما لها وما عليها. ومحاسبة النفس أساس وضعه النبيُّ الكريم لأصحابه وأحبابه المباركين إلى يوم الدين، أن المرء يكون له وقت يحاسب فيه نفسه في كل يوم وليلة على ما قدَّم وعلى ما فعل، فإن وجد خيراً حمد الله تعالى على ذلك، وإن وجد غير ذلك تاب واستغفر الله تعالى من ذلك، فيدخل في قول الله عزَّ وجلَّ:  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) [119التوبة].

جئت لأُطهِّر قلبي وأدخل في قول رب العالمين في جماعة الحاضرين:( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ) [47الحجر].

نوايا لو أخذنا في استجماعها ما استطعنا تعدادها ولا سردها، لأن النوايا التي تجيش في قلوب الصالحين لا يستطيع أحدٌ أبداً عدَّها، لكن الرجل الصالح يعيش فيها ويحيا بها.

ولذلك قال رجل من تلاميذ محي الدين بن عربي رضي الله عنه: يا سيدي إن القوم يسألون عن الطريق وعلومه وأذواقه ومشاربه وفتوحاته، فبِمَ أقول لهم؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: (قل لهم: مَنْ لم يذق طعم العسل هل يستطيع وصفه؟ فسيقولون: لا، فقل لهم: متى يستطيع وصفه؟ فسيقولون: إذا ذاقه، قال فقل لهم: إن الطريق وفتحه لا يستطيع الحديث عنه ولا وصفه إلا مَنْ ذاقه – فهو كالعسل).

ليس علماً نظرياً، وليس سرد برهان يحتاج إلى أدلة وبراهين، ولكنه علم ذوقي يقول فيه الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [36الإسراء]. فأثبت الله عزَّ وجلَّ أن أدوات تحصيل العلم ثلاث: السمع مِنْ الغير، والبصر في الكتب أو في الآفاق، ثم الفؤاد وهو يتلقى من المَلك الخلاق عزَّ وجلَّ. فأثبت للفؤاد أنه وسيلة من الوسائل التي يُحصل بها العلم، ويُحصل بها الفهم، ويُحصل بها الذوق، ويُحصل بها الشهود، ولكن ذلك لأهله الذين خاضوا غماره، ومشوا على منوال الحبيب في عطائه، فأعطاهم الله عزَّ وجلَّ الجنى الداني الوارف لأهله، لأنه طعام لا يناله بالذوق إلا من صفا ذاته، ومشى على منهج أهله في عطائه ونواله.

– إخلاصُ القَصْدِ والنيَّة

فالشاهد أن الإنسان في بداية العام يُصفي قلبه لمولاه، وإذا صفا القلب فإن الله عزَّ وجلَّ يعمره بالنوايا الخالصة، لا يجلس الرجل العارف مع نفسه ويعُد النوايا، لكن الله عزَّ وجلَّ يقذف في قلبه نوايا من عنده تليق بمقامه، وهذا هو أول فتح يفتح الله به على الصالحين، أن يفتح الله له في قلبه باباً يتلقى منه إلهام ربه.

وأول الإلهام – الدليل على حُبِّ الله له – أن يُلهمه الله النوايا التي بها يرفع الله قدره، ويُعلى الله شأنه، ويجعله على قدم حبيبه ومصطفاه صلوات ربى وتسليماته عليه.

عندما رجعَ رسولَ الله من غزوةِ تبوكَ ودَنا من المدينة قال: {إنَّ بالمدينةِ أقواماً ما سِرتم مَسِيراً ولا قَطعتُم وادياً إلا كانوا مَعَكم. قالوا: يا رسولَ الله وهم بالمدينة! قال: وهم بالمدينة، حَبَسَهمُ العُذر } (صحيح البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه). ولذلك أعطاهم الله بالنية ربما ما لم يأخذه نفر ممن مشى مع سيد البرية صلى الله عليه وسلم في هذه السفرة، لأنه ربما خرج مسافراً ويُسر في قلبه النفاق، والمنافقون كانوا يسافرون معه ويحضرون معه بل ويحاربون معه، لكن ليس لهم عند الله أجر!! والمُخلصين الصادقين الذين بقوا في المدينة نالوا الأجر بالنية!!

فأعلمنا صلى الله عليه وسلم أن النيَّة هي التي عليها المُعوَّل، ولذلك يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: { إن حديث: (إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍٍ ما نَوَى) ربع الدِّين }، لأنه عليه الأساس من كل عمل: { رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلا السَّهَرُ وَرُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ } (مسند الشهاب عن ابن عمر).

وقالوا له: يا رسول الله الرجل يجاهد للذكر، والرجل يجاهد للغنيمة، والرجل يجاهد حميَّة لقومه، فمن في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: { مَنْ قَاتَلَ لِتكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ العُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ الله } (مسند الإمام أحمد عن أبى موسى الأشعري).

لذلك من قاتل للذكر أو للغنيمة أو حميَّة لقومه فليس له أجر، فالأجر على قدر النيَّة، مع أنه قاتل وحارب!! لكن الإمام الشافعي رضي الله عنه جعل ربع الدين على هذا الحديث الطيب: { إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات .. } لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم استخدم له أداة الحصر (إنَّمَا). ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: {نيَّةُ المؤمنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ} (فتح الباري وشرح الزرقاني).

ويروى أن الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة يُظهر فضل النوايا، فيأمر الملائكة بإحضار رجل معه أمثال الجبال من الأعمال الصالحة، فيقول الله تعالى: { … أَنْتُمُ الْحَفَظَةُ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا الرَّقِيبُ عَلَى نَفْسِهِ، إنَّهُ لَمْ يُرِدْنِي بِهذَا الْعَمَلِ، وَأَرَادَ بِهِ غَيْرِي فَعَلَيْهِ لَعْنَتِي} (رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما عن معاذ رضي الله عنه).

فالله عزَّ وجلَّ لا يعُطى الأجر إلا إذا كان العمل خالصاً لذاته عزَّ وجلَّ ، ولذلك تجد الصالحين أول تدريب عملي يقومون به للسالكين والمريدين والمحبين هو أن يتمرن المريد والسالك على إخلاص القصد والنية في كل حركة أو سكنة لله عزَّ وجلَّ ، ومن لم يستطع ذلك فقولوا له: ليس لك في هذا الطريق لا من قريب ولا من بعيد، لأن الله قال في قرآنه:} أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ { [3الزمر]، وقال: ( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [14غافر]، لابد من تحرى الإخلاص في كل عمل.

والإخلاص أن تقصد وجه الله في كل عمل، حتى كان شيخي الشيخ/ محمد على سلامة رضي الله عنه – عندما كان يمرُّننا على ذلك، كان يدرِّبنا إذا نزلت بلد للدعوة إلى الله، يقول: يا بُني كل ما اشتهيت قبل أن تذهب إلى القوم الذين تدعوهم إلى الله، حتى لا تميل نفسك إلى شئ مما عندهم، وتكون الدعوة خالصة لوجه الله عزَّ وجلَّ.

ويقول: لو ذهب داعياً إلى الله عزَّ وجلَّ إلى بلد وأفاض الله عزَّ وجلَّ عليه من العلوم ومن الإلهامات ما لا حد له، وبعد أن انتهى لم يدعُه أحد من أهل هذا البلدة إلى حتى تناول قدح شاي، إذا تغير قلبه على أهل هذه البلد بسبب ذلك فإنه يحتاج إلى أن يُرد إلى دائرة الآداب ليتأدب في رياض الصالحين، وحتى حديث الناس، فإن النفس تحب أن تُحَدِّث أو تُحَدَّث بما فعلت وما سمعت وما صنعت، فكان يقول: { يا بُنيَّ اعملْ ولا يهمُّك معرفة شيخك أنك تعمل، لأنك تعمل لله لا لشيخك }

هذا الإخلاص كان أصحاب حضرة النبِيِّ يلاحظونه في أدق المواطن، فقد ورد أن الإمام علىّ رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه طلب أحد الفرسان من الكافرين رجلاً للمبارزة فخرج له، فأخذا يضربان حتى سقط فرسيهما تحتهما موتاً من شدة الضرب والكرِّ والفرِّ، فترجلا وأخذا يضربان بعضاً بالسيوف حتى تكسرت سيوفهما، فاشتبكا مع المصارعة فحمله الإمام علىُّ وجلد به الأرض وركع فوقه وأخرج خنجره ليذبحه! فتفل الرجل في وجهه .. فقام الإمام علىُّ وتركه!!! فتعجب الرجل وقال: لِمَ تركتنى بعد أن تمكنت مني؟!! قال: كنت أقاتلك لله عزَّ وجلَّ فلما تفلت في وجهي خفت أن أقتلك انتقاماً لنفسي فيكون العمل غير خالص لربِّى عزَّ وجلَّ، قال: وهل تراقبون الله في هذه المواطن؟ قال: وفي أدق منها!!

كانوا يراقبون الله في هذه المواطن، يراقبون أن تكون الحركات والسكنات في كل زمان ومكان لا يرجون بها إلا رضاء الله وإلا وجه الله، ثم بعد ذلك يقومون بها على هيئة حبيب الله ومصطفاه، أي يتابعون الحبيب صلوات ربى وتسليماته عليه في هذا الحال.

لكن لابد أن تكون النيَّة أولاً لله عزَّ وجلَّ، ولذلك كانت كل أحوالهم طاعات، نومهم ذكر، وجلوسهم ذكر، وقيامهم ذكر، وحديثهم ذكر، ونظراتهم ذكر، وإمداد أيمانهم إلى غيرهم ذكر، ومشيهم بأقدامهم وسعيهم بأقدامهم إلى أي مكان ذكر، وأي حركة بالجوارح الظاهرة معها نيِّة باطنة، ولذلك أعمالهم كلها ذكر لله عزَّ وجلَّ لأنهم استحضروا النوايا والطوايا بعد أن طهروا القلب لله وجعلوا الأعمال خالصة لله، وفيهم يقول الله لحبيبه ومصطفاه: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) [28الكهف].

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يطهر قلوبنا، وأن يُصفي نفوسنا، وأن يجعل طويانا ونيِّاتنا كلَّها خالصة لوجه الله، وأن يجعلنا لا نبتغى بأي عمل إلاَّ وجه الله، ولا نرجو من وراء أي قول أو فعل إلا رضاه، وأن يرزقنا في كل أقوالنا وأعمالنا وأحوالنا متابعة حبيبه ومصطفاه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وصلى الله على سيِّدنا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلم


محاضرة بمقر الجمعية العامة للدعوة إلى الله بحائق المعادي  الخميس 26 ذي الحجة 1431هـ الموافق 2 ديسمبر 2010م.

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid