الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أول العابدين، وحامل لواء الحمد الأعظم يوم الدين، صاحب المقام المحمود والكوثر الممدود والسر المشهود، صلى الله عليه وعلى آله أهل الكرم والجود، وأصحابه من حضروا إليه مسلمين وفود، وكل من تابعهم على هذا العهد، وقام معهم على هذا الوفاء إلى يوم الدين، وعيلنا معهم أجمعين آمين آمين يا رب العالمين.
أيها الأحبة بارك الله فيكم أجمعين:
ألمحنا في اللقاء السابق إلى سرٍ من أسرار فقه شهادة أن لا إله إلا الله، والليلة نبين بإيجازٍ الواجب علينا جميعاً معشر المسلمين لحضرة الله تبارك وتعالى في عُلاه.
فالواجب علينا لحضرة الله تبارك وتعالى أمرين:
الأمر الأول:
هو معرفة الله تبارك وتعالى، لأن الله عز وجل لا يستطيع الإنسان أن يُصلي له ولا يعرفه، ولا أن يصوم ولم يعرفه، ولا أن يزكي أو يحج له أو يتعامل معه ولا يعرفه، فأول فريضة هي معرفة الله تبارك وتعالى ولا فريضة قبلها.
ومعرفة الله تبارك وتعالى بحرٌ ليس له قرار، وليس له حدٌّ ولا مقدار، نُلمع منها إلى قدرٍ محدود تطيقه النفوس والعقول والقلوب، وهو أن الناس في معرفة الله تعالى على أنواع:
منهم عامة المسلمين، وهؤلاء عاشوا في صفاء نياتهم وصحة قلوبهم على أنوار شهادة ربهم التي شهدوها في يوم ألستُ بربكم، والتي يقول فيها الله في كتاب الله:
ولذا كان من سلفنا من يمشي ويردد قائلاً: بلى بلى بلى، فسُئل عن ذلك فقال: أردد الشهادة لحضرة المعبود وأنا له من جملة الشهود، فكأنه يعيش في يوم ميثاق ألست بربكم وهو في هذه الحياة الدنيا، شهوداً وكشفاً وإطلاعاً، ويُلبي الله سبحانه وتعالى شفاهاً وكفاحاً.
فهؤلاء بحسب فطرتهم التي فطرهم الله عليها إيمانهم مستقرٌ في قلوبهم، ويتحركون ويفعلون بما تمليه عليهم أنوار قلوبهم، والفتوحات والإلهامات التي تُفاض عليهم من حيث لا يدرون وهي آتيةٌ إليهم من ربهم سبحانه وتعالى.
وهذا مقام كان يقول فيه سلفنا الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين:
[اللهم إيماناً كإيمان العجائز].
الذين عجزوا عن معرفة الله بالأدلة والبراهين، ولكنهم عرفوه بأشعة القرب والتنوير واليقين التي شهوها في يوم ألست بربكم، وقالوا: بلى كما قال الله سبحانه وتعالى: بلى شهدنا.
من ألست لم نسى ما قد شهدنا من جمال المعبود إذا خاطبنا
ويُروى أن واحدة من هؤلاء النسوة رأت الإمام الفرازي وحوله جَمٌّ غفيرٌ من الناس، فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا الذي جاء بألف دليلٍ على وجود الله تبارك وتعالى، فردَّت قائلةً: وهل الله سبحانه وتعالى يحتاج إلى دليل، إنه سبحانه وتعالى دليله به عليه.
وفيهم يقول القائل:
[عرفتُ ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي].
وهناك أدلة العقلاء والمفكرين وهي ناتجةٌ عن التفكر في الآلاء والتفكر في النفس، والتفكر يحتاج إلى صفاء القلب، وإلى إنكشاف أسرار الُلب ليشهد الإنسان بالله ولا يشهد بحظه وهواه، فيشهد في الكون السر الساري من أسرار الله سبحانه وتعالى في هذه الأكوان، ويشهد في نفسه عياناً أسرار الحي القيوم التي جعلها في كل حركة وسكنة، وكل عُضوٌ وكل شعرة من أعضائه بيانٌ عيانٌ لمن أراد أن يكون من أهل مقام الإحسان:
يا أيها الانسان يا صورة الرحمن، فإن الله سبحانه وتعالى خلقك باليدين، وخلق الملك بيد وخلق الملكوت بيد، فقال:
ففيك جمال الملكوت، وفيك ما في عالم الملك، فأنت ظاهرك يحوي كل ما في عالم الملك، وباطنك يحوي كل ما في عالم الملكوت، فشاهد إذا صفا سرك وإذا خلا قلبك هذه النعوت، ولذلك قيل: [تبصرك فيما فيك يكفيك].
وقد ألمعنا إلى شيئٍ من التفكر في اللقاء السابق نكتفي به الآن.
فإن العلماء الأجلاء الذين كشف الله لهم أسرار الحياة، وكشف الله لهم أسرار عالم الأفلاك، وكشف الله لهم عالم المعادن وعالم الأشجار وعالم النبات، وكشف لهم أسرار الأعضاء في جسم الإنسان ووظائفها التي من أجلها خلقها حضرة الرحمن، فهؤلاء يتبعون الأدلة العلمية، والأدلة العلمية توصلهم وتجعلهم يوقنون بأن الله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق وهو الرازق وهنا يُثبت الأئمة دليلان:
دليل الإيجاد ودليل الإمداد، فجملة هذه الكائنات كيف وُجدت من لا شيئ؟ ووجدت من العدم، وكيف تقوم حياتها؟ ومن الذي يمدها بكل ما يساعد على قيامها بحياتها؟ من طعامٍ ومن دواءٍ من شرابٍ ومن هواءٍ ومن حرارةٍ ومن رطوبة وغيرها.
فيشاهدون أسرار الإيجاد في كل الموجودات، وأسرار الإمداد لكل الكائنات، بما تريد أن تعيش به في الدنيا، وبما تريد أن تكون به من أهل التسبيح لمكون الكائنات سبحانه وتعالى.
وهذا دليل العلماء العاملين الذين يعملون بصدقٍ ويقين، ليشهوا دلائل قدره الله سبحانه وتعالى المنكشفة لهم في معاملهم وبتليسكوباتهم وتحت عيونهم، فيشهدون الله عز وجل في كل شيئ:
وإن نظرت عيني إلى أي كائنٍ تغيب االمباني والمعاني سواطعُ
وهؤلاء العلماء الأجلاء يهتدي الإنسان منهم إلى الله ويكون على يقينٍ شديد وبرهان أكيد لا تزلزله الجبال الراسيات، ولا الحديد ولو كان كالجبال الراسخات، لأنهم آمنوا إيماناً يقولون فيه:
﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (18آل عمران).
وهذا قد فصلناه بعض التفصيل في كتابنا: ﴿معرفة أهل الفناء﴿ فهؤلاء فنوا عن أهوائهم وحظوظهم وشهواتهم ونفوسهم، واحتيوا بكتاب الله والعمل بسنة رسول الله، ودوام الإقبال على الله، وشربوا شراب محبة الله من يد حبيب الله ومصطفاه:
فطَّهر هذا الشراب باطنهم من كل شيئٍ غير الله، فلم يشهدوا في الكون إلا حضرة الله سبحانه وتعالى.
فمنهم من يشهد أسماءه وصفاته هي التي تُجبِّر الأكوان، وهي التي تفعل كل شيئٍ بأمر الحنان المنان.
ومنهم من يشهد القدرة فيغيب بالكلية عن العالم الذي نحن فيه ويفنى بالكلية عنهم:
فنى من شاهد المجلى ونال الســــــر وارتاح
وغنى بالحقــــــائق من رأى الأشباح أرواح
ومنهم من يشهد أسرار الحِكَم، أسرار الحِكمة الإلهية المنبثَّة في كل العوالم الملكية والملكوتية، والعلوية والقدسية، فلا يشهد عالماً من العوالم، أو كائناً من الكائنات، إلا ويشهد فيه بعين يتفضل بها عليه خالقه وباريه، أسرار الحكم الإلهية المنبثة والمسطرة فيه.
وكلها إشارات لا تليق بها بعارات، نسأل الله تبارك وتعالى أن يعرفنا بذاته على ذاته، وأن يجعلنا من أهل المعرفة الكاملة به، إنه على كل شيئٍ قدير، وبالإجابة جدير.
أما الواجب علينا نحو الله سبحانه وتعالى بعد أن عرفناه حق معرفته، أن نشكره سبحانه وتعالى، نشكره على نعمة الإيجاد، ونشكره على نعمة الإمداد، ونشكره بعد ذلك على نعمة الهداية، ونشكره على نعمة الرعاية، ونشكره على نعمٍ لا نستطيع عدَّها، يقول الله تبارك وتعالى في شأنها:
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا﴾ (34إبراهيم).
لم يقُل: وإن تعدوا نعم الله، وإنما نعمةٌ واحدةٌ من الله تبارك وتعالى علينا لا نستطيع عد ولا حصر ما فيها من فوائد ادَّخرها الله لنا فيها، ومن منافع جعلها الله لنا فيها، فهذا أمرٌ لا يستطيع الإنسان أن يصل إليه، إلا إذا قربه الله له به إليه، ودخل في مقام:
﴿ وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ (282البقرة).
فيحدث بنعم الله تبارك وتعالى عليه من يتعظ بها، أو من يزيد شكراً لله بعد معرفتها، أو من يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بعد إلماع الإنسان إليه بحقيقة شأنها، فيتقربون إلى الله شاكرين، ولا يتحدث الإنسان بذلك فخراً ولا تباهياً، وإنما ذلك يكون من عمى الإنسان عن فضل حضرة الرحمن سبحانه وتعالى، فينسب الفضل لحضرة الله في كل عملٍ وفقه له مولاه، وفي كل نعمةٍ آتاها له حضرة الله تبارك وتعالى، فهذا هو الشكر باللسان.
والشكر بالجوارح والأركان:
أن يعين بهذه الجوارح بني الإنسان على إيصال حاجاتهم إليهم التي لا يتسيطعون الحصول عليها، أو على تدبير شئونهم أو على كشف الضُر الذي نزل بهم، أو على الأخذ بأيديهم إلى سبيل الهداية والرشاد، فيعين هؤلاء جميعاً على العمل الموصل إلى رضوان الله بكل جوارحه من جوارحه الحية.
فينطق بلسانه بالحكمة العالية التي يُذكر بها الآخرين، وينظر بعينه بعين الشفقة والرحمة على قلوب الفقراء والمساكين، فيرفعهم من نظرته إليهم إلى درجة الرضا والتسليم لرب العالمين.
ويمد يده إلى العصاة والمذنبين ليأخذ بأيديهم إلى الطريق المستقيم، وإلى الفقراء والمساكين ليغنيهم عن مد أيديهم إلى أي لئيم، ولو كان في نظرنا ثرياً لكنه شحيحٌ بخيل.
ويمد قدميه إلى الضعفاء والمنكسرين من أمة محمد أجمعين، فيزورهم ويودهم ويسُّرهم، فإن أحب العمل إلى الله إدخال السرور إلى عباد الله المؤمنين.
وهكذا كل جارحة من جوارحه يشكر بها الله فيؤدي بها النعم التي يطالبه بها بهذه الجارحة لمولاه تبارك وتعالى.
والشكر بالقلب والجنان:
أن لا يغفل لحظةً بلقبه عن ذكر حضرة الرحمن، فيكون حاضراً مع مولاه بقلبه في كل وقتٍ وآن، ذاكراً الله عز وجل بلقبه في كل شان، ويرى الله أقرب إليه من نفسه التي بين جنبيه، فيستحي أن يعصاه وهو ينظر إليه، ويستحي أن يراه غير مقبل على ما فرضه عليه، فيكون القلب كما قال صلى الله عليه وسلَّم:
[الراوي : ثوبان وابن عباس وعلي ـ المحدث : الألباني المصدر : صحيح الجامع].
فيكون القلب قائماً لله بالشكر، وهذا الشكر هو الذي يقول فيه الله:
﴿ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾ (13سبأ).
والشكر هنا ليس قولاً ولكنه عمل، ولذلك قال الله تبارك وتعالى:
﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (13سبأ).
الذي يشكر بهذه الكيفية الإلهية التي ذكرها الله في آياته القرآنية.
أما الشكر الأعظم لحضرة لله وهو شكر العارفين والمحققين والربانيين، فهو أن يصل الإنسان بعد تدبره في نفسه وفي الآفاق إلى عجزه عجزاً تاماً عن شكر رب العالمين سبحانه وتعالى على ما آتاه.
وهنا صعد الإمام أبو بكر الصديق رضي الله عنه المنبر وقال:
الحمد لله الذي لم يصل أحدٌ إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته، والإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه، وكان في قرية البرلس بكفر الشيخ ألقى قصيدة على بعض الإخوة:
إن كان شكرك فرضٌ فمن يقوم بشــــــــكرك
إنا عجزنا جميعـــــــــــــــــــاً عن أن نقوم بشكرك
وبعد عامٍ على التمام كان جالساً مع هؤلاء القوم الذين كانوا معه في العام السابق، فقال: ماذا قلت في قصيدة الشكر؟ قالوا: قلت:
إن كان شكرك فرضٌ فمن يقوم بشــــــكرك
إنا عجزنا جميعــــــــــــــــــــاً عن أن نقوم بشكرك
قال أكتبوا بعدها:
والعجزٌ حمدٌ وشكرٌ والعبد قد صار يُدرك
فنهاية الشكر هو العجز عن الشكر، أشكر إلهي عنا، فيطلب من الله أن يشكر عنا، لأننا عاجزين عن الشكر، ولذلك قال رضي الله عنه في البداية تفسيره لفاتحة الكتاب:
علم الله تبارك وتعالى عجز الخلق عن حمده، لأنهم عاجزين عن الإحاطة بنعمه، فحمد نفسه بنفسه، وارتضى هذا الحمد من خلقه، فقال: قولوا:
الحمد لله رب العالمين.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يجعلنا من عباده الذاكرين الشاكرين الفاكرين الحاضرين.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
الخميس: 11/11/2021 موافق 6 ربيع الآخر 1443 هـ دار الصفا الجميزه طنطا