• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

6أكتوبر2022

بعض الهبات والعطاءات الإلهية التي خصَّ الله بها النبي

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

بعض الهبات والعطاءات الإلهية التي خصَّ الله بها النبي صلى الله عليه وسلم

” وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ” (87الحجر)}

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله الذي خلقنا وسوانا واستودع الإيمان في قلوبنا، واختارنا لصحبة خير نبيٍّ، وأنزل علينا وشرح صدورنا لقراءة خير كتاب، وجعلنا بفضله ومنه لا بعمل عملناه ولا ببذل بذلناه ولا بشيء قدمناه داخلين في الأمة المجتباة التي يقول فيها عز وجل: ” كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ” (110آل عمران) اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد الذي آتاه الله السبع المثاني والقرآن العظيم، وأعطاه الكوثر المشهود والحوض المورود والمقام المحمود، صلى الله عليه وعلى آله الرُكع السجود وعلينا جميعاً معهم، واجعلنا بفضلك ومنك معهم في الدنيا ويوم الخلود يا أكرم الأكرمين.

نور قلوب المؤمنين

الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم شيِّق، وتشتاق إليه قلوب المؤمنين، لأن قلوب المؤمنين من نور حضرته صلى الله عليه وسلَّم، والشيء يحن إلى أصله، وقد قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَنَا مِنَ اللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ مِن نُورِي }[1]

هذا النور الذي يقول فيه الله: ” وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ” (40النور) ويقول: ” مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ” (52الشورى).

بسر هذا النور اشتقنا إلى حضرته، وبسر هذا النور تمتلأ صدورنا بمحبته، وبسر هذا النور نشعر دوماً بأننا في أمسِّ الحاجة إلى العمل بشريعته والاقتداء بحضرته، وبسرِّ هذا النور تحنُّ أجسامنا وأرواحنا إلى مناجاة الله في الصلاة، وبسر هذا النور نبذل النفس والنفيس في سبيل الوقوف على عرفات لإرضاء الله، وبسر هذا النور نتقرب إلى الله بالنوافل والقربات والطاعات عسى أن نحظى بحب الله تبارك وتعالى.

هذا النبي الصفيِّ لا يستطيع أحدٌ من الأولين ولا الآخرين أن يتحدث ببعض فضائله، أو ببعض العطايا التي تفضل بها عليه مولاه، ولكن نذكر بعض هذه الهبات والعطاءات الإلهية التي خصه الله بها دون سائر الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والخلق أجمعين.

السبع المثاني

فهو الذي قال له مولاه في مقام المواجهة: ” وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ” (87الحجر) لم يحظ بهذه المنزلة أحد من النبيين والمرسلين، والإيتاء من الله بدون واسطة أمين الوحي جبريل ولا غيره (ولقد آتيناك) يعني مواجهة.

ونبدأ دوماً كعادتنا بسبب النزول كبداية تشريعية، ثم نرتقي في الحقائق لتكون النهاية صوفية.

كان صلى الله عليه وسلَّم في مدينته المباركة، وكان معه من قبائل اليهود بني قريظة وبني النضير، فورد إليهم في المدينة سبع تجارات من جهات مختلفة فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتحتاج إليها النفوس في ذلك الزمان، فلما رآها أصحابه قالوا: يا رسول الله لو كانت لنا هذه التجارات وأنفقناها في سبيل الله وفي العمل على نشر دين الله، فخاطبه الله وقال: ” وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ” (87الحجر) يعني ما أعطيناك وما أوليناك وما وهبناك أعلى وأغلى وأرقى من هذه البضاعة الفانية الزهيدة التي ينظرون إليها، حتى يظل نظر المؤمن دوماً إلى الأعلى والأغلى في نظر الله، لا تنظر إلى الأعلى في نظر نفسك فإن النفس خسيسة ولا تحب إلا كل خسيس، ولكن اجعل محل نظرك دوماً عطاء ربك سبحانه وتعالى.

فقال له: ” وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ” هؤلاء أخذوا الدنيا الفانية، لكننا أعطيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم.

ما السبع المثاني؟ السبع المثاني لو تحدثنا عما فيها من معاني سنظل طويلاً ولم ننته من معانيها التي استودعها الله تبارك وتعالى فيها، ولكن نأخذ قبساً منها على سبيل الإستحسان.

ونقف دائماً عند حديث النبي إذا ورد في شرح الآية، فإذا ورد في الآية حديث للنبي فنكتفي به، فقد كان صلى الله عليه وسلَّم في مسجده الشريف فرأى رجلاً يُصلي نافلة، فناداه، فواصل الرجل وأكمل الصلاة، وبعد الانتهاء من الصلاة لبَّى نداء رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) ثُمَّ قَالَ لِي: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ }[2]

والآية التي في الحديث فيها سرٌّ عجيب وأمرٌ غريب، فيقول الله (استجيبوا لله وللرسول) وبعدها يقول: (إذا دعاكم) ولم يقُل إذا دعاكما، من الذي يدعو؟ رسول الله، ولذلك: ” مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله ” (80النساء).

ولذلك لم تنزل سورة الفاتحة على أحد من الأنبياء والرسل السابقين، ولكن خُصَّ بها النبي وأمته، وأمرنا حضرته أن نقرأ بها في كل ركعة من ركعات الصلاة لأن لها منزلة كريمة عند الله تبارك وتعالى.

ويكفي فيها أنها مثاني، والمثاني يعني مثنى مثنى، ففيها ثناء من العبد على مولاه، واستجابة الدعاء من الله، وهكذا علَّمنا النبي في أي دعاء نريد أن يستجيبه الله أن نبدأ أولاً بالثناء على الله، ونُصلي بعد ذلك على رسول الله، ثم نذكر الدعاء فيستجيبه الله تبارك وتعالى.

فنحن نبدأ فيها بالثناء على الله: ” الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ” (2الفاتحة) وهذا ثناء، ” الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ” (3-4الفاتحة) وبعد ذلك الدعاء: ” إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ” (5-7الفاتحة) قال الله تبارك وتعالى في حديثه القدسي:

{ قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: “الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: “مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ”، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ”، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ }[3]

يعني إذا سألت الله عز وجل بفاتحة الكتاب في أي أمر قضاه الله تبارك وتعالى، ولذلك السلف الصالح كان يجمعهم الفهم الصائب والقلب النيِّر فجعلوا الفاتحة في كل أمورهم، الفاتحة في بداية الزواج لإتمامه وتمام البركة بين الزوجين، والفاتحة في بداية أي عقد بين طرفين ليتم بخير ويرزق الله الربح للطرفين، حتى من أسدى إليَّ معروفاً ولم أستطع أن أكافئه على مثل هذا المعروف، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ }[4]

وخير دعاء فاتحة الكتاب، شخص سيُطعمنا طعاماً نقرأ له فاتحة الكتاب، شخص سيُؤدي لنا جميلاً في أي عمل، أو حقق الله لنا على يديه أي أمل نقرأ له فاتحة الكتاب، حتى ولو كان ميتاً نريد أن يرحمه الله ويرفع درجته ويتجاوز عن سيئاته، ماذا نفعل؟ كما نفعل في صلاة الجنازة، نبدأ فيها بفاتحة الكتاب ليشفعنا الله في هذا الميت ويغفر له ذنوبه ويتجاوز عن سيئاته ويكرمه الله بواسع الإكرام من أجلنا.

فإذاً فاتحة الكتاب قراءةٌ بين العبد وبين ربه، العبد يبدأ بالثناء والله عز وجل يستجيب الدعاء.

أيضاً سورة الفاتحة دون سُور الكتاب كل آية من آياتها مثنى، يعني كلمتين اثنين: ” الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ” (الفاتحة).

ففاتحة الكتاب كما أنبأ النبي صلى الله عليه وسلَّم هي القرآن العظيم، وهي السبع المثاني التي خصَّنا بها الله تبارك وتعالى كما أنبأ النبي صلى الله عليه وسلَّم.

المعنى الإشاري للسبع المثاني

الصوفية يقولون: السبع المثاني شيء آخر، قالوا: إن الله يقول في حديثه القدسي:

{ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ }[5]

وهذا لأي عبد يحبه الله، فتكون معه عين ظاهرة ينظر بها إلى خلق الله، وينظر بعين قلبه بنور مولاه ما خفي عن الأشباح النظر إليه في هذه الحياة:

قلوب العارفين لها عيونٌ

ترى ما لا يراه الناظرون

وأجنحةٍ تطير بغير ريشٍ

إلى ملكوت رب العالمينَ

والإمام أبو العزائم يقول في هذا الباب:

وإن نظرت عيني إلى أي كائن

تغيب المباني والمعاني سواطع

كل شيء في الوجود فيه مُلك وفيه ملكوت، له ظاهر وله باطن، له شهادة وله غيب، إن كنت أنا وأنت أو حتى الجمادات أو النباتات أو جميع الكائنات، فأنت وأنا هذا ظاهرنا، لكن في الباطن الروح والقلب الحقيقي والفؤاد والسر واللُب والعقل والخَفى والأخفَى وغيرها من الحقائق الباطنية التي أوعها الله عز وجل في هذه الطينة الآدمية، سر: ” فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ” (29الحجر) والعارفون يقول فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:

{ اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ }[6]

وهل نور الله في العين؟ لا، ففي العين نور الشمس، أو نور الكهرياء التي ترى بها العين، لكن نور الله تراه عين القلب وعين الفؤاد لأنه نور الله، والأعلى والأرقى من ينظر بالله، يقول في هؤلاء الله في كتاب الله: ” أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ” (122الأنعام) مات عن حظه وهواه وكل الشواغل التي في دنياه، واحتيا بكتاب الله وبأنوار حضرة رسول الله، وأصبح له نوراً في الدنيا يمشي به في الناس، والأمثلة لا تُعد ولا تُحصى من الصحابة الأكابر ومن الأولياء من بعدهم إلى يوم الدين، أدلة يقينية على النظر بعين القلب وبنور الله سبحانه وتعالى الذي يتجلى به على عباده المتقين.

الإنسان له لسان ظاهر يتكلم به مع الخلق، وله لسان في باطنه يتكلم به مع الملائكة، ويتكلم به مع الجمادات، ويتكلم به مع جميع الحقائق في الأرض وفي السموات: ” إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ” (30فصلت) يتحدثون معهم ويطول الحديث، هل أحدٌ ممن حولهم يسمع هذا الحديث؟ لا، لأن الحديث بلسان الروح ولسان القلب ولسان الفؤاد، ونحن لا نعرف لغة الملائكة ولا آذاننا الظاهرة فيها أصمغة تستطيع أن تلتقط وتترجم أصوات الملائكة، مع أن الملائكة معنا، وكل واحد منا معه مجموعة من الملائكة ويتكلمون مع بعضهم.

فعندما يقع الإنسان في ذنب فإن صاحب الشمال يريد أن يُحرر محضراً، فصاحب اليمين يقول له: انتظر لعله يرجع، لعله يتوب، حوار بينهما، هل أحد منا سمع هذا الحوار ولو مرة؟! لا، لماذا؟ لأن هذه الأذن لا تستطيع أن تحتوي نغمات هذا الكلام وتردداته، ولن تستطيع كذلك أن تترجمه في العقل والفهم والقلب، بل كل الكائنات التي حولنا تكلم بعضها، ولكن بألسنة لا يعلمها إلا الله، أو الذي يُعلِّمه الله: ” عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ” (16النمل).

وسيدنا رسول الله له القدح الأعلى في مخاطبة الطير والحيوانات والجمادات وكل الكائنات بما آتاه الله عز وجل من نوره العلي المبين.

الغاية أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم آتاه الله سبعاً من الأعضاء الظاهرة، ومعها سبعاً من الكمالات الإلهية الباطنة، ولذلك أتى المعجزات التي لا تُعد ولا تُحد، فكان ينطق بما في الصدور، عندما يأتيه أحدٌ من الصحابة ويريد أن يسأل سؤال، يقول له:

{ سَلْ عَنْ حَاجَتِكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَمَّا جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْهُ }[7]

يعني ما جئت تسأل عنه أخبرك به، من أين هذا؟ من النور الباطن الذي أعطاه الله له، العين التي رأى بها جبريل، والتي رأى بها الملائكة، والتي رأى بها المرسلين في بيت المقدس وصلى بهم، والتي رأى بها السماوات، والتي رأى بها الجنات، والتي رأى بها العرش، والتي رأى بها الكرسي، هل هي العين التي في الرأس؟ لا، فهذه لا شأن لها بهذه الرؤيات، ولكن رأى بالعين التي قال لنا فيها الله: ” لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ” كيف يرى في هذه اللحظة؟ بعد فنائه عن نفسه وكله ” إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ” (1الإسراء) تجلى عليه الله باسمه السميع فسمع، وتجلى عليه باسمه البصير فرأى.

ولذلك الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه سُئل: كيف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ربه؟ فقال رضي الله عنه: (فنى محمد بن عبد الله عن نفسه وجسمه وكله، وبقي بما فيه من مولاه، فرأى ما فيه من مولاه نور حضرة الله في غيبة محمد رسول الله) بماذا رأى؟ بما فيه من الله سبحانه وتعالى، وهذه الرؤيا التي سنراها في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[8]

هل بهذه العين؟ لا، هذه عينٌ ميتة، والميت لا يرى الحي، وما الذي سيحدث؟ سيتفضل الله عز وجل علينا بعطاء من ذاته، فننظر بعطائه لذاته، لكننا ليس معنا الأجهزة ولا المعدات لنرى هذه الأمور.

(ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) يعني سبعاً من الصفات الإلهية الربانية النورانية التي تنظر بها إلى جميع العوالم الظاهرة والخفية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم يوماً:

{ زُوِيَتْ لِيَ الْأَرْضُ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا }[9]

وفي بعض الأثر: (جُليت لي الأرض جلياناً، إني أعاين في كفي هذه كل ما سيحدث على الأرض إلى قيام الساعة).

هل كفه هذه؟ لا، ولكن هي إشارة للحاضرين، لكن الرؤيا تكون بتقدير وهبة من رب العالمين سبحانه وتعالى.

القرآن العظيم

وأعطاه أيضاً: (والقرآن العظيم) ما القرآن العظيم؟ الذي لا يُعظم من سمعه العظيم إلا إذا سمعه من الرؤوف الرحيم، فكلنا نسمع القرآن ولكن من قُراء يقرأون القرآن، لكن لو ارتقى الإنسان ونقله الله عز وجل إلى حالة الشهود والعيان، سيقرأ في القرآن: ” وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ” (106الإسراء) تقرأ على مكث إلى يوم القيامة، فكيف يقرأ القرآن؟ يرتقي إلى حالة شهود الحضرة المحمدية، ويقرأ بلسانه ويسمع ترتيل النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد عيانه بلسان حضرته، فيسمع القرآن من رسول الله.

والقرآن في ذاته الذي نزل على حضرة رسول الله يقول فيه الله: ” لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله ” (21الحشر) وقال له: ” نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ ” (193-194الشعراء) فقلبه صلى الله عليه وسلَّم تحمَّل ما لا تتحمله الجبال.

وأنت وأنا وكل هذا الجسم جبل، لو قُرئ القرآن من حضرة النبي على قلبك، في الحال سيحدث الخشوع والخضوع والحضور والمراقبة لحضرة الرقيب سبحانه وتعالى، وهذا حال العارفين الكُمَّل، وأحوالهم يضيق بنا النطاق عن الإشارة إلى بعضها فضلاً عن ذكرها.

وقد يقرأ القرآن مع حضرة الرحمن، فالله يقول في القرآن: ” اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ ” (3القلم) والواو هنا واو المعية، يعني اقرأ مع ربك، فمن يقرأ القرآن مع ربه ماذا يكون حاله؟!.

هذه ترقيات العارفين السالكين بصدق إلى طريق رب العالمين، فأنا لكي أرتقي أستحضر في البداية أنني وأنا أتلو القرآن أن سيدنا رسول الله حاضر معي، وبعد مجاهدات قد يحدث لي شيء من الفناء الجزئي فأرى صورة الحبيب صلى الله عليه وسلَّم منطبعة في قلبي وهي التي تتلو على لساني القرآن، وأنا أرى وأتمتع بوجه النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم حال سماع القرآن.

وهذا الذي يقول فيه سيدنا حنظلة عندما كان ذاهباً لحضرة النبي وقابله سيدنا أبو بكر فسأله:

{ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ }[10]

لماذا؟ لأننا شغلناكم بالأولاد وطلباتهم ومصالحهم وأنتم مكلفين بذلك، فلو أُخذتم بالكلية فمن الذي سيقوم بهذه المصالح لهؤلاء ؟! قد يحدث هذا للبعض، ولكن الأكمل أن يقوم الإنسان بالاثنين معاً، وهذا منهج حضرة النبي وأصحاب حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم ورضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.

قراءة الصِدِّيق للقرآن

ولذلك حتى سيدنا أبو بكر وأصحاب حضرة النبي كانوا عندما يقرأون القرآن يهزون قلوب الكافرين هزَّاً، سيدنا أبو بكر كان خارجاً من مكة مهاجراً فقابله جاره ابن الدغنة، فقال له: إلى أين؟ قال: مهاجر لأن أهل مكة يحاربوني، قال له: مالكَ من مَترك، أنا سأُدخلك في ضمانتي.

فدخل فصنع في بيته مسجداً وأخذ يتلو القرآن، فكانت نساء المشركين وصبيانهم يتجمعون حول بيته ليستمعوا إلى تلاوته للقرآن، وحاولوا أن يمنعوهم لم يستطيعوا، إلى أن ذهبوا للرجل ابن الدُغنة وقالوا له: اجعل أبا بكر يرد جوارك وإلا سنقتله لأنه سيفتن صبياننا وبناتنا وأولادنا، بماذا؟ بتلاوته للقرآن.

فهل تلاوته للقرآن كتلاوتنا جماعة المؤمنين؟ لا، فهي بأنغام روحانية وبسبحات نورانية عُلوية تؤثر حتى في الجمادات والصخور، لأن الله يقول في شأنه وفي شأن أهل النور: ” أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ” (17هود) يتلو وهو يشاهد ويرى، إذا قرأ آيات الجنة يعاين الجنة، وإذا قرأ آيات الملكوت يعاين الملكوت بتفضل من الحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى.

الجن وسماع القرآن

فماذا تكون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؟! كان يقرأ القرآن بعد أن رده أهل الطائف، وجماعة من الجن كانوا مارين فلم يستطيعوا أن يكملوا، وقالوا:” إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ ” (1-2الجن) هذا الكلام لم نسمعه قبل ذلك، وهذه النغمات وهذه الأصوات لم نسمعها قبل ذلك، لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقرأ في الدنيا كما يقرأ في الجنة لنا أجمعين إن شاء الله.

فآمنوا به بمجرد سماع قراءته للقرآن، فهل وعظهم أو طلب منهم الهداية؟ أبداً، كل ما في الأمر أنه كان يتلو القرآن، ولكن يتلو القرآن شهوداً وعياناً مع النطق باللسان.

لكننا نقرأ القرآن باللسان، وإذا كان النطق من اللسان فلا يتجاوز الآذان، حتى لو كان أجمل الأصوات في زماننا أو قبل زماننا، قد نُظهر علامات الإستحسان وفقط، فالرجل يقرأ الآية والكل يقول: الله الله الله، حتى أحياناً القارئ يقرأ آيات عن جهنم والكل يقول الله، ما الأمر؟ النغم، وكل قارئ عمل لنفسه عدة كوبليهات معينة يرددها في كل مأتم، ولذلك الإمام أبو العزائم يكلم رسول الله، فقال له:

يا حبيبي القرآن في كل واد

أفسدته النغمات بالألحان

الذي أفسد قراءة القرآن النغمات والتلحين، لكن هؤلاء كانوا يعتمدون على نغمات روحانية، وأنوار قلبية تُفاض من رب البرية تبارك وتعالى، وتؤثر في القلوب وتجذبها إلى حضرة علام الغيوب سبحانه وتعالى.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] الفوائد المجموعة للشوكاني

[2] صحيح البخاري وسنن أبي داود عن أبي سَعِيد بن الْمُعَلَّى رضي الله عنه

[3] صحيح مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[4]سنن أبي داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما

[5] صحيح البخاري وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[6] جامع الترمذي والطبراني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

[7] المعجم الكبير للطبراني ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد لابن حجر

[8] صحيح البخاري والطبراني عن جرير رضي الله عنه

[9] المعجم الأوسط للطبراني عن ثوبان رضي الله عنه

[10] صحيح مسلم والترمذي عن حنظلة بن الربيع رضي الله عنه

درس بعد صلاة العشاء المقطم – مسجد مجمع الفائزين 10 من ربيع الأول 1444هـ 6/10/2022

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid