Sermon Details

5 أبريل 2010م
تفريغ القلوب لرؤية الحبيب المحبوب
لكي نجهِّز أنفسنا لفضل الله، علينا أن نجهِّز القلوب، ولا يجهِّز القلوب للحبيب المحبوب إلا شيئان: الأول: العلم الوهبي النازل من سماء فضل علام الغيوب عزَّ وجلَّ، والثاني: هو الحب: فهو الذي يغسل القلب.
تفريغ القلوب لرؤية الحبيب المحبوب
—————————————-
الحمد لله الذي لا منتهى لكمالاته، ولا يستطيع أحدٌ أن يتأمَّل بنفسه في جمال ذاته، إلاَّ إذا تفضَّل عليه عزَّ وجلَّ بنوره وعطائه وهباته. والصلاة والسلام على الكنز العام الذي أولاه ربُّه كلَّ الإنعام، وجعله رحمة لجميع الأنام، سيِّدنا محمد وآله الذين محا الله بهم الظلام، وصحابته المباركين الذين نشروا هذا النور بين الأنام، وكلِّ من استنار بنوره، ومشى على ضوئه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني وأحبابي بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين:
علِم الله عجز الخلق أجمعين – الأولين والآخرين – عن إدراك بعض المعاني التي جمَّل بها سيد الأنبياء وإمام المرسلين، فتحَدَّث الله عزَّ وجلَّ عنه بذاته مبيناً لنا ما نستطيع أن ندركه ونستوعبه من صفاته، وإن كان صلى الله عليه وسلم فوق ذلك لأن الله عزَّ وجلَّ هو الذي أعطاه ذلك:
كل الوجود بأسره في دهشـة والكل عن درك الحقيقة حائر
عجز الورى عن فهم سـرِّ محمد لم يَدْرِه إلا الإله القــادر
من الذي يستطيع أن يدرك سرَّ: {اللهُ المعطِي وأنا القاسمُ} (صحيح البخارى عن معاوية رضي الله عنه، ونص الحديث: { مَن يُردِ اللهُ به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّين، واللهُ المعطِي وأنا القاسمُ، ولا تزالُ هذهِ الأمَّة ظاهرينَ على مَن خالفَهم حتى يأتيَ أمرُ اللهِ وهم ظاهرون }).
فحديث القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان رباني لحقيقة رسول الله، حتى نتعلق بذاته، ونحاول بما في وسعنا أن نتأسى بحضرته في كل حركاتنا وسكناتنا لأن الله عزَّ وجلَّ جعله باب سعادتنا في الدنيا، وباب نجاتنا وفوزنا في يوم الدين.
والأمر كما سبق ونقلنا قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: {أمسينا وما بنا من نعمة ظاهرة أو باطنة، في دِين أو دنيا، إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم سببها وهو الذي أوصلها إلينا}، ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ [18النحل].
وقد بيَّن الله في آيات القرآن التي استمعنا إليها – على قدرنا – مُجملاً من بعض صفات نبينا صلى الله عليه وسلم – أو كما قلنا سابقاً – بعضاً من مهامه أو وظائفه لنا: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا﴾، فهذه الصفة أو الوظيفة الأولى، ﴿ وَنَذِيرًا﴾ وهذه الثانية، والثالثة: ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ﴾، وهذه الرابعة: ﴿ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾، والخامسة: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [45-47 الأحزاب]. كل صفة من هذه الصفات تحتاج في شرحها إلى مجلدات، يكتبها ويبينها أهل المشاهدات، وأهل المكاشفات، وأهل العلوم الإلهامية التي يأخذونها من حضرة الله بالذات!! ومع ذلك يقولون ويبينون، وفي النهاية يقول قائلهم رضي الله عنهم أجمعين:
على قدري أصوغ لك المديحا ومدحك صاغه ربِّى صريحا
ومن أنا يا إمـام الرسل حتى أوَفِّي قدرك السامى شروحا
ولكنــِّى أحبُّك ملىءَ قلبى فأسعد بالوصال فتىً جريحا
وقد سبق وتناولنا قبساً من معاني قوله: ﴿ شَاهِدًا﴾، وهنا سوف أبين لقطة تهمنا كلنا في قول ربِّنا لنبيِّنا: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
من الذي عليه بشارة المؤمنين؟ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يبشر المؤمنين في عصره فقط، أم جميع المؤمنين إلى يوم القيامة؟ يبشر المؤمنين إلى يوم الدين. إذاً فهذه الوظيفة موجودة على الدوام وغير موقوفة، وذلك لكي يعلم الجهَّال الذين يقولون إنه قد أدى الرسالة وانتهى الأمر!! بل إن الرسالة ما زالت قائمة ومن ضمن وظائفها: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، يظلُّ صلى الله عليه وسلم يبشر المؤمنين إلى أن تنتهي الدنيا، فليس بعده نَبِيٌّ ولا رسول، وكما قلنا سابقاً كذلك سيشهد صلى الله عليه وسلم على الذين في عصره، وكذلك سيشهد لنا وعلينا وعلى الذين من بعدنا إلى يوم الدين.
إذاً يبشر سيدنا رسول الله المؤمنين في كل زمان ومكان، لماذا يا إخواني؟ لكي تعلو هممنا، وتربو عزيمتنا في الإقبال على الله، وفي العمل الموصل إلى رضاء الله جلَّ في علاه. ما الذي يجعل المؤمن يفرح في الدنيا بالطاعات، ويسعد ويستزيد من النوافل والقربات؟ إنها المبشرات الصالحات.
فلو أن الإنسان مارس الطاعات وواظب على النوافل والقربات ولم يأته شيء من المبشرات فإنه يتكاسل ويتباطأ ويتقاعس، بل إن العامل في أية مصلحة عندما يعمل بجد وإتقان فلن يُشجعه على مداومة هذا العمل إلا إذا سمع كلمة استحسان من مديره! أو تأتي منه علاوة تشجيعية! أو يجعل له مزية أو خصوصية! لكن لو كان العامل سيعمل ولا يعطيه أحد عبارة استحسان فإنه يقول لماذا أعمل؟! فلأكون مثل غيري. وهكذا الحال في كل أمر، فبشائر المؤمنين مستمرة إلى يوم الدين، قال صلى الله عليه وسلم: {لاَ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إلا المُبَشِّرَاتُ، قالوا: يا رسول الله، وما المبشرات؟ قال: الرُّؤْيَا الصّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُل أَوْ تُرَى لَهُ}. (مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها).
والرؤيا الصالحة إما رؤيا لها تأويل وتعبير، وإما رؤية حقيقية في العوالم الملكوتية، كمن يرى لقطة من الجنة، أو كمن يرى بعض ملائكة الله، أو يرى بسياحة روحه بعض زينة الله في عرش الله، أو في كرسي الله، أو في ملكوت الله جلَّ في علاه، لكن أعلى المرائي التي يتمتع بها أصحاب الرؤيا الصالحة أن يَرَوا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه قال: {مَنْ رآني في المَنَامِ، فَقَدْ رأى الحَقَّ، إنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَشَبَّهُ بي}. (ابن حبان عن أبى هريرة).
وخذها من أي وجه ” فقد رأى الحق” أي رآني رؤيا حقيقية ليس فيها خيالات ولا أوهام، أو خذها كما قال سيد الأكوان: رآني حقاً وليس خَلْقاً، لأنه له جانب خلقي وهو الذي كان به في الأكوان، وجانب حقي وهو الذي عليه على مدى الزمان، وبذلك فقد رأى الحقيقة المحمدية: { فَقَدْ رأى الحَقَّ، إنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَشَبَّهُ بي } وهذه هي أول المبشرات الصالحات.
بماذا يبشر رسول الله المؤمنين يا رب؟ قال ليس بالأجر والثواب – لأن الأجر والثواب لا يكون إلا بعد الإياب هناك في الآخرة – ولكنه يبشرهم: ﴿بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾. لهم الفضل، وهذا الفضل ليس بالعمل ولا بالسعي ولا بالجد والاجتهاد وإنما من كنوز المنن الإلهية ومن عين التفضلات الربانية، كما يقول بعض الصالحين: {قطرةٌ من بحر جودك تجعلُ الكافرَ وليَّـــاً والشقي تقيَّـــاً}
وهذا هو فضل الله جل في علاه: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [58 يونس]. ولذلك فإن أصحاب المناصب العالية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحاب الدرجات الراقية من المهاجرين والأنصار، ومن بعدهم من الأولياء والصالحين إلى يوم القرار أخذوها بالفضل، وإياك أن تظن أنها بالجهاد!! وأزيدك بياناً:
إن الذي يدخل بالجهاد فإنه من العُبَّاد، كالذي يُمسك بالمسبحة ويَعُد على الله تسبيحاته!! أو الذي يقف طوال الليل ويَعُد على الله صلواته!! إن كان قليلاً أو كثيراً، أو الذي يقرأ القرآن ويَعُد على الله ختماته!! فهل عدَّ عليك الله عزَّ وجلَّ النعم والآلاء التي غمرك بها في كل الأنحاء؟!! بل إن مفيض الفضل والجود والنعم قد تفضل عليك بهذه النعم فضلاً منه عزَّ وجلَّ، ولم يعايرك بسببها، ولم يَعُدُّها عليك، ولم يأمرك بتسجيلها، وكل ما يطلبه منك أن تشكره بالكيفية التي علَّمها لك في كتابه، وعلى منهج حبيبه صلى الله عليه وسلم.
إذاً فالعطاءات الإلهية والمنن الربانية خصوصية!! والخصوصية بالفضل، فكيف يأتى الفضل يا إخواني ومن أين؟ بأن يتعرض له الإنسان:
إذا تعرض عَبـْـدِى لنيل فضلى تحلَّى
بحلة الحســنى منّى وبالشهـود تملَّى
كيف أتعرض لفضل الله إذاً؟ يستلزم التعرض: أن تُجَهَّز لمولاك ولحبيب الله ومصطفاه، قلباً سليماً وحالاً مستقيماً، وحباً لحضرة الله عزَّ وجلَّ ولنبيه مقيماً لا يُبقى في القلب حبَّةً لغير هؤلاء الأحبة.
وتجهيز القلب لأنه هو الذي يتعرض لفضل الله، وفضل الله لا ينزل إلا على القلوب، أما خيرات الله فهي التي تنزل على الأجسام، لكن الفتح الإلهي والعلم الرباني والنور القدسي والكشف لا تتنزل إلا على القلوب: (القلب بيت الرب فطهره له بالحب)، فإذا صليت مثلاً ألف ركعة في الليلة هل ينظر الله إلى السجود والركوع والتلاوة والتسبيح في هذه الصلاة أم لغير ذلك؟ نسأل الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي قال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمُ وَلاَ إِلَىٰ صُوَرِكُمْ. وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلَىٰ قُلُوبِكُمْ} (صحيح مسلم عن أبى هريرة).
ينظر إلى ما في القلب، هل فيه إخلاص؟ هل فيه خشوع؟ هل فيه حضور؟ هل فيه صدق؟ هل فيه تبتل؟ هل فيه زهد في الدنيا؟ هل فيه ورع عن الحرام؟ هل فيه الصفات النبيلة الكاملة التي كان عليها النبي وأصحابه الكرام؟ بل ما كان عليه أنبياء الله أجمعون عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام؟ هذه هي التجهيزات التي يجب أن يكون عليها القلب، والتي تجعله صالحاً للتعرض لفضل الله وإتحافات الله وإكراماته!!
فإذا أنت أتيت كل يوم ببدلة جديدة فإنَّها للخَلْق، أما إذا أردت أن ترضى الحقَّ فإنه يريد منك بدلة واحدة فقط! بشرط أن تكون بيضاء، وتُلبسها للقلب: (أحب الثياب إلى الله البياض)، ولو أنك طهرَّتَ القلب إلى أن صار ناصع البياض كما خلقه الحق عزَّ وجلَّ، فإن نيران المحبة تتأجج فيه، وذلك لأن القلب أساساً مملوءٌ بحب خالقه وباريه، ولا تنطفئ نار المحبة إلا بالمشاكل الكونية والحظوظ والأهواء الدنيوية عندما أُدخلها في القلب، فتضغط على الحب لله ولحبيب الله ومصطفاه وتجعل حبَّ الدنيا هو الظاهر.
والمطلوب أن ترفع هذه الغواشي من القلب ليظهر حبُّ الله، لأن القلب أساساً مملوءاً بحب الله، فقد خلقنا الله عزَّ وجلَّ ووضع في قلوبنا نور محبته لأنه جعلنا من أحبته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ. فَإِنْ زَادَ زَادَتْ. فَذٰلِكَ الرَّانُ، ثم تلا قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾.} (سنن ابن ماجة عن أبى هريرة رضي الله عنه).
إذاً فقد جاء الحجاب من عند نفسك أنت !! أنت الحجاب !!، فإذا رفعت الغواشي صرت من الأحباب، وكُشف لك النقاب، وأُذن لك بدخول الرحاب، وتوجت بتاج أولى الألباب، وفُتحت لك كنوز حضرة الوهاب، وجعلك النبي صلى الله عليه وسلم لحضرته باباً من الأبواب …. هل فهمنا هذا واستوعبناه يا أيها الأحباب …. تصبح باباً لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً لكي يحظى الإنسان بفضل الله، ويرى البشائر من رسول الله بذاته عليه أن يتعرض، ولكي يتعرض عليه أن يدخل على دائرة القلب وينظفها ويطهرها من الدنيا والشهوات والحظوظ والأهواء، ولا يجعل فيه إلا هوىً واحداً يقول فيه صلى الله عليه وسلم: { لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به } (فتح الباري عن أبى هريرة رضي الله عنه).
فيكون هواه تبعاً لهوى رسول الله، وليس له هوى آخر، وإذا صلحت القلوب وخلت من العيوب فوراً كوشفت بالغيوب، وواجهت حضرة علام الغيوب، وسكنها وحل فيها الحبيب المحبوب، وأعطاها كل المنى والمطلوب، لأن هذا العبد أصبح قلبه خالياً لحضرة علام الغيوب عزَّ وجلَّ:
فرِّغ القلب من سـوانا ترانا يا مريداً جمـالنا وبهانا
واعلُ فوق البراق ليلاً فإنا نتجلَّى ليلاً لمن يهوانا
إذاً من يريد الفضل عليه أن يتعرض للفضل، وهذه يا إخواني مهمة الصالحين، لكنهم يريدون المريدين المستجيبين، المستجيبين!! لكن المريد أو المريض الغير مستجيب للطبيب ماذا يفعل معه الطبيب؟! ومعنى أنه غير مستجيب أنه يأخذ العلاج ولا يستخدمه! أو يأخذه أياماً ويتركه ولا ينفذ التعليمات! فإن قال له الطبيب لا تأكل السمين فإنه منه يستزيد، فماذا يفعل الطبيب؟!! إذاً من يريد الشفاء عليه أن يتبع تعليمات الطبيب.
وكذلك من يريد أن يحظى بالوصال عليه أن يكون مستجيباً لتعليمات الرجل القريب الذي أقامه الحبيب وجعله وسيلة للتقريب، فالذي يتردد على العيادة كل يوم مرة ولم ينفذ التعليمات بالمرة! وآخر يذهب إلى العيادة مرة في العمر ويأخذ الروشتة وينفذها، فأيهما الذي يتماثل للشفاء؟! بالطبع الذي يذهب ولو مرة واحدة ويستجيب بعدها.
ولذلك كنا نسمع ولا زال أن فلاناً ذهب إلى الرجل الصالح مرة واحدة في العمر وجلس معه قليلاً ثم انصرف!! وصار بعدها من الصالحين!! وهذا لأنه استجاب وأناب فرَقَى على براق الأحباب. وآخرون يجلسون دوماً على الأعتاب وكل همهم الطعام والشراب، ومن ذهب ومن جاء، ولا استجابة، فإلى ماذا يرتقون؟!! يرتقون إلى ما هم فيه، ولذلك فإن الشيخ الشعراني رضي الله عنه كان يقول: { قَلَّ أن يسلك في طريق الله عزَّ وجلَّ خادم للشيخ أو ابن الشيخ } لماذا؟ قال: { الخادم يرى من الشيخ الأمور البشرية فتحجبه عن الخصوصية التي خصَّه بها ربُّ البرية عزَّ وجلَّ }، وذلك لأنه يراه وهو يقول: هات الطعام وهات الشراب، أو أنا مريض هات الطبيب، فيقول إنه مثلى، فيُحجب عن الخصوصية!!
وكذلك ابن الشيخ قال عنه: { إنه يُفسده تدليل المريدين! }، كذلك من هم حول الشيخ والذين يُعظِّمهم الشيخ، من الذي يُعظِّمه الشيخ؟ إنهم الضيوف، عندما يجئ الضيف يقدمه ويواجبه ويكرمه، لكن هل هناك من يكرِّم ابنه ويهتم به؟ لا، ولذلك متى يعرف المريد أنه سينال فضل الله؟ قالوا إذا أنزله الشيخ منزلة ابنه، أي يعامله كأنه ابنه، فلا يتكلف له ولا يحوجه إلى الاهتمام أو إلى الرعاية وذلك لأنه بمثابة الابن.
إذاً لكي نجهِّز أنفسنا لفضل الله، علينا أن نجهِّز القلوب، ولا يجهِّز القلوب للحبيب المحبوب إلا شيئان: الأول: العلم الوهبي النازل من سماء فضل علام الغيوب عزَّ وجلَّ، والثاني: هو الحب: فهو الذي يغسل القلب. فمن الجائز أن هناك من يذكر باللسان، وكان سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه يقول في مثل هؤلاء الذين يذكرون بالمسابح – وباللسان على الدوام – والعين للخلق تنظر، والأذن لهم تسمع أو تتسمع، لذلك تجده عندما يذكر وآخر يتكلم بجواره يسمع كلامه ويرد عليه! عجباً! لذلك قال: (ذكر اللسان شقشقة) أما الذكر الحقيقي يا إخواني هو ذكر القلب.
فإذا ارتقى الإنسان من ذكر اللسان وسمع بنفسه أن قلبه يذكر ربَّه فيا هناه لأنه وقف على أول قدم في طريق الله، والقلب إن ذكر الله لا يغفل طرفة عين ولا أقل، حتى أنه عندما يقوم الإنسان من النوم يسمع قلبه وهو يذكر، وإذا تكلم مع فلان أو فلانة يسمعه أيضاً وهو يذكر، والقلب إذا ذكر حضر، ولا يتم هذا الأمر إلا بتجهيز القلوب وتطهيرها بالكلية والتعرض إلى فضل حضرة علام الغيوب عزَّ وجلَّ، ومن يفعل ذلك يحظى بـ: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [47الأحزاب].
هل هذه البشرى هناك في الآخرة؟ قال لا: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا﴾ أولاً ثم ﴿وَفِي الآخِرَةِ﴾ [64يونس]. وتتوالى عليهم البشائر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم من يبشره سيدنا رسول الله مرة واحدة في العمر – ومثل هذا يا هناه!! لأنه قال: {مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي}. (جامع الأحاديث والمراسيل عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه)، وهو خارج من الدنيا، وبذلك يبشر بحسن الخاتمة. ومنهم من يأتيه النبي كل أسبوع مرة ككثير من الصالحين!! ومنهم من يأتيه النبي عليه أفضل الصلاة وأتمُّ السلام في كل أسبوع مرتين كسيدي عبد الرحيم القنائي رضي الله عنه!! ومنهم من يرى النبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة مرَّةً كالإمام مالك رضي الله عنه. ومنهم من لا يغيب عنه النبى صلى الله عليه وسلم ليلاً ولا نهاراً بالمرَّة !كسيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه، يراه عياناً بياناً آناء الليل وأطراف النهار.
وهؤلاء رضي الله عنهم أجمعين لا يستطيعون أن يبيِّنوا ما تفضل الله به عليهم إلا لأهل خصوصيتهم، ولكن عليهم بعد ذلك أن يجهِّزوا غيرهم لحبيبهم صلى الله عليه وسلم. وهذا كما قلنا هو السبب أو الغرض الذي من أجله يذهب الناس للصالحين أو للعارفين أو المشايخ والمربِّين..
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل لنا نصيباً عظيماً من هذا الفضل الكبير، وأن يؤهل قلوبنا ويجهِّز أسرارنا للفتح الأعظم من حضرة نبيِّنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المنيا ، بتاريخ 20 من ربيع الثاني 1431هـ الموافق 5 من أبريل 2010م.