قولوا جميعاً: اللهم ارزقنا علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ضارعاً وعملاً رافعاً، ونعوذ بك من علمٍ لا ينفعن ومن قلبٍ لا يخشع ومن لسانٍ لا يضرع ومن دعاءٍ لا يُسمع يا رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
المسلمون – في عصرنا هذا – وجدنا منهم طوائف كثيرة، وكل طائفة تدَّعي أنها صاحبة الإسلام الصحيح، وهي وصيِّة على الإسلام، وغيرها لا له شأنٌ به، فكيف نعرف هذه من تلك؟ وما الحكم فيها؟ .ربُّ العزِّة عزَّ وجلَّ لم يترك هذا الأمر سُدى، وبين لنا في كتاب الله – كما استمعنا قبل الصلاة – بياناً شافياً.
مَنْ هو على الطريق الصحيح الذي نراه في هذا المجتمع؟، الذين وصفهم ربنا: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)، مَنْ جاءوا بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة – كلهم، ومَنْ يكونون؟!!، الذين مدحهم ربنا هنا: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالايمَانِ) (10الحشر). هؤلاء القوم الذين وصفهم ملك الملوك عزَّ وجلَّ.
فهؤلاء هم الذين على الحق وعلى الصدق وعلى اليقين، وهؤلاء الذين سبقوا في الإيمان بالله وقالوا: (آمنا). آمنا بأى شيء؟!!، آمنا بكل ما جاء به الله في كتاب الله، وكل ما سنَّه لنا ووضَّحه لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لا اعتراض لهم على ما في كتاب الله، ولا امتعاضٍ على شيء ثبت في حديثٍ صحيحٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. يمشون على القرآن والسنة، وهذا الذي قال لنا فيهم الحبيب صلى الله عليه وسلَّم: (تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً)، ما هم يا رسول الله؟، قال: (كتاب الله وسنتي) . ما سرُّ الخلافات التي نشأت بين الطوائف الإسلامية؟
الآراء التي دخلت ونُسبت إلى المشايخ، فيقولون: شيخنا رأيه كذا، والآخر يقول: شيخنا قال كذا، فَلِمَ لا نترك هذا الشيخ وذاك الشيخ ونرجع إلى رسول الله وكتاب الله؟. لو تركنا الخلافات بين المشايخ، فهل سيوجد خلافٌ بين المسلمين؟ أبداً. كل طائفة هل تنتصر للكتاب والسنة؟، لا، هل لرسول الله؟ لا. ولمن ينتصرون؟ لشيخهم!! – وهل شيخهم جاء له وحيٌ، لا – فشيخك يبين على قدر ما علَّمه الله، ولو آتاه الله قلباً صادقاً صافياً خالصاً فلن يختلف مع جماعة المؤمنين أبداً ما دام يريد الله عزَّ وجلَّ. فلماذا يختلف؟، ومن أين يأتي الخلاف؟!!
يأتي لمن له مصلحة ومن له منفعة في الحكم الشرعي، ومَنْ له ميل وهوىً في أمر ما، ومن له ميلٌ في ناحية معينة. لكن إذا كنا كلنا لا نريد إلا الله ورسوله فلماذا نختلف؟ لن يوجد شيءٌ من هذا – فنكون كأصحاب رسول الله تماماً بتمام، حتى ولو اختلفنا في الرأي، فقد كان أصحاب رسول الله يقولون: ((الإختلاف لا يُفسد للوُدِّ قضية)). أنت لك رأي وأنا لي رأي، لكن لا يصل أنني أحاربك أو أشنَّع عليك، أو أسُبٌّك وأشتمك، لأن هذا ليس من الإسلام في قليلٍ ولا كثير. الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه كان يقول: ((كل عالم رأيته يسُبُّ أحداً من العلماء فلا تأخذ منه علماً)). لأنه كيف يكون عالماً ويسبُّ العلماء الآخرين؟!!، لأن أول شيء في العلم: الأدب.
الإمام مالك رضي الله عنه تلقَّى العلم عن شيخه وكان اسمه الشيخ ربيعة – فيقول: صحبتُ الربيعة عشرين عاماً، ثماني عشر سنة في الأدب – وهذا أولاً – وسنتان في العلم، ثم قال: يا ليتها كلها كانت في الأدب. لأن الأدب هو الأساس الأول الذي أمرنا به ربنا، وعلمنا أن هؤلاء القوم هم الدليل، مؤدبين يقولون: (آمنا) – يا رب، كالسابقين من أصحاب النبيِّ الأمين. وهل الإيمان يا إخواني يتجزأ؟!!، وهل كل جماعة لهم إيمان خاص، أم أن الإيمان واحد؟!. كل من قال: (لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله) فهو أخي، كما قال ربنا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (10الحجرات).
فلا توجد التفريعات ولا المنازعات التي ظهرت الآن، فلم تكن موجودة أيام الصحابة، ولا أيام العلماء العاملين، ولا أيام التابعين بإحسانٍ للخلفاء الراشدين والصحابة المباركين. لم تكن موجودة هذه المنازعات الكثيرة، لأنهم كانوا يأخذون الإيمان على الفطرة والسليقة، ما دام قد قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فيكون أخي في الحال والتو. (آمن) – بالإيمان الذي كان عليه رسول الله وأصحابه المباركين، وبعدها ماذا يطلبون من الله؟ أن يغفر الله لهم. ومن معهم؟
(ربنا فاغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان): لأن النبي علمنا وقال لنا كلنا: (أذكروا محاسن موتاكم) . كل من مات من موتى المسلمين – من اليوم إلى يوم القيامة، حضرة النبي قال: لا ينبغي لمسلم أن يذكر سوءاته، ولا أن يُشير إلى عيوبه، لأن الله ستره ووضعه في التراب، فلا يصِحُّ لي أن أُنقِّب عن مساوئه وأنشرها وأشهِّر به. لا، أنا أذكر محاسنه والتي أعرفها عنه.
عندما أسمع من أحدٍ يذكر العلماء الأجلاء السابقين ويُجرِّح فيهم، ويدعي أنه عالم!!، هل هذا عالم؟ أين علمه هذا؟!!، فلو عنده شيءٌ من العلم لتذكَّر حديث حضرة النبي: (أذكروا محاسن موتاكم). من في المعاصرين يصل إلى فقه الإمام مالك؟!!، أو ورع الإمام أبي حنيفة؟!!، أو بصيرة الإمام الشافعي؟!!، أو زهد الإمام أحمد بن حنبل؟!!. هل يوجد من يصل إلى هؤلاء؟!!. فنجد شاباً من شبابنا – حديث العهد!!، وقرأ كتاباً أو كتابين!! – ويقول: أبو حنيفه صفته كذا، ومالك صفته كذا، ويُجرِّح ويشتم ويسُبُّ!!. ما هذا؟!!، وهل هذا هو الإسلام؟!! الإسلام يقول: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالايمَانِ) (10الحشر).
هؤلاء القوم ليس لنا شأنٌ بهم، حتى المسائل الخلافية التي كانت بينهم، أيضاً ليس لنا شأنٌ بهم، فيأتي في زماننا البعض يقول: سيدنا علىٌّ كان على الحقِّ، والبعض يقول: لا، إن سيدنا معاوية كان على الحقِّ، ما لنا ولهذا الموضوع!!، فهذا شيءٌ في القضاء الإلهي، ومادام قد تحول إلى القضاء الإلهي، فهل يحِقُّ لأحدٍ أن يتكلم في قضية قبل حكم المحكمة؟!!، حتى في الدنيا هنا – محظور الكلام في أى قضية إلا بعد حُكم المحكمة، لأنهم قد انتهوا من هذا الأمر.
سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وكان خلفاء من بني أمية يجعلون الخطباء في خطبة الجمعة الثانية يسبُّوا الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وهذا الكلام بعد زمن معاوية، لأن في أيامه لم يكن موجوداً هذا الكلام، كان هذا في زمن إبنه يزيد ولذلك يقولون: ((إن كنت تريد أن تلعن فالعن يزيد ولا تزيد))، لأن معاوية كان صحابياً وكاتب وحي ونسيب حضرة النبي، لأن أخته كانت متزوجة حضرة النبي.
فسيدنا عمر بن عبد العزيز يقول: تحيَّرت في هذا الموضوع، فنمت ليلة فرأيت حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم واقفاً في بهوٍ قصر كبير – كأنه محكمة – وعن يمينه سيدنا أبو بكر، وعن يساره سيدنا عمر، وبعد قليل جاء سيدنا عليٌّ فسلَّم عليهم ودخل خلفهم وكان خلفهم ستارة، وهذه الستارة فيها المحكمة، وبعدها جاء سيدنا معاوية وسلَّم عليهم ودخل خلف الستارة، والإثنان في المحكمة، وبعد قليل خرج الإمام عليٌّ وقال: قُضيَ لي وربِّ الكعبة، يعني المحكمة حمكت لي. وبعدها خرج سيدنا معاوية فقال: غُفِرَ لي وربِّ الكعبة، يعني المحكمة حكمت ولكن مع إيقاف التنفيذ.
إذن ما لنا ولهذا أو بهذا؟!!، ولِمَ نخوض في هذا أو ذاك؟!! لأنه أمر لا ينبغي أن يخوض فيه المؤمن، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم: (إذا ذُكر أصحابي فامسكوا) – إياكم أن يخوض أحدكم فيهم، وفي رواية أخرى: (إذا ذُكر أصحابي فإياكم وإياهم، فإن أحدكم لو أنفق مثل الأرض ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) . لو أنك ملكتَ الجبال كلها وكانت ذهباً وأنفقتها، لا تساوي مُدًّا من الجماعة الذين كانوا ينفقوه في سبيل الله، لماذا؟!!، لأنهم نصروا دين الله وشرع الله في بدايته – مع ما تحملوه من أهوال – وكل ذلك كانوا فرحين به، إرضاءً لله ونصرةً لحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
أيضاً من تابعوهم بإحسان، والذين جاهدوا وبينوا التشريعات الإلهية وأراحونا، من منا كان يستيطع أن يقتبس من كتاب الله ومن سنة رسول الله هذه الأعمال التي نعملها، والتي أهداها لنا الأئمة الأربعة على طبق من نور؟!!، فقد يسروا لنا الأمور كلها، أعطاهم الله فقهاً في الدين، ورعاً وزهداً وتُقى، وكانوا كلهم أولياء لله عزَّ وجلَّ – مع أنهم علماء.
الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه – كان لا يمشي في المدينة إلا حافياً!!، لم تكن قد رُصفت بعد، وكان لا يقضي حاجته إلا خارج المدينة، يخرج خارج المدينة بعيداً ليقضي حاجته – يتبوَّل أو يتغوَّط – وكان لا يذهب لتدريس العلم والحديث في مسجد رسول الله إلا بعد أن يذهب لبيته يغتسل ويتطيب ويلبس أحسن ما عنده، لماذا؟!!، لأنه ذاهب ليُدرِّس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. يحكي بعض تلاميذه أنه كان جالساً على الكرسي، والإمام يدرس ومعه مجموعة من تلاميذه، وجاءت عقرب فلدغته، فتفزَّز وأكمل الدرس، دارت حوله مرةً أخرى ثم لدغته، فيقول: أحصيتهم فكانوا سبعة عشر مرة، وكل مرة يتفزز ويكمل الدرس، بعد إنتهاء الدرس ذهب ليحدثه، فقال له: أنا أعرف ما تريد أن تقوله، فقد كرهتُ أن أقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أجل لدغة عقرب.
أين مثل هؤلاء في زماننا الذي وصل لهذا الحال؟!!، يتحمَّل لدغة العقرب سبعة عشر مرةً ولا يريد أن يقطع الدرس، لماذا؟!!، لأنه يرى أن هذا درس وحديث رسول الله فلا ينبغي أن يقطعه أبداً، ولذلك كان يقول رضي الله عنه: ((ما بتُّ ليلة إلا ورأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في المنام)) .
لا تمر ليلة ينام فيها إلا ويرى رسول الله في المنام، لماذا؟ لتقواه!!. ومثله الإمام أبو حنيفة، ومثله الإمام الشافعي، ومثله الإمام أحمد بن حنبل، كانوا كلهم علماء وأولياء، ومن شاكلهم من الجماعة العلماء في شتَّى فنون المعرفة الإسلامية.
فما واجبنا نحوهم؟، أن ندعوا الله لهم، ونقول: جزاهم الله خيراً عما قدموه لنا وللمسلمين، وهل بعد ذلك نجرَّح فيهم، أو نسُبُّهم أونشتمهم؟!!، حتى أنت لو واحد في عصرك وكلامه لا يعجبك، الدِّينُ يقول لك: يجب أن تجلس معه، وتتناقش معه، لربما تكون حجته أقطع من حجتك. لكن هؤلاء لم نجلس معهم!!، ولم نناقشهم!!، فلمَ نجرِّح فيهم؟!!.
إذن فمن يجرِّح في هؤلاء العلماء الأجلاء السابقين أجمعين – إن كان العلماء أو الأولياء أو الصالحين أو غيرهم – فهذا يكون خارج حُكم هذه الآية التي ذكرها لنا رب العالمين: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالايمَانِ)، والذين نحن معهم في عصرنا؟!!، (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (10الحشر). لا تُبقي لا غلاًّ ولا حقداً ولا كُرهاً ولا حسداً ولا بُغضاً بيننا وبين المؤمنين المعاصرين.
فعندما أرى أحد العلماء، أو من هو منسوباً للعلم – فيظهر في التليفزيون ويسبُّ في أحد العلماء المعاصرين – فليس بعالم، ولا نأخذ عنه العلم، ولا أقبل كلامه، لأنه خالف النهج الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. لا يوجد مؤمن يشنِّع على مؤمن، قال صلى الله عليه وسلَّم: (من قال في مؤمنٍ كلمةً يُشينه بها، أرداه الله في طينة الخبال في جهنَّم يوم القيامة) . من يحاول أنه يُشوِّه سمعة مؤمن واحد – حتى ولو كان عادياً – في الدنيا، فربُّنا يضعه في طينة الخبال، وهي عُصارة أهل النار في جهنَّم والعياذ بالله عزَّ وجلَّ.
فكيف يكون عالماً ويُجرِّح في هذا، ويشتم في ذاك؟!!، ونسمع منهم ألفاظاً لا ينبغي أن تُقال حتى من الجُهَّال!!، وفيمن؟ في إخوانهم العلماء!!.
فالسادة العلماء الأجلاء لم يكونوا هكذا، فالإمام الشافعي رضي الله عنه كان يقول: ((ما ناظرتُ عالماً قطّ، إلا وددتُ أن الحق يظهر على لسانه لا لساني)). أنا أريد أن يظهر الحق – يظهر وانتهى الأمر، على لسانه أو على لساني فهذا لا يهم – لأننا جميعاً نهدف إلى الحق، وما دام كلنا هدفنا هو نُصرة الحق وإظهار الحق، فَلِمَ نختلف؟!!، أنت لك رأي، وأنا لي رأي، والدين واسع يقبل كل الآراء. الدين الإسلامي لم يأتِ على رأيٍ واحدٍ، لأنه وسع الناس جميعاً.
فكل حُكم شرعي فيه حكم للسليم، وحكم للمريض، وحكم للمرأة، وحكم للرجل، وحكم لمن يعيش في البلاد الحارَّة، وحكم لمن يعيش في البلاد الباردة، كلهم في دين من؟ في دين الله عزَّ وجلَّ، والرسول كان يفعل ذلك وهي من سنته. (جاءه شاب صائم فقال: يا رسول الله هل القبلة تبطل الصيام؟ قال: نعم، ثم جاءه رجلٌ كبير عجوز وقال: هل القبلة تبطل الصيام؟ قال: لا) . فيُعطي كل واحدٍ ما يلائمه.
فعندما أُعطي حكم الشيخ للشاب فهنا قد أخطأت لأنني أقربه للوقوع في الخطيئة، ولو جعلتُ حكم الشاب للشيخ فقد شدَّتُ لأن الرجل لم يعد له رغبة في هذا الأمر، فيعمل هذا العمل لإرضاء خاطر أو غيره، فالدين جعل لكل سنٍّ حُكم وللرجل حكم وللمرأة حكم وكل الأحكام سارية في المسلمين في جميع الأيام.
ولذلك فالجماعة الفقهاء الأربعة كان خلافهم ليس فيه لا سبٌّ ولا شتمٌ ولا لعن، هل سمعنا في يومٍ من الأيام أن الجماعة المالكية سبوا الجماعة الشافعية؟، لا، لأن هؤلاء أخذوا من الدين وهؤلاء أخذوا من الدين، وكلهم أخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. فلم نسمع بالسبِّ والشتم في غير عصرنا هذا، لماذا؟ من يتكلم يريد أن يجعل رأيه هو رأي الدين، وكل الآراء الأخرى ليست من الدين، لماذا يا أخي؟!!، لِمَ تُحجِّر واسع رحمة الله عزَّ وجلَّ؟ أترك دين الله واسعاً، وكل واحد يأخذ منه ما يكفيه.
لكن أنظر إلى الأئمة الأجلاء، فالإمام مالك عمل كتاباً اسمه الموطأ، جمع فيه أحاديث رسول الله، وفيه أصول مذهب الإمام مالك. زار الخليفة هارون الرشيد – وهارون الرشيد كانت دولته من بلاد المغرب إلى بلاد الصين، وكلها كانت دولة واحدة – فجلس مع الإمام مالك وقال له: أنا أريد أن آخذ كتاب الموطأ وأجعل كل البلاد تطبِّق ما في هذا الكتاب، ويكون هو الكتاب الوحيد في الفقه في كل المملكة. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، قال له: لماذا؟، قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تفرقوا في البلاد، ومع كل رجلٍ منهم فقه، فلا تحجِّر واسع رحمة الله عزَّ وجلَّ.
لماذا تجعل كل الناس يمشون على رأي واحد؟!!، أترك كل جماعة يمشون على الرأي الذي يناسبهم، وكله من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
الإمام الشافعي كان هناك في العراق، وعمل مذهباً هناك في العراق، فانتقل إلى مصر فوجد الأحوال في مصر تختلف عن الأحوال في العراق، فعمل مذهباً آخر جديداً يوافق أهل مصر، لماذا؟ لأن هذا شرع الله عزَّ وجلَّ.
فدين الله صالح لكل زمان ومكان، ولا يوجد حتى واحد من أصحاب رسول الله جمع كل الآراء التي هي في شرع الله، فكل واحد تناول جانباً، إذن فلماذا أريد أن آخذ برأيي وأنه الصواب وباقي الآارء كلها خطأ، فهذا لا ينبغي أن يكون في دين الله.
ونرى منهم الآن بعض الضالين الذين يقولون: نحن المسلمون وهؤلاء كلهم كفارا – مع أنهم يصلون ويصومون – ويستحلون دماءنا، ألا يحدث هذا الآن؟ والرسول قد نبأ عنهم، وخبَّرنا عن أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلَّم في شأنهم:
(سيظهر في آخر الزمان شبابٌ حُداث الأسنان ـ أى صغارٌ في السن ـ يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم ـ أى من أفواههم ولم يصل إلى قلوبهم وصدورهم ـ يمرق أحدهم من الدِّين كما يمرق السهم من الرميَّة، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان)، حربهم يشنونها على المسلمين، أفلا تحاربون اليهود؟!!. يقولون: لم نؤمر بحرب اليهود، وهل الأمر عندكم بحرب المسلمين فقط؟!! يقولون: نعم!!. كما قال النبي: (يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان)، ثم يقول صلى الله عليه وسلَّم: (فقتلاهم شر قتلى، وقتلاكم خير قتلى، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإنهم كلاب أهل النار) .
لماذا؟ لأنه يضرب مسلماً، المسلم عندما يقول: (لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله) فقد انتهى الأمر، قال صلى الله عليه وسلَّم: (من قال: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله فقد عصم مني ماله ودمه) . لا يجوز لي أنني آخذ شيئاً من ماله، ولا يجوز أنني أجرحه، حتى ولا أُشير إليه بحديدة، لأنه مسلم، بل ينبغي عليَّ أن أدافع عنه إذا تعرَّض لأذى.
فهؤلاء كلهم طوائف، وربنا عرفنا بالطائفة الحق والتي في الآية التي قرأناها حالياً وهم الذين يحترمون السابقين، ومؤدبون مع المؤمنين السابقين أجمعين، ويقولون: ما لنا وما لهم، فحسابهم على الله، هل أُحاسب أحداً قد مات؟!!، لا – حسابهم على الله عزَّ وجلَّ، يجتهدون في أن تكون قلوبهم صافية نحو جميع المؤمنين المعاصرين، يمدون أيديهم لهم فيقولون: تعالوا معاً لنجتهد على نُصرة دين الله، وعلى العمل بشرع الله، ونخرج الأمور الخلافية التي بيننا وبين بعضنا الآن، ونجتمع على ما اتفق عليه صالح المؤمنين فينا.
أمور لا نختلف عليها، ولكننا نختلف في أشياء هامشية وليست أساسية في دين الله، مختلفين في اللحية، ومختلفين في الصلاة على حضرة النبي بعد الآذان، ومختلفين هل يكون أذاناً واحداً في الجمعة أم إثنين؟ مختلفين في أشياء هامشية!!، لكن هل اختلفنا في الفرائض؟ فجماعة يقولون: الفرائض أربعة؟ هل يوجد؟ لا. هل اختلفنا في شهر رمضان؟ لا. هل اختلفنا في الحج؟ لا. هل اختلفنا في أحكام الزكاة؟ لا. وهل اختلفنا في أهم شيء وهي الأخلاق الإسلامية، كالصدق والإخلاص والأمانة والمروءة، وبقية هذه الأخلاق؟
فبيننا وبين بعضنا أمورٌ كثيرة وكلنا مجتمعون عليها، فلنترك هذه الخلافات الآن لأننا في عصرنا هذا محتاجون إلى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (103آل عمران).
ونحن نرى الآن الجماعة المسيحيين مع أنهم من جهات شتَّى وكل جهة تكفِّر الأخرى، ففي هذه الأيام يتفقون أن تكون أعيادهم موحدة مع بعضها، وهذا الكلام في هذه الأيام وهناك مباحثات جادَّة ليوحدوا الأعياد مع بعضهم، ونحن نزيد الخلاف!!، مع أن خلافنا هذا ليس خلافاً، ولكنه خلافٌ هامشي، وليس أساسياً في دين الله عزَّ وجلَّ، فلِمَ لا نتوحد كمسلمين ونكون كلنا رجلاً واحداً.
فمن لم يرضَ بالإتحاد فيكون له هدف – هدف سياسي، أو هدف دنيوي، أو حب الظهور، أو حب الشُّهرة، أو الرغبة في الدنيا، فيكون هدفاً آخراً. لكن من يريد الله، ويريد دين الله، فلا يختلف مع أخيه المسلم في كل هذه الأمور.
نسأل الله عز وجل أن يجمع شمل المسلمين، وأن يُوحد صفوف المؤمنين، وأن يُنهي النزاعات والخلافات التي تُوجد بين فرق المؤمنين، وأن يجعلنا فريقاً واحداً يدعو إلى شرع الله، وإلى العمل بسنة حبيبه ومصطفاه، وأن يجمعنا أجمعين على العمل بالبِرِّ والتقوى، وأن يحفظنا جميعاً من الإثم والعدوان، وأن يطهِّر صدورنا نحو إخواننا من كل شرٍّ وسوءٍ، وظنٍّ وغشٍّ، وخداعٍ وكيدٍ، وكُرهٍ وبُغضٍ، وأن يجعلنا أُخوةً متآلفين متحابين متكاتفين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم نصيحة غالية
أنا أطالب الأحباب والسامعين أجمعين أن كل واحد منا مُطالبٌ منه إذا رأى مسلمين من جيرانه أو أقاربه أو معارفه بينهم خلاف، أو متخاصمين، يذهب إليهم من تلقاء نفسه متطوعاً، وما دامت نيَّته طيبة فربنا سبحانه وتعالى سيعينه: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا) (35النساء).
وهذا العمل – يا أحبة – أعظم عمل في الأجر والثواب في النوافل التي نتقرب بها إلى الله، قال صلى الله عليه وسلَّم: (ألا أدلكم على ما هو خيرٌ لكم من الصلاة والصيام والصدقة والحج) – الصدقة التي هي النوافل، والصلاة أيضاً النوافل غير الفرائض، والصيام أيضاً النوافل، والصلاة النافلة كالضحى وقيام الليل، ومن صيام أيام النوافل، ومن الصدقة ومن الحج النافلة – (قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إصلاح ذات البين) . عندما يُصلح واحد بين إثنين في جزء من الليل أحسن من إحياء هذه الليلة، ومن صلاة ألف ركعة فيها لله عزَّ وجلَّ. وكذلك يأخذ جزءاً من النهار في إصلاح بين إثنين أحسن من صيام هذا اليوم، لماذا؟ لأننا كلنا كمسلمين ينبغي أن نكون حريصين على وحدة صفوف المسلمين أجمعين.
نسأل الله أن نكون صالحين مصلحين، وأن يحل بنا مشاكل المسلمين، وأن يجمع شمل المسلمين، وأن يجمع المسلمين على قلب رجلٍ واحدٍ تقيٍّ نقيٍّ، وأن يجعلهم متآلفين متعاونين متباذلين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم