Sermon Details

2 يوليو 2015م
جـ 1 القرآن وشريعة الصيام
الحقيقة أن آيات كتاب الله عزَّ وجلَّ لا منتهى لسعة معانيها، ومهما تكلم المتكلمون وفسر المفسرون يبقى في كلام الله عزَّ وجلَّ المكنون علم مضنون، وسر مصون، ونور مكنون؛ يكشفه الله عزَّ وجلَّ على مدى الزمان إلى أن يرث الله عزَّ وجلَّ الأرض ومن عليها. ونحن لا نستطيع في هذه العجالة السريعة أن نحيط ببعض معاني هذه الآيات الكريمة، لكن حسبنا أن نقف عندها وقفة، لنجد أن فيها كل ما نحتاجه في الصيام وفي شهر الصيام من الذي طلبه منَّا الملك العلام عزَّ وجلَّ.
آيات أحكام الصيام
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ . أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (183: 188البقرة)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أهَّل قلوبنا لسماع القرآن، وجعلنا أهلاً للعمل بالقرآن، فدخلنا جميعاً في قول النبي العدنان صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)[1]. وهذا سرُّ بدايتنا الدروس بالتلاوة لتنفيذ الحديث، فهنيئاً لكم جميعاً هذا المقام.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على من اجتباه مولاه وطهَّر قلبه لنزول القرآن، وأهلَّ ظاهره للعمل بالقرآن، وأنطق لسانه بحقائق القرآن، وجعله صلَّى الله عليه وسلَّم صورة القرآن الحيَّة بين المؤمنين؛ سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الحقيقة أن آيات كتاب الله عزَّ وجلَّ لا منتهى لسعة معانيها، ومهما تكلم المتكلمون وفسر المفسرون يبقى في كلام الله عزَّ وجلَّ المكنون علم مضنون، وسر مصون، ونور مكنون؛ يكشفه الله عزَّ وجلَّ على مدى الزمان إلى أن يرث الله عزَّ وجلَّ الأرض ومن عليها.
ونحن لا نستطيع في هذه العجالة السريعة أن نحيط ببعض معاني هذه الآيات الكريمة، لكن حسبنا أن نقف عندها وقفة، لنجد أن فيها كل ما نحتاجه في الصيام وفي شهر الصيام من الذي طلبه منَّا الملك العلام عزَّ وجلَّ.
أولاً يكفينا شرفاً وفخراً وتَيهاً أن الذي ينادي علينا هو الله، لأن الله لا ينادي إلا على أحبابه، لم يكن ينادي على اليهود في التوراه إلا بقوله لهم عزَّ وجلَّ: (يا أيها المساكين)، لكنه يقول لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ). تشريف كريم من ربٍّ كريم جعلنا أهلاً لهذا المقام الكريم ببركة الرءوف الرحيم سيدنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وعندما يشهد الله عزَّ وجلَّ لنا بالإيمان فهذا يجلب الطمأنينة والسكينة لكل خائف حيران من الخاتمة التي يحذرنا منها حضرة الرحمن، لأن الله عزَّ وجلَّ لا يمكر بطالبه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) ثبتت وانتهت.
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) أي فرض (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، والغاية والسرُّ: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). بيَّن الله في هذه الآية الحكمة العالية من فرض الصيام؛ أن الله عزَّ وجلَّ فرض على المؤمنين الصيام ليرتقوا إلى مقام الأتقياء الأنقياء، وكلمة (لَعَلَّ) في القرآن بمعنى اللام: (كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لتتقون)، ليست بمعنى الترجي كما هو في اللغة، لكن تأكيد أنهم إذا صاموا كما ينبغي وصلوا إلى درجات الأتقياء، لأن الصيام سرٌّ بين العبد وربِّه، لا يطلع على الصائم إلا الله، ولا يراقب في صومه إن أراد أن يُفطر إلا مولاه، وهذه أكبر درجات التقوى وهي مراقبة الله عزَّ وجلَّ في السرِّ والعلن،.
(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ): والصيام مع أنه شهرٌ – كما وضَّح الله بعد ذلك – بيَّن أنه بمعونة وتوفيق الله ورعاية الله لنا يمر كأنه أياماً معدودات، وهذه حكمة تجدها على الدوام، لا تشعر الناس بأيام رمضان لأن الله يغمر قلوب الصائمين بنفحات إحسانه، وبرحيق إيقانه، فيمرُّ عليهم الشهر كأنه أيام معدودات، وفي ذلك يقول بعض الصالحين: (سَنَة الوصل سِنَة، وسِنَة البعد سَنَة). سَنة في الوصل مع الله تمرُّ كأنها طرفة عين، وإذا كان الإنسان في البعد فاللحظة تمر عليه كأنها سَنة، فلأنهم في مواصلات مع الله تمرُّ هذه الأيام كأنها لحظات.
(فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ): هذه أحكام الصيام كلها، الصحيح يصوم، والمريض بحسب أمراض العصر وما يستجد في كل عصر، أو السفر أياً كان نوعه، لأن السفر دائماً فيه مشقة حتى ولو كان بالطائرة.
(فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ): لا ييأسوا ولا يقنطوا من رحمة الله، فإن الله يسَّر لهم الأمر، وطلب منهم أن يقضوا هذه الأيام في أيام أخرى، بعد شهر رمضان إن شاء الله.
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) الذين يصومونه مع المشقة البالغة، فإن كانت المشقة يتوقع منها الضرر يصوم، فإذا جاء الضرر وجب عليه الفطر والإعادة، وإذا كانت المشقة محققة الضرر يحرم عليه الصيام لقول الله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (195البقرة)، وإنما عليه أن يُفطر، فإن استطاع أن يصوم بعد ذلك فله ذلك، وإن لم يستطع نظراً لظروف كبر سِنه أو مرضه الميئوس من علاجه فعليه: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، وطعام المسكين يكون سحوراً وفطور عن كل يوم من أيام فطره في شهر رمضان.
ويستطيع أن يُخرج القيمة كما أفتى بذلك ساداتنا الأحناف، ولهم في ذلك مخرج لطيف أخذوه من سُنة النبي الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن المتعنتين والمتشددين – لسوء فهمهم لكلام الله، وجهلهم بحقيقة فحوى خطاب رسول الله – يشددون على الخلق ويأمرون أن تكون الفدية أو زكاة الفطر لابد أن تكون من الحبوب، لكن الإمام أبو حنيفة رَضِيَ الله عنه أخذ فتواه من قول سيدنا معاذ بن جبل رَضِيَ الله عنه عندما أمره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يذهب إلى اليمن ويجمع الزكاة.
وكان أهل اليمن في ذلك الوقت أغلب زراعاتهم العنب، ويصنعون منه الزبيب، وكان أكلهم الزبيب وتجاراتهم في الزبيب، فجاءوا بزكاتهم زبيب، ومعاذ هو الذي قال له حضرة النبي عندما أرسله: (كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم صَدْرَهُ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ)[2].
أُعجب بهذا المنهج العظيم الذي عليه معاذ، وشهد له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بأنه بلغ درجة الاجتهاد، فلما جاءوا بالزبيب قال: يا أهل اليمن ائتوني بثياب، أنتم في حاجة إلى الزبيب ولا تستطيعون الاستغناء عنه وأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حاجة إلى الثياب، فصنعوا ذلك، وكان الأمر على ذلك.
ومن هنا استنبط الإمام أبو حنيفة رَضِيَ الله عنه هذا الرأي العظيم وهو القيمة، وأبو حنيفة هو الذي يقول فيه الإمام مالك رَضِيَ الله عنه: (لو أراد أبو حنيفة أن يُثبت لقوم أن هذا الأسطوان – العامود – ذهباً لأثبت ذلك!!)، لقوة حجته وتمكنه في دين الله عزَّ وجلَّ.
(فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ): وفيها محامل لا تعدُّ ولا تحدّ، أي من تطوَّع وصام أيام النوافل والقربات بعد رمضان فهو خيرٌ له، ومن تطوع فزاد على إطعام مسكين فأطعم أكثر من مسكين فهو خيرٌ له، ومن تطوع فصام بعد ذلك وأطعم مسكيناً فهو خير له، فالتطوع هو الزيادة في عمل البر والخير إلى الله عزَّ وجلَّ.
ثم خاطب الله عزَّ وجلَّ المؤمنين ليتشبثوا بروح العزيمة واليقين، ولا يلجأوا إلى التساهل فقال: (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، حتى لا يلجأ إلى هذه الرُّخَص إلا من كان فعلاً يستحقها ومن أهلها، ولذلك نقول للأحباب الذين يريدون أن يفطروا: لابد لك من أمر من الطبيب، إياك أن تفطر من نفسك إلا في حالة واحدة؛ إذا أشرفت يوماً على الهلاك، وتحققت أنك هالك لا محالة فهنا ينبغي عليك الفطر، وتعيد هذا اليوم، لكن لا تُفتي نفسك في مرض، أنا مريض بكذا فيجب أن أفطر، ولا تقيس على الأشباه والأمثال – فلان كان مريضاً بهذا المرض وأباح له الطبيب الفطر – لكن لابد أن تأخذ فتواك من طبيب مسلم أمين حتى تدخل في هذا النطاق، لأن الله عزَّ وجلَّ حذَّر من ذلك في قوله: (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
هذه الأيام التي نصومها متى يا رب؟ ولِمَ؟ أجاب الله عزَّ وجلَّ على السؤالين في جملة واحدة، هذه الأيام قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، إذاً يحرم الصيام الفريضة إذا حولناه إلى غير رمضان، أو إذا اجتهدنا كما يجتهد البعض ويحاول أن يقلد – حاشا لله عزَّ وجلَّ – مَنْ قبلنا، فإن مَنْ قبلنا تركها الله عزَّ وجلَّ عامة، قد يكونوا شاركونا في فريضة الصيام لكن أيامهم ليست كأيامنا، وأوقاتهم ليست كأوقاتنا، وأحوال صيامهم ليست كأحوال صيامنا، فليس لنا شأن إلا بما نزل على نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم، إذاً الصيام شهر رمضان، والشهر كم يوم؟ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا)[3]. لا ينقص عن ذلك، ولذلك حدث أن صامت بعض الدول ثماني وعشرين يوماً ثم طلبوا من أهل البلد بعد العيد أن يعيدوا هذا اليوم، لأنه لا ينبغي لشهر قمري أن يكون ثمانية وعشرين.
وقد فوجئنا منذ أيام بأمر عجيب وغريب، والأعجب أنه من وزير الأوقاف في دولة الجزائر الشقيقة، صحيح أنه ليس عالم دين، لكن منصبه وزير أوقاف، حَسَب حسبة حسابية وقال: اليوم الآن صيام ستة عشر ساعة، واليوم في الشتاء يكون حوالي ثماني ساعات، فإذا صمنا ثماني ساعات الآن فتُحسب يوم، وقال: إذاً الآن نصوم ثلاثة عشر يوم فقط!! كأن اليوم بيومين!!، هاج عليه علماء الجزائر وماجوا عليه لأن هذا اجتهاد في غير محله، وأثار بلبلة.
الله عزَّ وجلَّ قال: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، فالصيام شهر، متى نصوم ومتى نفطر؟ قال صلَّى الله عليه وسلَّم وهو المُبين للقرآن: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)[4].
إذاً الصيام من بداية الشهر إلى نهايته، ونحن نصوم شهر رمضان لأنه: (الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، وكأن الله عزَّ وجلَّ يقول لنا بلسان الإشارة: إن القرآن نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بعد صفاء القلب وطهارته، فينبغي عليكم أن تعيشوا شهراً في العام تُطِّهروا فيه القلوب، وتتحفَّظوا فيه على بداوات وهفوات النفوس، وتعيشوا مع كلام القدوس لتعيشوا معانيه، ثم تمشوا بقية العام تنفذوا ما فيه، تحظوا بفضل الله عزَّ وجلَّ وإكرامه على الدوام.
وهذه دعوة مباشرة للأمة للإنشغال في هذا الشهر لكريم بتلاوة القرآن، لأنه شهر القرآن، وخاصة أن الذي أُنزل عليه القرآن صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقرأ القرآن في شهر رمضان في كل عام مرة، وفي العام الذي انتقل فيه إلى جوار الله قرأه مرتين، وهذا أيضاً يدلنا على أنه ليس الشأن شأن العدد، ولكن التدبر والتمعن في كتاب الله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (22القمر). لو كان الشأن شأن العدد لخَتمه الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم خمس أو ست مرات، لكن مرة واحدة، لماذا؟ يتدبر ويتمعن في كلام الله عزَّ وجلَّ.
(هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ): ووجَّهنا الله عزَّ وجلَّ أن نتلمَّس في القرآن ونحن نتلو؛ الهداية التي بثَّها الله عزَّ وجلَّ فيه للناس، كيفية هداية الناس إلى ربِّ الناس، وهذه الآيات التي نزلت في مكة، والتي تتحدث عن عجائب خلائق الله، وعن إبداع صنع الله، وعن آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، وهذه الطريقة الرشيدة السديدة لهداية الخلق إلى دين الله عزَّ وجلَّ.
(وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ): وأن نتدبر أيضاً ما فيه من البينات، يعني الأمور والمسائل الواضحات للمؤمنين والمؤمنات، والتي فيها الهداية إلى الطريق الموصل إلى رضوان الله، وإلى جنة الله، وإلى إكرام الله، والتي فيها المفارقة والمباينة بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والطيب والخبيث، فنتعلم نحن جماعة المؤمنين ما يُوصِّلنا إلى الله من كتاب الله، وإلى رضوان الله، وإكرام الله، وأحكام الحلال والحرام حتى لا نقع فيما حرَّمه الله، بل نمشي دوماً على الحلال الذي أحلَّه لنا الله عزَّ وجلَّ.
هذه مواضع ذكرها الله، وأمرنا أن نتدبر فيها ونضعها نصب أعيننا ونحن نتلوا كتاب الله في شهر القرآن إن شاء الله.
ثم قال الله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وهذه لها معاني متعددة، فشَهِد يعني حضر، أما من توفاه الله فليس عليه صيام، وليس عليه إكمال، ولا على أهله إكمال الصيام لمن مات في رمضان، وهذا معنى.
(وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ): الذي يكون عنده مرض مانع من الصيام، أو مسافر سفر شرعي، وذكر الله السفر لنعلم أن السفر الذي يستوجب الفطر له شروط ومواصفات؛ أن يكون السفر أولاً في حلال، وأن يكون السفر يبلغ النصاب الشرعي الذي ورد عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وذكره الأئمة الكرام، وهو حوالي ثلاثة وثمانين كيلومتراً، وأن يكون هذا السفر يصحبه مشقة وتعب وعناء، فمَنْ يسافر للهو أو لعب لا ينبغي له الفطر لأنه لا يسافر سفراً شرعياً أباح الله عزَّ وجلَّ للصائم فيه الفطر، والآيات ليست تكرار، وإنما زيادة بيان لكلام العزيز الغفار عزَّ وجلَّ.
(يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ): وهذا الحكم العام الذي ينبغي أن يزن به المؤمن كل أحكام الشريعة المطهرة، ومن جملتها أحكام الصيام، دائماً تراعي اليسر، أرسل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم معاذ بن جبل وأبي موسى إلى اليمن وقال لهما: (يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)[5]. كل أمور الإسلام مبنية على اليسر، وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا)[6].
(وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ): وبعد إكمال العدة تفرحوا، فينبغي للمسلم أن يفرح بتوفيق الله، فيُكبر الله ويُصلي صلاة العيد على ما وفَّقه له مولاه. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): والشكر على نعمة الصيام يكون بإخراج زكاة الفطر للمساكين شكراً لله عزَّ وجلَّ على توفيقه لنا في نعمة الصيام.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
********************
[1] سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه
[2] سنن أبي داود
[3] البخاري ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها
[4] البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
[5] البخاري ومسلم عن عبد الله بن قيس رضي الله عنه
[6] البخاري ومسلم
1 ندوة دينية بعد صلاة العشاء و التراويح بمقر الجمعية العامة للدعوة إلى الله بحدائق المعادي 15 من رمضان 1436هـ 2/7/2015م