Sermon Details
شرح قصيدة (في صحبة العارفين) للإمام أبو العزائم رضي الله عنه[1]
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه كان له من الله ومن رسول الله منحٌ إلهية خصَّه بها الله دون سواه، وكان من هذه المنح أن أكرمه الله عز وجل بالموت شوقاً في رسول الله، والفناء عن أوصافه الذاتية بأوصاف رسول الله، وهذا ما نسميه الفناء.
وكلمة الفناء يعني فنى عن كل أوصافه بأوصاف حبيبه، وليس لنا شأن الفلسفة، كل ما في الأمر أنه شاهد أوصافه هو وأتى بأوصاف حبيبه واتصف بها.
حالة الوجد
فكان الله عز وجل يتجلى على قلبه بقصائد، هذه القصائد منها قصائد في مقامات البداية، ومنها قصائد في المقامات العالية.
كيف كان يقولها؟ كان يحدث له حالة وجد شديد، وفي حالة الوجد كانت تخرج المواجيد، لذلك سماها (مواجيد) لأنها ناتجة عن الوجد الذي في قلبه لله ولرسوله، ويُكرم الله من حوله فيكتبونها، والمطبوع له منها فقط عشر مجلدات كبيرة.
ومع أنها كانت تأتي إلهام فوري كانت لا تخرج عن قواعد اللغة العربية، ولا عن ميزان العروض الشعري، والألفاظ العربية الفُصحى، وبعض القصائد كانت أحياناً تزيد عن مائة وخمسين بيتاً، وتأتي كلها مسلسة خلف بعضها، والكُتَّاب يكتبون خلفه رضي الله عنه.
ما هذا الوجد؟ ليعرِّفنا أن أساس الفتح الإلهي والإلهام الرباني أن يزيد الوجد والحب في القلب لحضرة النبي ولله تبارك وتعالى.
حتى أن الإنسان عندما يزيد في الحب قد ينسى نفسه، وقد ينسى من حوله، وقد لا يلاحظ القاعدين والجالسين من شدة الوجد الذي عنده، فيقول رضي الله عنه:
أبوح إذا علا شوقي بوجدي |
فيعلوني الغرام وفيه رشدي |
ولما أن سكنتم في فؤادي |
جُذبت إلى الولي بغير جَهد |
يعني عندما يعلو شوقي أبوح وأتكلم، وهذا الكلام يخفف الوجد، فلو لم يكن هذا الكلام لن يستطيع أن يتحمل ومن حوله لن يستطيعوا أن يتحملوا أحوالي.
لما سكن رسول الله في القلب على الدوام وأصبح لا يغيب عنه، جُذب إلى الله سبحانه وتعالى جذبة المحبة، وهي أعلى الجذبات في طريق الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين.
ولذلك يقول لنا: الذي يريد أن يصل إلى الفتوحات عليه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
{ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ }[2]
يعني لا يكون له هوى يخالف ما جاء به، أنت هواك مال وهواك الدنيا وهواك أن تشتري سيارة شكلها كذا، وهواك تبني فيلا شكلها كذا، فهذا هواك أنت، لكن الذي يُريد المقامات العلية يكون هواه كهوى سيدنا رسول الله، وهوى سيدنا رسول الله في رضاء الله، وانظر إلى قول الله له: ” قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ” (144البقرة) لم يقل: نرضاها، لكن (ترضاها) أي أنت الذي ترضاها، ولذلك السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تقول له:
{ مَا أُرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ }[3]
يعني ما يريده يعطيه له الله بدون طلب، لأن هواه أصبح هوى الله، لكننا كل واحد منا له أهواء مفرقة، ولذلك الرجل الصالح الحلاج الشهيد يقول:
كانت لقلبي أهواءٌ مفرقةٌ |
فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي |
تركتُ للناس دنياهم ودينهم |
شغلاً بحبك يا ديني ودنيائي |
الدنيا كلها أصبحت خلفي لأن هواه أصبح هوى واحد لله سبحانه وتعالى.
(كُنْ أَنْتَ هُوَ) يعني غرضك غرضه، وقصدك قصده، وما تطلبه هو ما يطلبه، لا يكون لك مطالب دنية،وهو مطالبه كلها مطالب علية، وأول مطلب قال له فيه رب البرية: ” وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ” (131طه) فأول شيء لا بد أن يتحد هواي مع هواه.
ولذلك من ضمن الحقائق التي ذكرناها في قصة موسى والعبد أن الله سبحانه وتعالى يبين لنا مراحل سير النفس إلى الله تبارك وتعالى، فعندما فسَّر سيدنا الخضر له ما رآه، فماذا كان أول شي؟ ” أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ” (79الكهف) والسفينة إشارتها هي الجسم، والمساكين هم الجوارح التي في الجسم، وهم ليس لهم حول ولا طول، تأمرهم فيعملوا ولا يخالفوك، والبحر بحر الدنيا العميق.
قال له: ” فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ” (79الكهف) فهنا إرادته هو، أي له إرادة.
فلما ارتقى قال له في الثانية: ” فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ” (81الكهف) اتحدت إرادته مع إرادة الله، يجاهد حتى تتحد إرادته مع إرادة الله.
بعد ذلك في الثالثة قال له: ” فَأَرَادَ رَبُّكَ ” (82الكهف) انتهت إرادته وفنيت ولم يعد غير إرادة الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الكلام الذي يقصده الإمام في هذا البيت.
(كُنْ أَنْتَ هُوَ فِي قَصْدِهِ ومُرَادِهِ) ما قصده؟ وجه الله:
الحب مبدأنا والوجه قبلتنا |
والمصطفى قدوتي فاعلم مراقينا |
وما مراده؟ يريد رسول الله، ويريد ما عند الله من الفتوحات الإلهية.
(وَكُنِ الْذَّلِيلَ لَهُ وَمَنْزِلُهُ عَلِي) هذه الأمور كيف ينالها الإنسان؟ لن ينالها بالعزِّ ولا بالكبر، الذي يُريد ما عند الله يتذلل بين يدي مولاه:
ألا يا أخي بالذل ترقى وتُرفعن |
وبالزهد تُعطى ما له تتشوق |
بالذل لله وليس للناس، فالإنسان لكي ينال ما عند الله دائماً يكون على باب الله ذليلاً مهما علا، سيدنا موسى كلَّم الله ومع ذلك كان كل شيء يطلبه بذلة من مولاه، يطلب رغيف العيش فيقول له: ” رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ” (24القصص) لا يطرق باب أحد ولكن يطلبه من الله، ويطلب النظر إلى وجه الله: ” رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ” (143الأعراف) كله من الله، قال الله تعالى لموسى: ((يا موسى اسألني كل شيء حتى ملح عجينك – وروي: فى شسع نعلك وعلف دابتك – فقال يا رب إنه ليعرض لي الحاجة من الدنيا – يقصد قضاء حاجته – فأستحي أن أسألك! قال سلني حتى ملح عجينك وعلف حمارك))[4]
وهل تقضي حاجتك إلا بإذن الله؟! لو حدث لك إمساك وأخذت الأدوية ولم تنفع فماذا تفعل؟! فكل شيء بإذن الله، ولكن يحتاج الذل لله والتواضع لله تبارك وتعالى.
وانظر إلى سيدنا رسول الله لما فتح الله عليه مكة وكان معه عشرة آلاف جندي، ماذا فعل؟ أول ما دخل مكة وهو راكب بغلته سجد على ظهر البغلة شكراً لله عز وجل واعترافاً بأن الفضل كله من الله وبالله تبارك وتعالى، وهذا حال المؤمن الذي يريد فضل الله دائماً.
المسارعة في الاتباع
أَسْرِعْ إِذَا أَيْقَنْتَ أَنَّ مُرَادَهُ
فِي أَمْرِهِ وَبَدَا لِقَلْبِكَ كَالْجَّلِي
أنت لك مراد والله له مراد، ولن يكون إلا مراد الله، إذا أيقنت أنه لن يكون إلا مراد الله فلِمَ تجعل نفسك تنازعك وتجعل لنفسك إرادة؟! سلِّم نفسك لله من البداية لمراد الله، سَلِّم تسلم، واجعل الأمور تمشي بالله، وليس معنى ذلك أن نترك الأسباب، وإنما نسعى في الأسباب بأحسن ما يكون ونعلم أن العاقبة تكون لمُسبب الأسباب تبارك وتعالى.
فأنا لا أدعو للتواكل، ولكن أدعو للجد والعمل، وقد كثُر المتواكلون في زماننا هذا، وهذا سبب تخلف أُمَّة الإسلام، التواكل بحجة أنه رجل متوكل على الله وهو متواكل، يقال له وهو مريض: هيا نذهب للطبيب، يقول: دعها لله، لو أراد الله أن يشفيني سيشفيني بدون الطبيب!، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
{ يَا عِبَادَ اللَّهِ، تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً }[5]
وهو صلى الله عليه وسلم كان يتداوى، السيدة عائشة رضي الله عنها كانت في آخر حياتها كبيرة الأطباء في المملكة الإسلامية، فسألوها من أين تعلمتِ الطب؟ قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يسقم – يعني يمرض – كثيراً، وكان يأتيه حكماء العرب يصفون له الدواء فحفظت ذلك منهم).
وأنا أقول ذلك لأن بعض الناس يقولون: هل الصالحين يمرضوا؟ نعم، أليسوا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، هم أصلاً لا يمرضوا، ولكن يتحملون الأمراض عن خلق الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ }[6]
فنأخذ بالأسباب ولكن نعلم علم اليقين أن النتيجة بيد مسبب الأسباب، حتى نكون كما قال الله: ” لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ ” (23الحديد) وقوله تعالى: ” لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ” (153آل عمران).
وإذا عملت ما عليَّ وأخذتُ بالأسباب وكانت النتيجة غير ما توقعته فأعلم أنها خير، لأن رب الخير لا يختار لي إلا كل خير ولكني لا أرى ذلك لوجود غشاوة على قلبي من الذنوب والمعاصي والأهواء، وبعد فترة أرى أن الله كان يحبني لأن هذا الأمر لو كان حدث لحدث لي كذا وكذا وكذا.
فعلينا من البداية أن نُسلِّم لصاحب الأمر في النتيجة مع الأخذ بالأسباب كما كان يفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم.
التسليم الكلي
لَا تَفْعَلَنْ غَيْرَ الْمُرَادِ لَوْ أَنَّهُ
أَبْدَي لَكَ الْأَمْرَ الْشَّدِيْدَ بِمُجْمِلِ
هذه مرحلة التسليم الكلي، عندما يُسَلِّم الإنسان تسليم كلي لشيخه فإذا أمره بأمر يعلم علم اليقين أنه دبَّر له هذا الأمر وكفاه وأغناه، فلا يشكك فيه ويقول: كيف أعمل ذلك؟! فعندما كان صلى الله عليه وسلَّم في غزوة الأحزاب وهبَّت عليهم الريح فقال:
{ قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ }[7]
والريح كانت سريعة والبرد شديد، والصحابة كلهم كانوا خائفين، والكفار لم يروا أنفسهم من الظلام، والإبل والجمال والخيل فُكَّت من أربطتها وأخذت تجري حتى أنها كانت تدوس على كل من يقابلها، فظنوا أن المسلمين هجموا عليهم وأخذوا يمسكون بالسيوف ويضربون بعضهم بعضاً.
فأين يذهب سيدنا حذيفة؟ يقول سيدنا حذيفة رضي الله عنه وأرضاه:
{ فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ }[8]
الحمَّامُ مِن الحميمِ، وهو الماءُ الحارُّ، والمعنى: أنَّه لم يَجدِ البَرد الَّذي يَجِدُه النَّاسُ ولا مِن تلكَ الرِّيحِ الشَّديدةِ شَيئًا، بل عَافاهُ اللهُ من ذلك بِبركةِ إِجابتِه لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وذَهابِه فيما وجَّهَه له.
وهناك أمثلة لا تُعد ولا تُحد في هذا الباب لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
فإذا أمرك بأمر فاعلم يقيناً أنه دبَّر لك حيثياته فلا تشك ولا ترتاب، لأنك لو شككت وارتبت ستقول: لِمَ يفعل بي هذا؟ وهل يريد أن ينتقم مني؟! لكنه يُحبك، ويريد أن يرفعك درجات، ويريد أن يقربك إلى أعلى الدرجات.
فلا بد للإنسان عندما يُؤمر بأمر أن يسارع إلى تنفيذه، لماذا؟ لأنه إذا أقامك أعانك، ولكن بشرط أنك لا تتصرف من تلقاء نفسك في هذا الأمر، ولكن بمراده.
نفرض أننا قلنا لك: أنت أصبحت مندوب لنا في بلد كذا، فهل تمشي كما تريد أم كما نريد؟ تمشي كما نريد، فإذا مشيت كما تريد فقد خلعت نفسك من المندوبية، وسيتركك صورة فقط في كل شيء، لكن لا توجد عطاءات إلهية ولا إشراقات محمدية لأنك تمشي على حسب هواك.
يقولون كانت هناك قبيلة من العرب من أربعة آلاف رجل وكان فيهم رجل حكيم واحد، ولكنهم كانوا يأتمرون بأمره ولا يمشون إلا عن رأيه، فهم أربعة آلاف حكيم، وهذا هو المطلوب.
من أين تأتي الخلافات؟ أن هذا له رأي، وهذا له رأي، وهذا له رأي، لكن نريد أن يكون مرادنا كلنا هو مراد الله، ومرادنا هو مراد رسول الله، والذي يسوقنا إليه ويأخذ بأيدينا إليه هم الصالحون من عباد الله سبحانه وتعالى.
(لَا تَفْعَلَنْ غَيْرَ الْمُرَادِ لَوْ أَنَّهُ أَبْدَي لَكَ الْأَمْرَ الْشَّدِيْدَ بِمُجْمِلِ) يعني أمرك بشيء شديد وأنت تظن أنك لن تستطيع أن تعمله، فماذا تفعل؟ استعن بالله، وما دام هو قد أمر فسيعين وستأتيك المعونة من رب العالمين سبحانه وتعالى.
التوبة من المخالفات
وَإِذَا فَعَلْتَ الْأَمْرَ وَهْوَ مُخَالِفٌ
تُبْ نَادِمًا مِنْهُ بِغَيْرِ تَأَوُّلِ
إذا وقعت في خطأ لأن نفسك حملتك على أمر تريده لنفسك، فما أفضل شيء في هذا المقام؟ أن أعترف بأنني أخطأت لكي تسرع وتمشي في طريق الصالحين على الدوام، لكن ستكابر وتحاول أن تتأول، وتحاول أن تأتي لنفسك بعلة، وتحاول أن تأتي لنفسك بعُذر، فعُذر أقبح من ذنب، وستظل في أوحال التوحيد ولا تخرج إلى فضاء التفريد أبداً.
لكن إذا أخطأت واعترفت، تدخل في قول الله: ” ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ” (118التوبة).
(تُبْ نَادِمًا مِنْهُ بِغَيْرِ تَأَوُّلِ) تب نادماً ولا تتأول، يعني تحاول أن تأتي لنفسك بأعذار، أو تلتمس لنفسك بحُجج، وتلتمس لنفسك برأي لتفر منه أو تخرج منه، فأنت هل ستفر مِن الذي يطَّلع على ظاهرك وباطنك تبارك وتعالى؟! فالأفضل من البداية على الفور التوبة، وهو سبحانه وتعالى يقبلها، وتدخل في: ” فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ” (70الفرقان).
غيب الشؤون
فَلَهُمْ شُؤُونٌ لَا يَلُوحُ خَفِيُّهَا
إِلَّا لِمَيْتٍ عَنْ هَوَاهُ بَمَعْزِلٍ
من يقرأ أحوال الصالحين إذا لم يرزقه الله التسليم سيقف العقل حجر عثرة أمام هذه الأحوال، لأنها تحتاج للإنسان الذي مات، كيف مات؟ كما ذكر ربنا في القرآن: ” أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ” (122الأنعام) مات عن حظه وهواه واحتيا الحياة الإيمانية أو الحياة الإحسانية أو الحياة الإيقانية أو الحياة القدسية .. حيوات كثيرة، أصبح حياً بالله وأصبح ينظر ببصر الله ويسمع بسمع الله وينطق بنطق الله: ” كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ” (122الأنعام).
فلذلك اعلم أن أحوال العارفين لا تُناقش بالفكر، ولا يُحكم عليها بالعقل، وإنما تحتاج إلى أذواق قلبية وتسليم بالكلية، وتطلب من الله أن يُلحقك بهم لترى ما رأوا وتذوق ما ذاقوا وتشهد ما شهدوا، وهذا طريقهم وهذا سبيلهم.
لكن لا تزن أحوالهم بالعقل، فالعقل أين هو؟ لا يوجد إلى وقتنا هذا في الكون كله من يعلم أين العقل؟ الذي في الرأس يسمى المخ، وهو الذي يسيطر على الجهاز العصبي.
لكن العقل الذي فيه الذاكرة، والذي فيه الخيال، والذي فيه التصور، والذي فيه الإدراك، والذي فيه التفكر، أين هو؟ لا يعلمه إلا خالقه تبارك وتعالى.
فإذا كان الإنسان لا يعلم أين العقل، فكيف يدرك بالعقل الأحوال التي أجراها الله تبارك وتعالى على العارفين والصالحين؟ وهذه نسميها الكرامات، وهي عبارة عن أمور خارقة للعادة، يعني خارقة للسنن الكونية.
هل يوجد جهاز موجود في أي دولة من دول العالم أستطيع أن أسلطه على الإنسان ويعلم ما يجول بخاطر هذا الإنسان؟ لا يوجد، لكن يوجد جهاز في الإنسان إذا أيقظه الرحمن يعلم خواطر غيره ويتكلم عنها ويتحدث بما فيها، فكيف أزن هذا بالعقل؟! لا أستطيع، وقس على ذلك كل الإكرامات وكل العطاءات التي يهبها الله تبارك وتعالى للصالحين.
(فَلَهُمْ شُؤُونٌ لَا يَلُوحُ خَفِيُّهَا) الصالحين لهم شؤون وأحوال إذا أبيحت لأحبابهم وأصحابهم فإنهم لها كاتمون وغير مبيحين لأنه لو أباح يُعاقب فوراً:
احفظن سري فسري لا يُباح |
من يبُح بالسر بعد العلم طاح |
علمنا فوق العقول مكانة |
كيف ذا وهو الضيا الغيب الصُراح |
خصَّنا بالفضل فيه ربنا |
ذاك سرٌ غامضٌ كيف يُباح |
والفتى المجذوب بالحب له آية |
إنه إن ذاق خمر الحب صاح |
وهو محمول العناية إن يبُح |
بالحقائق ما على الفاني جُناح |