• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:59 PM

Sermon Details

27 اكتوبر 2022

جـ2 آداب صحبة العارفين

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

شرح قصيدة (في صحبة العارفين) للإمام أبو العزائم رضي الله عنه[1]

الإمام أبو العزائم رضي الله عنه كان له من الله ومن رسول الله منحٌ إلهية خصَّه بها الله دون سواه، وكان من هذه المنح أن أكرمه الله عز وجل بالموت شوقاً في رسول الله، والفناء عن أوصافه الذاتية بأوصاف رسول الله، وهذا ما نسميه الفناء.

وكلمة الفناء يعني فنى عن كل أوصافه بأوصاف حبيبه، وليس لنا شأن الفلسفة، كل ما في الأمر أنه شاهد أوصافه هو وأتى بأوصاف حبيبه واتصف بها.

حالة الوجد

فكان الله عز وجل يتجلى على قلبه بقصائد، هذه القصائد منها قصائد في مقامات البداية، ومنها قصائد في المقامات العالية.

كيف كان يقولها؟ كان يحدث له حالة وجد شديد، وفي حالة الوجد كانت تخرج المواجيد، لذلك سماها (مواجيد) لأنها ناتجة عن الوجد الذي في قلبه لله ولرسوله، ويُكرم الله من حوله فيكتبونها، والمطبوع له منها فقط عشر مجلدات كبيرة.

ومع أنها كانت تأتي إلهام فوري كانت لا تخرج عن قواعد اللغة العربية، ولا عن ميزان العروض الشعري، والألفاظ العربية الفُصحى، وبعض القصائد كانت أحياناً تزيد عن مائة وخمسين بيتاً، وتأتي كلها مسلسة خلف بعضها، والكُتَّاب يكتبون خلفه رضي الله عنه.

ما هذا الوجد؟ ليعرِّفنا أن أساس الفتح الإلهي والإلهام الرباني أن يزيد الوجد والحب في القلب لحضرة النبي ولله تبارك وتعالى.

حتى أن الإنسان عندما يزيد في الحب قد ينسى نفسه، وقد ينسى من حوله، وقد لا يلاحظ القاعدين والجالسين من شدة الوجد الذي عنده، فيقول رضي الله عنه:

أبوح إذا علا شوقي بوجدي

فيعلوني الغرام وفيه رشدي

ولما أن سكنتم في فؤادي

جُذبت إلى الولي بغير جَهد

يعني عندما يعلو شوقي أبوح وأتكلم، وهذا الكلام يخفف الوجد، فلو لم يكن هذا الكلام لن يستطيع أن يتحمل ومن حوله لن يستطيعوا أن يتحملوا أحوالي.

لما سكن رسول الله في القلب على الدوام وأصبح لا يغيب عنه، جُذب إلى الله سبحانه وتعالى جذبة المحبة، وهي أعلى الجذبات في طريق الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين.

ولذلك يقول لنا: الذي يريد أن يصل إلى الفتوحات عليه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:

{ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ }[2]

يعني لا يكون له هوى يخالف ما جاء به، أنت هواك مال وهواك الدنيا وهواك أن تشتري سيارة شكلها كذا، وهواك تبني فيلا شكلها كذا، فهذا هواك أنت، لكن الذي يُريد المقامات العلية يكون هواه كهوى سيدنا رسول الله، وهوى سيدنا رسول الله في رضاء الله، وانظر إلى قول الله له: ” قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ” (144البقرة) لم يقل: نرضاها، لكن (ترضاها) أي أنت الذي ترضاها، ولذلك السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تقول له:

{ مَا أُرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ }[3]

يعني ما يريده يعطيه له الله بدون طلب، لأن هواه أصبح هوى الله، لكننا كل واحد منا له أهواء مفرقة، ولذلك الرجل الصالح الحلاج الشهيد يقول:

كانت لقلبي أهواءٌ مفرقةٌ

فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

تركتُ للناس دنياهم ودينهم

شغلاً بحبك يا ديني ودنيائي

الدنيا كلها أصبحت خلفي لأن هواه أصبح هوى واحد لله سبحانه وتعالى.

 

(كُنْ أَنْتَ هُوَ) يعني غرضك غرضه، وقصدك قصده، وما تطلبه هو ما يطلبه، لا يكون لك مطالب دنية،وهو مطالبه كلها مطالب علية، وأول مطلب قال له فيه رب البرية: ” وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ” (131طه) فأول شيء لا بد أن يتحد هواي مع هواه.

ولذلك من ضمن الحقائق التي ذكرناها في قصة موسى والعبد أن الله سبحانه وتعالى يبين لنا مراحل سير النفس إلى الله تبارك وتعالى، فعندما فسَّر سيدنا الخضر له ما رآه، فماذا كان أول شي؟ ” أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ” (79الكهف) والسفينة إشارتها هي الجسم، والمساكين هم الجوارح التي في الجسم، وهم ليس لهم حول ولا طول، تأمرهم فيعملوا ولا يخالفوك، والبحر بحر الدنيا العميق.

قال له: ” فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ” (79الكهف) فهنا إرادته هو، أي له إرادة.

فلما ارتقى قال له في الثانية: ” فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ” (81الكهف) اتحدت إرادته مع إرادة الله، يجاهد حتى تتحد إرادته مع إرادة الله.

بعد ذلك في الثالثة قال له: ” فَأَرَادَ رَبُّكَ ” (82الكهف) انتهت إرادته وفنيت ولم يعد غير إرادة الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الكلام الذي يقصده الإمام في هذا البيت.

(كُنْ أَنْتَ هُوَ فِي قَصْدِهِ ومُرَادِهِ) ما قصده؟ وجه الله:

الحب مبدأنا والوجه قبلتنا

والمصطفى قدوتي فاعلم مراقينا

وما مراده؟ يريد رسول الله، ويريد ما عند الله من الفتوحات الإلهية.

(وَكُنِ الْذَّلِيلَ لَهُ وَمَنْزِلُهُ عَلِي) هذه الأمور كيف ينالها الإنسان؟ لن ينالها بالعزِّ ولا بالكبر، الذي يُريد ما عند الله يتذلل بين يدي مولاه:

ألا يا أخي بالذل ترقى وتُرفعن

وبالزهد تُعطى ما له تتشوق

بالذل لله وليس للناس، فالإنسان لكي ينال ما عند الله دائماً يكون على باب الله ذليلاً مهما علا، سيدنا موسى كلَّم الله ومع ذلك كان كل شيء يطلبه بذلة من مولاه، يطلب رغيف العيش فيقول له: ” رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ” (24القصص) لا يطرق باب أحد ولكن يطلبه من الله، ويطلب النظر إلى وجه الله: ” رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ” (143الأعراف) كله من الله، قال الله تعالى لموسى: ((يا موسى اسألني كل شيء حتى ملح عجينك – وروي: فى شسع نعلك وعلف دابتك – فقال يا رب إنه ليعرض لي الحاجة من الدنيا – يقصد قضاء حاجته – فأستحي أن أسألك! قال سلني حتى ملح عجينك وعلف حمارك))[4]

وهل تقضي حاجتك إلا بإذن الله؟! لو حدث لك إمساك وأخذت الأدوية ولم تنفع فماذا تفعل؟! فكل شيء بإذن الله، ولكن يحتاج الذل لله والتواضع لله تبارك وتعالى.

وانظر إلى سيدنا رسول الله لما فتح الله عليه مكة وكان معه عشرة آلاف جندي، ماذا فعل؟ أول ما دخل مكة وهو راكب بغلته سجد على ظهر البغلة شكراً لله عز وجل واعترافاً بأن الفضل كله من الله وبالله تبارك وتعالى، وهذا حال المؤمن الذي يريد فضل الله دائماً.

المسارعة في الاتباع

أَسْرِعْ إِذَا أَيْقَنْتَ أَنَّ مُرَادَهُ

فِي أَمْرِهِ وَبَدَا لِقَلْبِكَ كَالْجَّلِي

أنت لك مراد والله له مراد، ولن يكون إلا مراد الله، إذا أيقنت أنه لن يكون إلا مراد الله فلِمَ تجعل نفسك تنازعك وتجعل لنفسك إرادة؟! سلِّم نفسك لله من البداية لمراد الله، سَلِّم تسلم، واجعل الأمور تمشي بالله، وليس معنى ذلك أن نترك الأسباب، وإنما نسعى في الأسباب بأحسن ما يكون ونعلم أن العاقبة تكون لمُسبب الأسباب تبارك وتعالى.

فأنا لا أدعو للتواكل، ولكن أدعو للجد والعمل، وقد كثُر المتواكلون في زماننا هذا، وهذا سبب تخلف أُمَّة الإسلام، التواكل بحجة أنه رجل متوكل على الله وهو متواكل، يقال له وهو مريض: هيا نذهب للطبيب، يقول: دعها لله، لو أراد الله أن يشفيني سيشفيني بدون الطبيب!، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ يَا عِبَادَ اللَّهِ، تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً }[5]

وهو صلى الله عليه وسلم كان يتداوى، السيدة عائشة رضي الله عنها كانت في آخر حياتها كبيرة الأطباء في المملكة الإسلامية، فسألوها من أين تعلمتِ الطب؟ قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يسقم – يعني يمرض – كثيراً، وكان يأتيه حكماء العرب يصفون له الدواء فحفظت ذلك منهم).

وأنا أقول ذلك لأن بعض الناس يقولون: هل الصالحين يمرضوا؟ نعم، أليسوا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، هم أصلاً لا يمرضوا، ولكن يتحملون الأمراض عن خلق الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ }[6]

فنأخذ بالأسباب ولكن نعلم علم اليقين أن النتيجة بيد مسبب الأسباب، حتى نكون كما قال الله: ” لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ ” (23الحديد) وقوله تعالى: ” لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ” (153آل عمران).

وإذا عملت ما عليَّ وأخذتُ بالأسباب وكانت النتيجة غير ما توقعته فأعلم أنها خير، لأن رب الخير لا يختار لي إلا كل خير ولكني لا أرى ذلك لوجود غشاوة على قلبي من الذنوب والمعاصي والأهواء، وبعد فترة أرى أن الله كان يحبني لأن هذا الأمر لو كان حدث لحدث لي كذا وكذا وكذا.

فعلينا من البداية أن نُسلِّم لصاحب الأمر في النتيجة مع الأخذ بالأسباب كما كان يفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم.

التسليم الكلي

لَا تَفْعَلَنْ غَيْرَ الْمُرَادِ لَوْ أَنَّهُ

أَبْدَي لَكَ الْأَمْرَ الْشَّدِيْدَ بِمُجْمِلِ

هذه مرحلة التسليم الكلي، عندما يُسَلِّم الإنسان تسليم كلي لشيخه فإذا أمره بأمر يعلم علم اليقين أنه دبَّر له هذا الأمر وكفاه وأغناه، فلا يشكك فيه ويقول: كيف أعمل ذلك؟! فعندما كان صلى الله عليه وسلَّم في غزوة الأحزاب وهبَّت عليهم الريح فقال:

{ قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ }[7]

والريح كانت سريعة والبرد شديد، والصحابة كلهم كانوا خائفين، والكفار لم يروا أنفسهم من الظلام، والإبل والجمال والخيل فُكَّت من أربطتها وأخذت تجري حتى أنها كانت تدوس على كل من يقابلها، فظنوا أن المسلمين هجموا عليهم وأخذوا يمسكون بالسيوف ويضربون بعضهم بعضاً.

فأين يذهب سيدنا حذيفة؟ يقول سيدنا حذيفة رضي الله عنه وأرضاه:

{ فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ }[8]

الحمَّامُ مِن الحميمِ، وهو الماءُ الحارُّ، والمعنى: أنَّه لم يَجدِ البَرد الَّذي يَجِدُه النَّاسُ ولا مِن تلكَ الرِّيحِ الشَّديدةِ شَيئًا، بل عَافاهُ اللهُ من ذلك بِبركةِ إِجابتِه لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وذَهابِه فيما وجَّهَه له.

وهناك أمثلة لا تُعد ولا تُحد في هذا الباب لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

فإذا أمرك بأمر فاعلم يقيناً أنه دبَّر لك حيثياته فلا تشك ولا ترتاب، لأنك لو شككت وارتبت ستقول: لِمَ يفعل بي هذا؟ وهل يريد أن ينتقم مني؟! لكنه يُحبك، ويريد أن يرفعك درجات، ويريد أن يقربك إلى أعلى الدرجات.

فلا بد للإنسان عندما يُؤمر بأمر أن يسارع إلى تنفيذه، لماذا؟ لأنه إذا أقامك أعانك، ولكن بشرط أنك لا تتصرف من تلقاء نفسك في هذا الأمر، ولكن بمراده.

نفرض أننا قلنا لك: أنت أصبحت مندوب لنا في بلد كذا، فهل تمشي كما تريد أم كما نريد؟ تمشي كما نريد، فإذا مشيت كما تريد فقد خلعت نفسك من المندوبية، وسيتركك صورة فقط في كل شيء، لكن لا توجد عطاءات إلهية ولا إشراقات محمدية لأنك تمشي على حسب هواك.

يقولون كانت هناك قبيلة من العرب من أربعة آلاف رجل وكان فيهم رجل حكيم واحد، ولكنهم كانوا يأتمرون بأمره ولا يمشون إلا عن رأيه، فهم أربعة آلاف حكيم، وهذا هو المطلوب.

من أين تأتي الخلافات؟ أن هذا له رأي، وهذا له رأي، وهذا له رأي، لكن نريد أن يكون مرادنا كلنا هو مراد الله، ومرادنا هو مراد رسول الله، والذي يسوقنا إليه ويأخذ بأيدينا إليه هم الصالحون من عباد الله سبحانه وتعالى.

(لَا تَفْعَلَنْ غَيْرَ الْمُرَادِ لَوْ أَنَّهُ أَبْدَي لَكَ الْأَمْرَ الْشَّدِيْدَ بِمُجْمِلِ) يعني أمرك بشيء شديد وأنت تظن أنك لن تستطيع أن تعمله، فماذا تفعل؟ استعن بالله، وما دام هو قد أمر فسيعين وستأتيك المعونة من رب العالمين سبحانه وتعالى.

التوبة من المخالفات

وَإِذَا فَعَلْتَ الْأَمْرَ وَهْوَ مُخَالِفٌ

تُبْ نَادِمًا مِنْهُ بِغَيْرِ تَأَوُّلِ

إذا وقعت في خطأ لأن نفسك حملتك على أمر تريده لنفسك، فما أفضل شيء في هذا المقام؟ أن أعترف بأنني أخطأت لكي تسرع وتمشي في طريق الصالحين على الدوام، لكن ستكابر وتحاول أن تتأول، وتحاول أن تأتي لنفسك بعلة، وتحاول أن تأتي لنفسك بعُذر، فعُذر أقبح من ذنب، وستظل في أوحال التوحيد ولا تخرج إلى فضاء التفريد أبداً.

لكن إذا أخطأت واعترفت، تدخل في قول الله: ” ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ” (118التوبة).

(تُبْ نَادِمًا مِنْهُ بِغَيْرِ تَأَوُّلِ) تب نادماً ولا تتأول، يعني تحاول أن تأتي لنفسك بأعذار، أو تلتمس لنفسك بحُجج، وتلتمس لنفسك برأي لتفر منه أو تخرج منه، فأنت هل ستفر مِن الذي يطَّلع على ظاهرك وباطنك تبارك وتعالى؟! فالأفضل من البداية على الفور التوبة، وهو سبحانه وتعالى يقبلها، وتدخل في: ” فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ” (70الفرقان).

غيب الشؤون

فَلَهُمْ شُؤُونٌ لَا يَلُوحُ خَفِيُّهَا

إِلَّا لِمَيْتٍ عَنْ هَوَاهُ بَمَعْزِلٍ

من يقرأ أحوال الصالحين إذا لم يرزقه الله التسليم سيقف العقل حجر عثرة أمام هذه الأحوال، لأنها تحتاج للإنسان الذي مات، كيف مات؟ كما ذكر ربنا في القرآن: ” أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ” (122الأنعام) مات عن حظه وهواه واحتيا الحياة الإيمانية أو الحياة الإحسانية أو الحياة الإيقانية أو الحياة القدسية .. حيوات كثيرة، أصبح حياً بالله وأصبح ينظر ببصر الله ويسمع بسمع الله وينطق بنطق الله: ” كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ” (122الأنعام).

فلذلك اعلم أن أحوال العارفين لا تُناقش بالفكر، ولا يُحكم عليها بالعقل، وإنما تحتاج إلى أذواق قلبية وتسليم بالكلية، وتطلب من الله أن يُلحقك بهم لترى ما رأوا وتذوق ما ذاقوا وتشهد ما شهدوا، وهذا طريقهم وهذا سبيلهم.

لكن لا تزن أحوالهم بالعقل، فالعقل أين هو؟ لا يوجد إلى وقتنا هذا في الكون كله من يعلم أين العقل؟ الذي في الرأس يسمى المخ، وهو الذي يسيطر على الجهاز العصبي.

لكن العقل الذي فيه الذاكرة، والذي فيه الخيال، والذي فيه التصور، والذي فيه الإدراك، والذي فيه التفكر، أين هو؟ لا يعلمه إلا خالقه تبارك وتعالى.

فإذا كان الإنسان لا يعلم أين العقل، فكيف يدرك بالعقل الأحوال التي أجراها الله تبارك وتعالى على العارفين والصالحين؟ وهذه نسميها الكرامات، وهي عبارة عن أمور خارقة للعادة، يعني خارقة للسنن الكونية.

هل يوجد جهاز موجود في أي دولة من دول العالم أستطيع أن أسلطه على الإنسان ويعلم ما يجول بخاطر هذا الإنسان؟ لا يوجد، لكن يوجد جهاز في الإنسان إذا أيقظه الرحمن يعلم خواطر غيره ويتكلم عنها ويتحدث بما فيها، فكيف أزن هذا بالعقل؟! لا أستطيع، وقس على ذلك كل الإكرامات وكل العطاءات التي يهبها الله تبارك وتعالى للصالحين.

(فَلَهُمْ شُؤُونٌ لَا يَلُوحُ خَفِيُّهَا) الصالحين لهم شؤون وأحوال إذا أبيحت لأحبابهم وأصحابهم فإنهم لها كاتمون وغير مبيحين لأنه لو أباح يُعاقب فوراً:

احفظن سري فسري لا يُباح

من يبُح بالسر بعد العلم طاح

علمنا فوق العقول مكانة

كيف ذا وهو الضيا الغيب الصُراح

خصَّنا بالفضل فيه ربنا

ذاك سرٌ غامضٌ كيف يُباح

والفتى المجذوب بالحب له آية

إنه إن ذاق خمر الحب صاح

وهو محمول العناية إن يبُح

بالحقائق ما على الفاني جُناح

لا تبيح بسر ولا تكشف ستر، لماذا؟ حتى لا يُكذَّب الصالحين أهل الله، ولا يُعادى المتقين، لأن من عاداهم يُعلن الله سبحانه وتعالى عليه الحرب، لأنك أبحت بالسر، لكن اجعله لنفسك إذا كنت من أهل هذا المقام.

المداراة

قَدْ يَأْمُرُونَ بِغَيْرِ مَا هُوَ قَصْدُهُمْ

وَمُرَادُهُمْ يَبْدُو لِفَرْدٍ عَامِلٍ

هذه تحدث للكُمَّل في مقام السير والسلوك، لكن الشيخ يأمر بعض المريرين بأمر ويرى هو أن الشيخ يرى غير هذا الأمر، ما هذا؟ قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ أُمرْتُ أَنْ أُخَاطِبِ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِم }[9]

ويخاطب المؤمنين على قدر قلوبهم، ويخاطب الموقنين على قدر أرواحهم، فلكل قوم مقام.

فيخاطب الناس على قدر ما تتحمله العقول، لكنه يرى الحقيقة، والحقيقة من نور، ولذلك كما قلت: لا يكون المريد صادقاً حتى يعرف مراد شيخه قبل نطقه، قبل أن ينطق يعرف ماذا يريد من هذا الأمر، حتى إذا اختلف الكلام في ظاهره، قال صلى الله عليه وسلم لصحبه:

{ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ }[10]

جماعة منهم فهموا أنهم لا يمشون إلا بعد أن يصلوا العصر، وجماعة فهموا أنهم يذهبون إلى بني قريظة أولاً ويصلون العصر هناك، فأقرَّ صلى الله عليه وسلم الطائفتين ليفتح باب الاجتهاد.

لأن باب الاجتهاد لو أُغلق سيصبح هذا الدين كسواه من الأديان، لكن الدين الإسلامي مرن وفيه يُسر وفيه سلاسة وفيه سهولة ومفتوح فيه باب الاجتهاد إلى يوم الدين.

لذلك إذا فهمت فهماً فلا تحجر على رأي الآخرين، لأن هذا ما يجلب المشاكل بين المريدين، فالشيخ يقول كلمة، واحد يقول: أنا أرى أن الشيخ قصده كذا، والثاني يقول: أنا أرى أن الشيخ قصده كذا، والثالث يقول: أنا أرى أن الشيخ قصده كذا، ولا بأس في ذلك، لكن المشكلة إذا أصرَّ كل واحد على رأيه وأنه هو الصواب ويعادي الآخرين، فلِمَ يا أخي؟ ألا تفعل كما فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؟!! فهذا رأيك ونفذه في نفسك واترك غيرك يُنفذ رأيه الذي ألهمه به الله.

فالوسعة تقتضي عدم النزاع وعدم الخلاف، ما دمنا جميعاً لا نخرج عن إطار شرع الله، من الذي نوقفه ولا نقف له؟ الذي يخالف رأيه لشريعة الله، لأن الله قال: ” وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ” (54الأنعام).

فلو عملنا ذلك فلن يحدث خلاف في بلد من البلدان، إذا اختلفت الآراء في أمر واحد، ماذا نفعل؟ ” وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ” (38الشورى) نريد أن ننفذ الشورى ونطبقها، الشورى يجب أن تكون في بيوتنا مع أولادنا وزوجاتنا، ومع أحبابنا في أي مكان وزمان.

فأنا أنظر من ناحية، وهو ينظر من ناحية أخرى، والآخر ينظر من ناحية أخرى، والرابع ينظر من ناحية أخرى، فتتضح الصورة من جميع الجهات، لكن لو أخذنا برأي واحد فهو من جانب واحد، عن ابْن عبَّاس رضي الله عنهما، قَالَ:

{ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ غَنِيَّانِ عَنْهَا، وَلَكِنْ جَعَلَهَا رَحْمَةً لأُمَّتِي، فَمَنْ شَاوَرَ مِنْهُمْ لَمْ يُعْدَمْ رُشْدًا، وَمَنْ تَرَكَ الْمَشُورَةَ لَمْ يُعْدَمْ غَبْنًا }[11]

الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحتاج للمشورة لأن معه الوحي، فلماذا نزلت؟ للتعليم، ولذلك لما أشار عليه الشباب في غزوة أُحد أن يقاتلوا خارج المدينة، والنبي كان رأيه كرأي الشيوخ أن يقاتلوا داخل المدينة، ولكنه لما وجد الشباب أكثرية أخذ برأيهم، وحدث ما حدث، فقال له الله: ” وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الامْرِ ” (159آل عمران) لا تترك المشورة لحدوث هذه النكسة.

فالمشورة هي الحبل الذي يجمع جميع الأحبة، مهما كان عندك جميع علوم الأولين والآخرين، وعندك كفاءة القادة من أول رمسيس الثاني أو أحمس إلى يومنا هذا، وعندك حكمة الحكماء أجمعين، فربما مشورة واحد من الحاضرين تكون هي الأصوب في هذا المجال.

وحضرة النبي أعطانا أمثلة، فعندما أمر أصحابه في صُلح الحديبية أن يذبحوا هديهم ويحلقوا فرفضوا، ودخل على السيدة أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، فقالت له:

{ يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا }[12]

الصحابة كانوا فريقين، فريق يعملون بما يقول، وفريق يعملون بما يفعل، فالذين يعملون بما يقول فهؤلاء على قدرهم، والآخرين يريدون أن يكونوا من أولي العزم فيقتدوا به: ” إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ” (20المزمل) هم في مقام المعية.

فعندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وذبح الهدي فكلهم أسرعوا وذبحوا الهدي، وعندما حلق شعره تجمعوا على رسول الله وكل واحد منهم كان يتنافس على أن يأخذ من شعر رسول الله شعرة أو شعرتين.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ المشورة من السيدة أم سلمة مع أن معه الوحي، ليعرفنا أننا جميعاً نحتاج المشورة، فالأمور الاجتماعية التي تحدث بيننا كالأفراح نحتاج فيها لرأي النساء، لأن عندهن خبرة في هذه النواحي.

فلا بد لنا من المشورة جميعاً في كل أمر من الأمور، ولو تابعنا المشورة فإن كل أمورنا ستكون مسددة ومؤيدة، لأننا نمشي على المبدأ القرآني والمبدأ النبوي: ” وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ” (38الشورى)

الجمال والجلال

طَوْرَاً تَرَاهُمْ وَالْبَشَاشَةُ حَالُهُمْ

وَمَقَامُهُمْ حَقًا بِأَرْهَبِ مَنْزِلٍ

هذه مواجهات الصالحين، يواجَه بالجلال ويواجَه بالجمال، إذا وصل إلى مقام الكمال يواجَه بالجمال الصرف من الواحد المتعال، فعندما تراه تجده دائم البشر دائم الترحاب دائم التبسم، لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان أكثر أحواله التبسم وليس الضحك بصوت عال، فيلقى كل من يلقاه بالبشر والترحاب، ولذلك كانت العبارة التي على لسانه والتي نسمعها دائماً من الصالحين والصادقين: (أبشر) لأنهم مبشرين، يبشر الإنسان مع أن قلبه في الجبروت الأعلى في أعلى مقام الرهبة من حضرة الرحمن، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً }[13]

كلما زاد المقام كلما زاد الخوف من مقام الرحمن تبارك وتعالى، ولكنه يتجمَّل أمام بني الإنسان حتى لا يُعلم باطنه، ولا ينظر إليه إلا حضرة الرحمن تبارك وتعالى.

القبض والبسط

آَنًا تَرَاهُمْ فِي انْقِبَاضٍ ظَاهِرٍ

وَشُهُودُهُمْ يُنْبِي بِسِرِّ تَجَمُّلِ

أحياناً يظهر عليه الانقباض، وهذا الانقباض يحدث عندما يكون هناك حالة تهم المسلمين، إن كانوا في حالة شدة أو في حالة بأساء أو في حالة ضُر أو في حالة خوف من وقوع بلاء للمسلمين، ففي هذا الوقت لا ينفع البِشر، فظاهره هنا يظهر عليه الخوف والوجل، ويبتهل ويضرع إلى رب العالمين سبحانه وتعالى حتى يرفع عن الأمة كلها هذا البلاء، قال الله تعالى لحضرته: ” وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ” (33الأنفال).

رجلٌ من الصالحين من مصر اسمه سيدي عبد الله القرشي وهو دفين بيت المقدس الآن، وكان من كُمَّل الصالحين، ذهب لزيارة سيدنا إبراهيم الخليل في الخليل في فلسطين وكان يرى من يزورهم عياناً، فرآه فقال: يا سيدي اجعل ضيافتي رفع البلاء عن أهل مصر.

هذا نسميه (شيَّال الهموم) من الذي يحمل هموم الخلق جميعاً؟ الصالحون، فهم الذين يرفعون أكف الضراعة، ويظلون يدعوا الله، ويلجؤون إلى الله، إلى أن يرفع البلاء عن الأُمَّة.

ولذلك يكون في هذه اللحظات ظاهر عليه أحياناً الهموم، وأحياناً الانقباض وعدم الانبساط، وفي هذه اللحظات نأخذ حذرنا، فلا يحاول أحدٌ منا أن يلاطفه أو يتكلم معه كثيراً، لأنه يكون في حالة غير عادية، وربما تُصاب برزية وأنت لا تتحمل ذلك.

الأدب عند القبض والبسط

فَاحْذَرْهُمُو فِي قَبْضِهِمْ أَوْ بّسْطِهِمْ

وَكُنِ الْوَلِيَّ لَهُمْ بِسِرِّ تَنَزُّلِ

كما قلت في حالة القبض نحذره، أحد الصالحين دخل الخلوة لبلاء نزل بالأُمَّة، وقال: لا أحد يدخل عليَّ، فجاءت امرأة وأصَّرت أن تدخل، فدخلت وأرادت أن تتتكلم، فقال لها: اسكتي، فحدث لها خَرس في الحال، لأنها لم تمشي على الآداب، لأنه كان في حال انقباض كلي، وعند هذه الأحوال يبتعد الإنسان ولا يحاول الاختلاط بهم.

وإذا كان الشيخ سيباسطنا ويضحك معنا ويمازحنا، فاحذر، لأنهم قالوا: (إذا أجلسوك على البساط فإياك والانبساط) إياك أن تتجاوز الحد، وهذه تحدث كثيراً، يمازح الشيخ أحدهم فيتجاوز في المزاح والكلام، وهذا قد أساء الأدب، ومن أساء الأدب رُدَّ إلى اسطبل الدواب لأنه لم يتعلم الآداب مع الصالحين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

فسواء كانو على هذه الحالة أو هذه فلا أكمل ولا أجمل من الأدب مع الصالحين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.

بيع النفس والمال

وَابْذُلْ لَهُمْ قَبْلَ الْإِشَارَةِ كُلَّ مَا

تَمْلُكُهُ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ وَاصِلِ

المفترض أن الإنسان الذي يتبع الصالحين يعمل بيعة: ” إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ” (111التوبة) الصالحين لا يريدون شيئاً من الخلق، لكن أقامهم الحق لنشر دينه الحق بين الخلق، فلا بد أن يكون لهم أنصاراً ولا بد أن يكون لهم مساندين ولا بد أن يكون لهم معاهدين، ويا هناه من يفعل ذلك معهم.

فإذا وجد الإنسان جمَّاً غفيراً حول الشيخ، ووجد أن الطعام الموجود قليل، فماذا يفعل وهو معه مال؟ لا بد أن يبادر، ولا ينتظر حتى يقال له: هات يا فلان، بل لا بد أن يظهر في هذا الأمر.

فإذا وجد أنهم يعملون عملاً كأن يتممون بنياناً مثلاً أو كذا أو كذا، ويحتاجون إلى قضاء مصلحة لإتمام هذا العمل في المكان الفلاني وهو يعرف واحد هناك، فلا ينتظر حتى يعرضوا عليه ويقولون له: ابحث لنا عن أحد هناك.

فيجب أن يتطوع الإنسان من قِبَل نفسه لقضاء مصالحهم، ويا هناه، هل عرض رسول الله صلى الله عليه وسلَّم على الأنصار استضافة المهاجرين؟ لم يحدث، بل إن كتب التاريخ تحكي أنه عندما كان يأتي مهاجر كان الأنصار يتنافسون على من يأخذه، حتى قالوا: كان الرجل يتنافس في أخذه خمسون رجلاً من الأنصار، وليس شرطاً أن يكون عنده شيء ليضيفه، فأحدهم كما ورد أخذ ضيف رسول الله وقال لزوجته:

{ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ لَا، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئْ السِّرَاجَ، وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ، قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ }[14]

ونزل فيهم قول الله: ” وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ” (9الحشر).

ما هذا؟ هذه الصوفية في كل زمان ومكان، فالذي يقول في نفسه أنا أذهب لهؤلاء وآكل وأشرب معهم ويستحيل أن أُخرِج لهم مليماً، فأنت تضحك على نفسك لأنك حرمت نفسك من هذا الفضل وحرمت نفسك من هذا الخير، وحرمت نفسك من قول الله: ” وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ” (133آل عمران) فلم تحرمهم هم، فهم أخذوا الثواب وخلاص.

لكن أتباع الصالحين على هذه الشاكلة إلى يوم الدين، طبعهم الأصيل الجود، والجود بالموجود، نحن قومٌ نجود بالموجود ولا نتكلف المفقود.

” الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ” (134آل عمران) شيء بسيط يطالبك به الله، فلا يطالبك بأن ترهق نفسك وتنفق شططاً، لكن أي شيء تعمله ولو كان يسيراً عند الله كبير.

السيدة عائشة رضي الله عنها جاءها ضيف أعطته حبة عنب، فقالوا لها: أتعُطيه حبة عنب واحدة؟ قالت: (إن فيها لمثاقيل كثيرة من الحسنات لو تعلمون) يعني فيها حسنات كثيرة ولكنكم غير منتبهين، قال صلى الله عليه وسلم:

{ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ }[15]

لكنك تظل تجمد يديك دائماً وتضعها في جيوبك، ولا تريد أن تُخرجها وتنفق في رحاب الله وعلى فقراء الله، فتكون كما قال الله: ” مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ” (38محمد).

لكن الصالح الذي يريد أن يصلُح لا ينتظر الأوامر، ولا يقول: أحد طلب مني، فلا أحد يطلب من أحد، نحن لا نطلب إلا من الله، ولا أحد ينتظر من أحد، وحتى لو دفعت لا تنتظر من أحد أن يقول لك: شكراً، لأنك دفعت لله فتنال أجرك من الله.

إذا كنت تريد أن أقول لك: شكراً فقد أخذت أجرك، وأكون ضيعتك، لكنك جئت بشيء لله، فتنتظر الأجر من الله سبحانه وتعالى.

وهذا معنى (وابذل لهم قبل الإشارة) يعني قبل أن يطلبوا كل ما تملكه سواء كان مالاً أو جاهًا، أو أي شيء تستطيع أن تنفع الأحبة والإخوة به

[1] المقطم – مجمع الفائزين 2 من ربيع الآخر 1444هـ 27/10/2022م

[2] معجم السقر وشرح السنة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[3] البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها

[4] جامع العلوم والحكم

[5] جامع الترمذي وسنن أبي داود عن أسامة بن شريك رضي الله عنه

[6] البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

[7] صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

[8] صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

[9] رواه الديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما

[10] البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما

[11] آداب الصحبة للسلمي وشعب الإيمان للبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما

[12] صحيح البخاري ومسند أحمد عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه

[13] صحيح البخاري

[14] صحيح مسلم وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه

[15] البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه

[1] المقطم – مجمع الفائزين 2 من ربيع الآخر 1444هـ 27/10/2022م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid