• Sunrise At: 6:05 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

10 اكتوبر 2020

جـ2 أعمال المؤمنين والكفار 36-40 النور

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

جـ1 أعمال المؤمنين والكفار

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

” فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالابْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ” (36-40النور).

الآيات التي معنا آيات مهمة جداً لنا جماعة المؤمنين، فالآية الأولى توضح الأعمال الصالحة والأماكن الرابحة التي أمرنا الله تبارك وتعالى أن نعبده فيها، ونتوجه إليه بالطاعات والقربات، لنفوز بفضل الله، والزيادة من كرم الله وعطائه جل في عُلاه.

والآيات التي تليها توضح لنا حقيقة مهمة وهي كيف نعمل العمل ونضمن له القبول عند الله؟ وما الأشياء التي تمنع قبول العمل الصالح لنتجنبها فنحظى برضوان الله تبارك وتعالى؟.

فالله سبحانه وتعالى جعل بيوته وبيوت الله في الأرض هي المساجد، وهذه المساجد لمن؟ ” وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ” (18الجن) ليست ملكاً لأحد من البشر، بل ملك خالق القوى والقُدر تبارك وتعالى، وما دامت هي لله فلا بد أن تُبنى من البداية على الطهارة، وعلى تحري الحلال في الإنفاق عليها في كل خطواتها من البداية إلى النهاية.

لا يجوز لمسلم أن يتبرع لمسجد بمال فيه شُبهة، أو بمال فيه حُرمة، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا }[1]

بعض البشر قضى شطراً من حياته بعيداً عن الله، وقضاها في المعاصي والذنوب، وفي النهاية يقول: أريد أن أكفِّر عن خطاياي فسأبني مسجداً لله، وهذا المسجد إن كنت ستبنيه بمال أنت ورثته من حلال أو اكتسبته من حلال فلا مانع، لكنك لو جمعت المال من حرام وتريد أن تكفر عن الذنوب والآثام ببناء بيت يُذكر فيه اسم الله من مال حرام فلا يجوز ذلك: ” إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ ” (27المائدة).

ولذلك سلفنا الصالح كانوا علماء وحكماء وفقهاء، فقد أراد نفر في بلد ما أن يبنوا مسجداً، فأراد بعض إخوانهم في البلدة من أهل الكتاب مشاركتهم، فاحتاروا ماذا يصنعون؟! فذهبوا لرجل صالح تقي عندهم وقالوا له: ماذا نفعل؟ قال لهم: خذوا المال منهم وأنفقوه في عمل دورات المياه، لأن دورات المياه في الأصل ليست من المسجد، فالمسجد الحرام ليس فيه دورات مياه، وكذلك المسجد النبوي، ولكن أين دورات المياه؟ في خارج المسجد، وحتى لو عملناها في المسجد تكون في ركن منه ولا تكون من المسجد، لكن المسجد لا بد وأن يكون من حلال أحله الله تبارك وتعالى.

الجزيرة العربية كانت في فترة طويلة من الزمن تابعة لمصر، وكنا نعين لها الولاة والحكام، وكان ذلك أيام دولة المماليك، وهي  فترة طويلة تزيد عن خمسمائة سنة، وكانت كسوة الكعبة تخرج من مصر، وكان أي شيء يلزمهم يكون من مصر.

فأراد الخليفة المملوكي وهو السلطان قايتباي – ونحسبه من الصالحين – أن يجدد المسجد النبوي، ولم تكن في هذا الزمن الخرسانة المسلحة، فكانوا يبنون الجدران بالطوب ولكن بشكل عريض، يعني بأربع طوبات أو أكثر، وكانوا يعرشون السقف بعروق خشب وعليها كسوة من الألواح الخشب.

وبعث الخليفة وفد من مصر، وقال لهم: أي شيء يُوضع في عمارة المسجد النبوي سجلوه من أين أتى؟ ولا تأخذوا شيئاً غصباً من أحد، أو شيئاً مسروقاً، ولا شيء من حرام، لأن هذا المسجد النبوي فلا بد أن يكون كل ما فيه من أحلِّ الحلال.

وبعد أن أنهوا بناء المسجد النبوي فوجئوا بصاعقة نزلت من السماء حرقت كل سقف المسجد النبوي، فبكى السلطان لأن عمله لم يُقبل، والعلماء أخذوا في البكاء، والصالحين أخذوا في البكاء، وأرسل الخليفة لجنة أُخرى وقال لهم: راجعوا السجلات التي سُجل فيها كل ما وُضع في هذا الموضع بدقة.

فعندما راجعوها وجدوا شيئاً غريباً، وجدوا أن عرقاً واحداً من الخشب أُخذ غصباً، فلم يرض الله تبارك وتعالى أن يكون في بيته عرقاً واحداً غصباً، فنزلت الصاعة وأخذت الكل حتى نعلم أن بيوت الله لا بد وأن تُبنى من مال حلال صالح موافق لما جاء في شرع الله حتى يتقبله الله تبارك وتعالى منا بقبولٍ حسن.

تعظيم بيوت الله

” فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ” أذن الله يعني أمر الله، وتُرفع يعني تُبنى، لماذا تُبنى هذه البيوت؟ ” ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ” وماذا يعني ذكر الله هنا؟ كل الأعمال الصالحة التي فيها ذكر الله، وأولها الصلاة لأن الصلاة كلها عبارة عن ذكرٌ لله، وتلاوة كتاب الله، ومجالس ودروس العلم والحكمة، ومجالس تحفيظ القرآن، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، والتحميد لله .. كل هذه الأعمال الصالحة تكون خاصة ببيوت الله سبحانه وتعالى، يعني لا نذكر فيها أحاديث الدنيا، قال صلى الله عليه وسلَّم في حديثه:

{ سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ حِلَقًا حِلَقًا، إِمَامُهُمُ الدُّنْيَا، فَلَا تُجَالِسُوهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ}[2]

يجلسون في المسجد يتحدثون في أمور دنياهم، وهؤلاء إذا رأيتموهم فلا تخالطوهم، لأن المساجد لله، وهي أن تكون المساجد قاصرة على الصلاة، فإذا انتهينا من الصلاة في المسجد نغلقه، ولا نتركه لمن ينام ومن يتكلم ومن يحكي، فتكون قاصرة على طاعة الله وعبادة الله، وهذا التعظيم الذي يجب أن نعظمه لله تبارك وتعالى في بيوته تبارك وتعالى.

وهناك أثر عن بعض الصالحين يقول: ((الكلام في المساجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب] والكلام واضح في الآية، فبيت الله يكون قاصراً على الأعمال التي يُذكر فيها اسم الله، والتي تُقرِّب العبد إلى مولاه تبارك وتعالى.

من الذي سيُحيي هذه المساجد ويجعل فيها نورانية وشفافية واتصال بالملائكة العلوية الذين يعمرون المساجد؟ الرجال الذين وصفهم الله: ” يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالأَصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ “ (النور) وقت الغُدو هو وقت الصبح والفجر الأول، والآصال هي آخر النهار يعني العصر والمغرب والعشاء، والذي يحي هذه الأقوات هم رجالٌ العظماء.

وإلى عصر قريب كان هناك رجال في كل بلدة، ومع أنهم كانوا قليل، ولكن كان معهم مدد كثير، فكانوا يذهبون للمساجد قبل الفجر بلحظات أوبدقائق أو بساعات ويجلسون مع الله، وهؤلاء يقول فيهم الله في الحديث القدسي:

{ إِنِّي لأَهِمُّ بِأَهْلِ الأَرْضِ عَذَابًا، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى عُمَّارِ بُيُوتِي، وَالْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ صَرَفْتُ عَنْهُمْ }[3]

هؤلاء عندما كانوا في كل بلدة، كانوا سبباً لصرف البلاء النازل من السماء عن أهل هذه البلدة، لأنهم يحيون أفضل الأوقات عند الله تبارك وتعالى: ” وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ” (17آل عمران).

وكان بعضهم يعمل لهم ورد في ساعة السحر يقرأونه مع بعضهم، وكنا نسمع ورد السحر هنا وهنا وهنا، ما هذا؟ هذا الذي قال لنا فيها الحبيب:

{ لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ }[4]

وقال:

{ لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }[5]

البلاء ينزل من السماء، والدعاء يصعد من الأرض، فيتصارعا، فإذا غلب الدعاء البلاء، صُرف البلاء، يعني البلاء النازل يحتاج إلى الدعاء، ومتى يكون هذا الدعاء؟ في الوقت الذي ينزل فيه ربنا إلى السماء الدنيا وهو الذي يقول:

{ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ }[6]

ينتظرنا في هذا الوقت، ويفتح كل أبواب الإجابة، ولكن لمن يجلسون على أعتابه، ويناجونه ويتملقون إليه، ويسألونه سبحانه وتعالى في هذه الأوقات.

كثير من شبابنا في هذا الزمن يجلسون على هواتفهم المحمولة حتى الساعة الثانية والثالثة صباحاً، وقبل الفجر بقليل يكون قد نام، ومتى يُصلي الفجر؟ قبل الظهر!، فمن أين يأتي الخير والبركة؟! وكيف يُرفع البلاء والعناء عنا؟! الذي يُريد أن يكرمه الله بعمل، فهذا موطن الدعاء، والذي يُريد أن يشفيه الله من داء، فهذا موضع الإجابة، والذي يُريد أن يوسع الله له الأرزاق والعطايا، فهاهو الباب مفتوح، وهو الذي ينادي عليك ليُعطيك ويُغنيك بفضله عن جميع خلقه تبارك وتعالى!.

فالله عرَّفنا حتى لا نتوه، ونتوجه إليه في أحب الأوقات إليه، وهو قت الفجر، ووقت المغرب، ووقت العشاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ، كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ }[7]

مداومة ذكر الله

الذي يحافظ على هذه الأوقات، يمُن الله تبارك وتعالى عليه بمنة عُظمى، فيُلهمه ذكره، ويجعله ذاكراً لله في كل الحالات، إذا سهى يُفكِّره، وإذا نسي يُذكِّره، فإذا كان يمشي وهو صامت يتذكر، فيذكر الله، أو يستغفر الله، أو يصلي على رسول الله.

ويواصل الذكر حتى يُرفع قدره عند مولاه، ويدخل في قول الله: ” رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله “

ما أكثر شيء يشغل الإنسان؟ التجارة، لأن التاجر يبيع ويشتري، وهذا يريد منه هذا الطلب، وهذا يريد منه هذا الوزن، فإذا كان هذا التاجر لا ينشغل عن الله، فهذه منزلة عظيمة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يُبلِّغنا إياها لندخل في قول الله: ” وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ” (35الأحزاب).

وأعطانا الله نماذج طيبة من أصحاب حضرة النبي في هذا المقام، كان الله يذكرهم بذكر الله، فكانوا يديمون على ذكر الله في كل الأوقات، وهم نائمون، وهم جالسون، وهم ماشون: ” يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ” (191آل عمران) يعني في كل الأحوال.

وهذه علامة حب الله، فمن ألهمه الله ذكره يعرف أن الله يُحبه، ومن نراه ذاكراً لله على الدوام، نعرف أنه ذو مكانة عظيمة عند الله، وأنه من الصالحين، لأن الله لن يُلهم أحداً بالذكر على الدوام إلا إذا كان يُحب سماع صوته، وإلا إذا كان يحب أن يستديم على طاعة الله، وعلى التسبيح والتقديس والتحميد لحضرته تبارك وتعالى، وحتى البيع والشراء لن يشغلهم عن ذكر الله.

إقام الصلاة

وماذا أيضاً؟ ” وَإِقَامِ الصَّلاةِ “ لم يقُل (والصلاة) لكن وإقام الصلاة) لأن هؤلاء يذكرون الله على الدوام فلا ينشغلون عن الله، فعندما نُصلي تأتي المشاغل كلها في الصلاة، لكن المشغول بذكر الله على الدوام عندما يدخل في الصلاة؛ حتى لو صلى في مكان عمله والزبائن ينتظرونه، فقلبه لا يغيب لحظة عن ذكر مولاه، فيكون في تمام الحضور مع الله، ولذلك قال الله: ” وَإِقَامِ الصَّلاةِ “ وإقام الصلاة يعني الحضور والخشوع في الصلاة، وهو بين يدي مولاه تبارك وتعالى.

وكان أصحاب حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم في ذلك، فقد كانت لهم أحوال عجيبة وغريبة، لكن حضرة النبي بشرنا أنها ستحدث منا أو من أولادنا عن قريب إن شاء الله.

يكون السوق عامر، وعندما يسمع الناس الآذان، يترك كل تاجر تجارته كما هي على فرشه، ويذهب لتأدية الصلاة لله تبارك وتعالى، لا جنود تحرس السوق، وتعوَّدوا على ذلك كلهم، فمنعوا البيع والشراء في وقت الصلاة.

وهذا ما يحدث الآن في السعودية مع أنهم في محلات، فيغلق على الخزينة التي فيها المال ويضع ستارة، ولكنهم قديماً كانوا يفرشون بضاعتهم على الأرض، والمال تحتها، فيتركونها كما هي ويذهبون لله، لماذا؟ ” وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ” (45العنكبوت).

الرجل الذي كان يعمل بالفأس ليحرث الأرض، فإذا رفع الفأس وسمع المؤذن يقول الله أكبر، يُلقي بالفأس ولا يضرب ضربة في الأرض، وإذا كانت الفأس على الأرض لا يرفعها حتى يؤدي الصلاة ثم يعود إلى العمل بتوفيق الله وبمعونة الله جل في عُلاه، لماذا؟ لأنه خائف من نزع البركة، لأن أي عمل بخلاف الصلاة في وقت الصلاة تُنزع منه البركة، كما ورد في الأثر: ((لا بارك الله في عمل ينهى عن الصلاة)).

إذا وصلنا إلى هذه الحالة فأبشروا بأن نصر الله وإكرام الله وتيسير الله ووسعة الأرزاق من الله ستعمنا في هذا الوقت إن شاء الله، كما عمَّت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ورضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.

إيتاء الزكاة

” وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ “ إذا كان الإنسان حريصاً كل الحرص قبل أن يخرج المحصول من الأرض ويذهب للبيت، يكون قد أخرج نصيب الله وهو الزكاة، فإذا قالوا له: خذ المحصول البيت وبعدها أخرج منه الزكاة، يقول لهم: عندما أذهب للبيت قد تتغير النفس وتشِّح وتقول لي: لا تخرج كل هذا، وقد تعترضني زوجتي وتقول لي: أين تذهب بهذا كله فنحن أولى به؟!.

فمن البداية أُخرج حق الله، وأذهب بحقي أنا وأبنائي ومن أعولهم، ويُخرج حق الله كما قال الله: ” وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ” (141الأنعام) هل قال الله بعد حصاده؟! لا، ولكن في اليوم نفسه الذي تحصد فيه تُخرج حق الله عز وجل.

فلو كان عندك مساحة كبيرة من الأرض والمحصول سيخرج في عدة أيام، فالجزء الذي تحصده اليوم تُخرج منه حق الله في هذا اليوم، وما تحصده غداً تُخرج منه حق الله غداً، ولا تقول: عندما أنتهي، حتى تكون قد نفذَّت الآية: ” وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ ” (141الأنعام) قال العلماء في الإسراف هنا: أي أنك تؤخره، يعني تقول: عندما أرجع البيت، أو عندما أجني المحصول كله ثم أُخرج الزكاة، وهذا من النفس، لأن النفس دائماً تحاول أن تجعل الإنسان يزوغ عن عمل الخير الذي يُحبه الرحمن.

ونحن نلاحظ الكثير، عندما يرى رجلاً فقيراً أمامه يطلب مساعدة، فيعزم في نفسه أن يُعطيه جنيهاً مثلاً، فلو انتظر قليلاً فإن النفس ستقول له: الجنيه كثير، اعطه خمسين قرشاً، ولو انتظرت قليلاً،ستقول لك: الخمسين قرش كثير عليه يكفيه ربع جنيه، وهكذا تظل حتى لا تتصدق بشيء، لماذا؟ لأن هذه طبيعة النفس، ولذلك أمرنا الله بإخراج زكاة الزرع يوم حصاده.

والزكاة حق الله نعطيه للفقراء، كما ورد في الأثر عن الله عز وجل: ((الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي، فإذا بخل وكلائي على عيالي أذقتهم نكالي ولا أُبالي).

وأنا عندما أُخرج هذه الزكاة، ماذا ستفعل لي؟ إذا أخرجت الزكاة فقد أمَّنت على نفسك، وعلى مالك، وعلى بيتك، وعلى زرعك، وعلى مواشيك، من الغرق والحرق والمرض، لأنها أصبحت في صيانة الله، وأمان الله تبارك وتعالى، وإذا لم أُخرج، لا بد أن يأخذ حقه، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَا مَنَعَ قَومٌ الزَّكَاةَ إِلَّاَ ابْتَلاهُم الله بِالسِّنِين }[8]

وفي رواية أخرى:

{ وَلَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلَّا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَطْرَ }[9]

وفي بعض الاثر: ((ما منع قومٌ الزكاة، إلا سلَّط الله عليهم آفات الزراعة)) فيرسل كتيبة من المنِّ على الزرع، أو يُرسل كتيبة من الفئران على المخازن تقضي على ما فيها، من أين هذا؟ إنها تأخذ حق الله الذي رفضت أن تُخرجه لعباد الله، والذي قال لنا فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:

{ حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ }[10]

بأي شيء أحصنه؟ بالزكاة، كما نفعل نحن الآن مع أولادنا، لِمَ نُطَعِّم أولادنا؟ وقاية من الأمراض، فنطعمهم ضد شلل الأطفال حتى لا يُصابوا به، ونطعمهم ضد الإنفلونزا حتى لا تصيبهم، كذلك إذا أردت أن أُحصن مالي أحصنه بالزكاة التي فرضها الله سبحانه وتعالى علينا، ونُخرجها فوراً في يوم الحصاد.

هذه الأعمال التي ذكرناها وهي ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، من يعملها ليراه الناس ويحمدوه عليها، ويُثنون عليه ويشكروه، فهذا رياء، وعمله يكون غير مقبول عند رب العزة تبارك وتعالى، قال حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ صَلَّى وَهُوَ يُرَائِي، فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ وَهُوَ يُرَائِي، فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ يُرَائِي، فَقَدْ أَشْرَكَ }[11]

لكن لماذا يعملون هذا العمل؟ ” يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ “ يخافون من يوم القيامة، الذي يحاسب فيه الله على القليل وعلى الكثير، وعلى كل شيء قدمناه أو فعلناه في الحياة الدنيا.

فيعمل خوفاً من يوم القيامة، وخوفاً من لقاء الله، وخوفاً من محاسبة الله، وخوفاً من معاتبة الله، والخلاصة أنه لا يعمل من أجل الخلق، وإنما يعمل من أجل الحق سبحانه وتعالى، وهذا العمل الصالح الذي يقبله الله.

فضل الله

الذي يعمل هذا العمل لله خالصاً، ماذا يعمل الله له؟ شيئين اثنين: ” لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ “ يوفِّيه الله أجره وزيادة، لأن الله سيأخذ أجرك ويُنميه لك ويُزكيه، حتى تجده يوم القيامة عملاً ليس له حدٌّ ولا مقدار، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ }[12] وفي رواية: { حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ، فَتَصَدَّقُوا }[13]

وانظروا إلى هذا الفضل الإلهي!، فلن تأخذ الحسنة بعشرة، لان هناك لا أحد يستطيع العدّ، فالله يأخذها وينميها إلى يوم القيامة، حتى تصير أعمالاً لا عد لها ولا حد لها، لأنها أعمال يربيها وينميها الله عز وجل.

وماذا أيضاً: “وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ” يعطيهم من عنده أشياء أُخرى كانوا يتمنونها وخائفين أن لا ينالوها، كأن يمتعهم الله بالنظر إلى جمال وجهه، ويجمعهم في صُحبة حبيبه ومصطفاه، ويرزقهم جوار حضرة الحبيب في الجنة في المقام الأعلى في الفردوس، ويشفعهم في أهليهم وأصحابهم، منهم من يشفع في سبعين من أهله، ومنهم من يشفع في أربعمائة، ومنهم من يشفع في أكثر أو أقل على حسب فضل الله وإكرام الله تبارك وتعالى، فالفضل هنا غير الأجر الذي يأخذه نظير العمل.

أرزاق بغير حساب

” وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ “ هذه ترد على النعرة التي انتشرت في زماننا، عندما يكون عندنا تاجر يعمل بما يُرضي الله ويُوفي الكيل والميزان، ويُحسن التعامل مع خلق الله، فيقول له بعض من حوله من التجار: أنت لن تربح إن لم تفعل كما نفعل وتغش في كذا وكذا، لماذا؟ لأنهم يحسبون الحسابات الدنيوية، لكن هناك حسابات ربانية، فمن يمشي بما يُرضي الله تأتيه البركة في طعامه، وفي لبسه، وفي عياله، وفي بيته، وفي أرزاقه وأقواته.

هذه البركة إذا جاءت لإنسان فياهناه، لأن القليل سيُغنيه عن الكثير، ولا يحوجه الله تبارك وتعالى إلى أحد سواه، وهذه التي أغنى الله بها أحباب الحبيب المصطفى، فلم يكونوا يكسبون رزقهم بالغش أو المحايلة، ولكن يكسبون رزقهم بما يُرضي الله، فأعطاهم الله البركة.

على سبيل المثال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، هذا العالم الذي ليس له مثيل، ولكي يُرضي الله لا بد أن تكون له مهنة حتى لا يمد يده إلى خلق الله.

فكان سيدنا الإمام أبو حنيفة يعمل تاجراً في القماش، وكان له دكان في سوق البصرة يعمل فيه، وكان يجلس في السوق ساعة في النهار، وهذه الساعة كان يأتيه الله فيها بأرزاق تكفي أيام بصدق نيته، لأنه بعد ذلك يجلس في المسجد ليُعلِّم الناس لوجه الله، وفي أحد الليالي كان ماشياً في الطريق فسمع جماعة يقولون: أهذا الرجل الذي يقولون عنه أنه يُصلي الفجر بوضوء العشاء؟ فقال في نفسه: يا رب أعنِّي حتى لا أكون منافقاً، فماذا يعمل؟ قال: لا بد أن أعمل بما قالوا، فمكث أربعين سنة يُصلي الفجر بوضوء العشاء، والذي يُصلي الفجر بوضوء العشاء هل سيظل نائماً أم قائماً؟ قائماً يُصلي لله، ويتلو كتاب الله، ويذكر الله طوال الليل.

فكان طوال الليل مع الله، ومعظم النهار مع طلاب العلم يعلمهم لوجه الله، ومتى ينام؟ ينام ساعة القيلولة فقط، فيأخذ بعد الظهر ساعة تغنيه عن النوم بقية الليلة، ما هذا؟! هذه البركة، فالله أغناه بفضله عمن سواه لأنه كان ماشياً بما يُرضي الله.

وذات يوم وكان معه ابن أخيه يعمل معه، ويفتح الدكان وينظمه وينتظره، ففتح الدكان وجاءه رجلٌ كان قد اشترى جلباباً منه بالأمس، وجاء ومعه الجلباب وقال له: يا سيدي أمي لم توافق على هذا الجلباب وقالت لي: أعده، فقال له: كم دفعت فيه؟ قال: كذا، قال له: خذ، ثم قال لابن أخيه: أغلق الدكان، قال له: لماذا؟ قال: أنا جئتُ اليوم ونيتي أن أعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ، أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[14]

يعني ما دمت جئتُ ووفقني ربي وعملت بالحديث، فلا يلزمني شيء من الدنيا.

فلو حدث هذا في زماننا وذهب رجل مبكراً ليعيد ما اشتراه، سينال ما لا قِبل له به، ومعظمهم يكتب على المحل: البضاعة المباعة لا تُرد ولا تُستبدل، وهذه ليست في ديننا ولا في شريعتنا.

وذات يوم كان الإمام أبو حنيفة في الدكان، وذهب ليُصلي الظهر وترك الغلام، فلما عاد قابل رجلاً غريباً اشترى حُلة من عنده، فقال له: بكم اشتريت هذه الحلة؟ فقال له: بأربعمائة ديناراً، فقال له: إن ثمنها مائتين فقط، فقال الرجل: ولكن سعرها مناسب لي، فهي عندنا ثمنها أكثر من ذلك، فقال الإمام: ولكننا أخذنا العهد على رسول الله أن لا نغش مسلماً، تعال معي، فقال للغلام: هل أنت بعت له هذه الحُلة؟ قال: نعم، قال لم بعتها له بأربعمائة؟ قال: إنه موافق، قال: إنا لا نرضى أن نغش مسلماً، فإن ثمنها مائتين، وقال للرجل اختر شيئاً من اثنين، إن كنت تريدها فنرد لك مائتين دينار، وإما أن تعيدها وتأخذ الأربعمائة.

ولذلك كان رجل يعمل في التجارة، وجاءه الموت، فإذا كلموه يتكلم، وإذا قالوا له: قل (لا إله إلا الله) يقف لسانه، فحاولوا معه مراراً وتكراراً، فلم يستطع، قالوا: نذهب لأبي حنيفة، فقال لهم: أريد رؤيته، فذهب إليه وقال له: ماذا كنت تعمل في الدنيا؟ فنظر الرجل إلى أعلى، فوجد في السقف قفة معلقة، فقال لهم: أنزلوها، فوجدوا فيها كيلين، واحد كبير كان يشتري به، وواحد صغير كان يبيع به، فقال لهم: هذا السبب الذي أمسك لسانه النطق بالشهادتين عند الموت: ” وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ” (1المطففين).

السلف الصالح كانوا حريصين على العمل بكلام الله، ولذلك كان يعطيهم البركة في الأرزاق، والبركة في الأجسام، والبركة في الأولاد والبركة في الدور، والبركة في كل شيء، وكان الله عز وجل يغنيهم بالبركة عن جميع كائناته وعن جميع مخلوقاته.

استفتحنا هذه الآيات المباركة بالأعمال التي يحبها الله من الرجال الذين يحبهم الله، وإذا أحب الله عبداً وفقه لأفضل الأعمال في أفضل الأوقات وأفضل الأماكن، وأفضل الأماكن في الدنيا هي المساجد، وأعلاها المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومسجد بيت المقدس.

فالذين يحبهم الله – ونرجوا الله تعالى أن نكون منهم أجمعين – يعظمون هذه المساجد، ويجعلونها خاصة لطاعة الله وعبادته، ولا يرتكبون فيها أي محظورات نهى عنها الله، أو نهى عنها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

ويحافظون حتى وهم في أعمالهم الدنيوية، وفي حياتهم المعيشية على الدوام على ذكر الله، وعلى الإنتباه عند فرائض الله في وقت الآذان، فقد كان صلى الله عليه وسلَّم كما تحكي السيدة عائشة رضي الله عنها كما ورد ببعض الأثر: ((كان صلى الله عليه وسلَّم يجلس معنا يحدثنا ونحدثه، فإذا استمع إلى الآذان فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه)).

يلبي الآذان للرحمن فوراً، ويسارع إلى الوقوف بين يديه، ويُخرج ما طلبه منه من الحقوق المالية في الوقت الذي حدده في الآية القرآنية: ” وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ” (141الأنعام).

وأهم شيء في كل هذه الأعمال أن يبطنها بالإخلاص، وأن يجعل النية فيها خالصة لوجه الله، فتلك شيمة المؤمنين، وذلك طبيعة المخلصين، والتي يقول فيها الله: ” وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ” (5البينة).

أعمال الكافرين

ويحذرنا الله تبارك وتعالى من أعمال الكافرين، وضرب لنا مثلاً محسوساً ملموساً لنشهد كيف يرد الله تبارك وتعالى عمل هؤلاء مع فرحهم به: ” وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ” وأعمالهم هنا يعني أعمالهم الصالحة، مثل التطوع في عمل الخير، أو إذا كان علاج مريض، أو معونة مسكين، أو معونات يعطوها للدول فقيرة كما يقولون الآن، ويقولون أنها عمل خير، لكنه عمل خير لم تسبقه نية بر، وإنما النية فيه حب الظهور، أو تحقيق مكاسب سريعة.

فالمعونة التي تعطيها أمريكا لكثير من الدول، لماذا تعطيهم؟ هل لوجه الله؟! لا، ولكن ليمشون على سياستهم، والدولة التي لا تمشي على سياستها، فهل تواصل المعونة لها أم تمنعها؟ تمنعها على الفور، لأنها ليست لله، ولكن لمصالح عاجلة.

مثال السراب

” أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ” هؤلاء وصف الله عملهم كالإنسان الذي يمشي في الصحراء في وقت شدة الحرارة بعد الظهر، وليس فيها ماء، وهو ظمآن، فيرى سراب، والسراب يعني الخيال، فيُخيل له أن أمامه ماء، حتى إذا وصل إلى المكان لا يجد شيئاً.

فهم كذلك يظنون أن هذا العمل خير، لكن هذا العمل غير مقبول لأنه لم تسبقه نية طيبة، أو نية صالحة.

السيدة عائشة رضي الله عنها كانت من قبيلة عظيمة من قبائل مكة، وكان أحد أفراد هذه القبيلة زعيم مكة في زمانه، وكان اسمه عبد الله بن جدعان، عمل مضيفة كبيرة يتجمَّع فيها أهل مكة، ويُضيف فيها الغرباء، ويطعم فيها الفقراء، ولكنه لم يحضر حضرة النبي ومات قبل الرسالة، فالسيدة عائشة قالت:

{ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ جُدْعَانَ، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }[15]

قد يقول أحدهم: أنا أعمل خير كثير، ولكني لا أستطيع الصلاة، أو معي مال كثير ولكني لا أستطيع أن أحج، ولكن هل يوجد خير يمنع عن الصلاة وعن حج بيت الله الحرام؟!! لا، وهؤلاء كما قال الله: ” أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ” وقيعة يعني أرض مستوية ليس فيها جبال.

” يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا “ يأتي يوم القيامة ولا يجد له عملاً نافعاً، كما ورد في بعض الأثر: ((يأتي الرجل بأعمال أمثال الجبال يوم القيامة، فيقول الله تعالى لملائكته: اضربوا بهذا وجه صاحبه، فيقولون: ولمَ يا رب؟ فيقول الله تعالى: لأنه لم يُرد بذلك وجهي والدار الآخرة)).

كان يفعل ذلك ليقول الناس هذا رجل منفق، وهذا رجل كريم، وهذا رجل محسن، لكنه لا يتعامل مع رب العالمين تبارك وتعالى.

مثال الظلمات في البحر

وضرب الله مثلاً آخر، حتى إذا لم ينتبه أحد للمثل الأول ينتبه للثاني، فقال: ” أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ “ بحر لجي يعني بحر عميق، والقرآن سبق كل العلوم الحديثة، فهو أول من أثبت أن قاع البحر ظلمات، وكذلك كنا نعتقد أن الأمواج هي التي تجري على سطح البحار فقط، لكن هناك أمواج أُخرى في قاع البحر، غير الموج على سطح البحر والتي ذكرها الله لنا: ” يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ ” موج في القاع، من فوقه موجٌ آخر.

” مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ “ سحاب كالذي يأتي في اليوم الشاتي فيكون كله ظلمة، فقاع البحر مظلم، والأمواج الدانية التي تحت مظلمة، والأمواج العالية تزيد الظلمة، والسحاب أيضاً يزيد الظلمة.

” إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا “ اين هذا العمل؟ ليس له وجود، وليس له أساس، وليس له ظهور، لأنه لا يريد به وجه الله تبارك وتعالى.

إذاً أي إنسان يعمل عملاً لا يبغي به وجه الله والدار الآخرة، فوراً يُحبط الله هذا العمل، ويُبطل الله هذا العمل، وهو يعتقد أنه عمل كثيراً وأنه عمل كذا، ولا يجد لنفسه عمل قليلاً ولا كثيراً لأنه لم يُخلص النية، ولم يُنصف نفسه، ويتصف بالإخلاص في معاملة من يقول للشيء كن فيكون.

فأساس قبول الأعمال الذين يوصينا به الله: ” فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ” (14غافر) لا يهم كثرة العمل، ولكن المهم الإخلاص في العمل، قال صلى الله عليه وسلَّم لسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه:

{ أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ }[16]

نور الله

” وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ “ مَن لم يجعل الله له نوراً في قلبه ينور باصرته يبحث به عن سلامة العمل من العلل قبل العمل حتى يكون خالصاً لله، هل ينفع معه وعظ الواعظين وعلم العلماء؟! حتى ولو كانوا علماء جهابذة مملوئين بالعلم هنا وهناك لن ينفع معه، فقد قالوا: ((من لم يكن له من قلبه واعظ، لم تنفعه المواعظ)).

فما الأساس الذي يُصلح به الإنسان شأنه وعمله للقاء الرحمن؟ إذا وهبه الله نوراً في صدره، ونوراً في قلبه، يُحسِّن به أولاً نيته، ويُصلح به سريرته، وما دام قد أصلح النية، وما دام قد حسَّن السريرة، فعلى الفور أعماله ستكون مقبولة عند الله ولو قليلة، والقليلة سيبارك فيها الله ويربيها له ويجعلها كثيرة إن شاء الله.

لفتة بسيطة:

” فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ” البيوت تكلمنا عنها وهي المساجد، والله جعل لنا الأرض كلها مسجداً، وتربتها طهوراً، وهناك بيوت أخرى فينا نحن، وهي محل نظر الله، وهي القلب السليم الذي ينظره الله من المؤمن، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }[17]

لذلك لا بد أن تبني هذا القلب على تقوى الله: ” أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ ” (109التوبة) تبنيه على تقوى الله، وترفع منه الشرك بالله، والرياء، والإعجاب بالنفس، وكل الأعمال التي تحجب العمل عن القبول من حضرة الله، وتملأه بالإخلاص، وبالخشوع، وبالحضور مع من يقول للشيء كن فيكون.

إذا طهرت قلبك بهذا، ورفعت عنه هذا، فلو ذكرت الله ولو مرة واحدة بقلب سليم، فإن هذه اللفظة أغلى وأعلى عند الله من الدنيا والآخرة:

اذكر الله إن نسيت سواه

قل بقلب في الذكر يا ألله

فالله يريد هذا القلب أن يتنفس بهذا النفس الطيب، وتخرج كلمة الله منه خالصة خاشعة تخاطب الحق سبحانه وتعالى، فتُفتح أمامها أبواب كل شيء، وينظر الله عز وجل في هذا القلب فيغنيه من علمه ومن فضله ومن كرمه ومن نوره، ويجعله غنياً بالله عما سواه.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يُطهر قلوبنا، وأن يُهيئ لنا من أسرارنا موئلاً طيباً نناجي به ربنا، وأن يرزقنا نوراً من عنده، وأن يجعلنا دائماً وأبداً من خيار المقبلين عليه.

وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] صحيح مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[2] المعجم الكبير للطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

[3] شعب الإيمان للبيهقي عن أنس رضي الله عنه

[4] جامع الترمذي والطبراني عن سلمان الفارسي رضي الله عنه

[5] الحاكم في المستدرك والطبراني عن عائشة رضي الله عنها

[6] مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه

[7] مسند أحمد وصحيح ابن حبان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه

[8] معجم الطبراني عن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه

[9] الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه

[10] معجم الطبراني ومسند الشهاب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

[11] الحاكم في المستدرك والطبراني عن شداد بن أوس رضي الله عنه

[12] البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه

[13] جامع البيان للطبري عن أبي هريرة رضي الله عنه

[14] صحيح ابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[15] صحيح مسلم ومسند أحمد عن عائشة رضي الله عنها

[16] الحاكم في المستدرك وحلية الأولياء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه

[17] صحيح مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه

درس السهر المنيا – مطاي – عزبة أبو إسماعيل23 من صفر 1442هـ 10/10/2020م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid