الحمد لله الذي شرح صدورنا للإيمان، وملأ بفضله قلوبنا بمحبة النبي العدنان، ونسأله عز وجل أن يُرقينا ويُعلي شأننا بهذه المحبة، حتى نرى وجه حضرته صلى الله عليه وسلَّم عين عيان، ونكون تحت لواء شفاعته في القيامة، ونكون من أهل جوار حضرته أجمعين في الجنان آمين يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم وبارك على سرك الجامع لجميع الأسرار، ونورك المفاض منه جميع الأنوار، ونبيك الأصل الذي تفاعت كل أصول الأخيار والأطهار، سيدنا محمد وآله وصحبه وكل من إهتدى بهديه إلى يوم الدين، واجعلنا يا ربنا به مقتدين، ولسنته متبعين، وبه سعداء وفائزين في الدنيا ويوم الدين أجمعين، آمين آمين يا رب العالمين.
أيها الأحبة:
كنا نتكلم أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أوصافه في القرآن تحتاج إلى إستجلاء القلوب، وكشف الران عن القلوب، ليعلم الله سبحانه وتعالى من باب إلهامه هذه القلوب ما هو شأن ومنزلة هذا الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلَّم؟
وأخذنا آيتين متشابهتين، ويمكن أول مرة يخطر على بال أحدكم هذا الأمر، الآية التي تقول:
مع أنني بشرٌ واحد، لكنني مثلكم كلكم، لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلَّم حالته البشرية هي التي نقتدي بها في الشريعة الإلهية، مثلاً:
كان صلى الله عليه وسلَّم يصوم حتى يقولوا لا يفطر، ويفطر حتى يقولوا لا صوم، وكان يصوم صيام الوصال، يعني كان يصوم الأيام المتتالية بدون شراب ولا غذاء، فيريدون متابعته فيها فقال لهم: لا:
(لستُ كهيئتكم إني أبيت عند ربي فيُطعمني ويسقيني).
[البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
فالذي يبيت عند ربه فيُطعمه ويسقيه، وهو أولاً: لا يُطعمه ويسقيه الأكل الذي أكلناه حالياً، لا بل يأكل شيئ آخر يقول فيه الإمام أبو العزائم:
جعنا فأطعمنا الحقائق ربنا ـ أكلنا الحقائق الإلهية التي عندك، وماذا نشرب؟
جعنا فأطعمنا الحقائق ربنا واسقي الجميع محبة الغفار
إسقنا كأس المحبة، فهذه حاجة غير تلك، ولماذا كان يأكل ويشرب؟
سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه كان يقول:
[والله ما أكل إلا لنا ليُعلمنا كيف نأكل، وما شرب إلا لنا ليُعلمنا كيف نشرب].
وهو صلى الله عليه وسلَّم كان يقول:
(تنام عيني ولا ينام قلبي).
[أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه].
لاينام ولم كان يتظاهر بالنوم؟ ليُعلمنا آداب ما قبل النوم وآداب ما بعد القيام من النوم، وآداب وضعنا كيف يكون عند النوم، فهذه الحالة البشرية لنتعلم منها الشريعة الربانية، والكمال الذي يحبه منا رب البرية تبارك وتعالى.
يعني الذي نزل من الله وهو القرآن يحتاج إلى بيان، فأين بيانه؟ النبي العدنان هو بيان القرآن في أحواله وأقواله وأفعاله وأعماله صلوات ربي وتسليماته عليه ـ وهذا وجه.
ووجه آخر:
الناس الذين يريدون القرب من الله ويريدون أن يكونوا في منزلة عالية عند الله، يقتدوا به في ثياب العبودية التي تحلت بها بشريته في هذه الحياة، لأنه العبد الأكمل لحضرة الله تبارك وتعالى في تواضعه وفي إنكساره ـ في خشوعه ـ في إخباته ـ في إقباله على الله تبارك وتعالى ـ في تخلصه من الزهو والفخر والخيلاء، وكل من يسعى من فيه الصفات البشرية والمنازعات النفسية يتخلَّص من كل هذه الأمور، ولذلك قال فيه رب البرية:
سيدي أبو اليزيد البسطامي رضي الله عنه رأى الله تبارك وتعالى في المنام فقال: يا رب بما يتقرب إليك المتقربون؟ قال: بما ليس فيَّ، قال: ومالذي ليس فيك يا رب؟ قال: الذل والانكسار والفقر والجهل ـ لا أحد يدخل على ربنا إلا بهذه الأوصاف، فأنت داخل على ربنا عالم، فماذا يعلمك؟ فأنت ترى نفسك عالم فتنتهي الحكاية، هل يصح أن تدخل على الغني وأنت ترى نفسك أنك أنت الغني؟ غنى عن ماذا؟
فأنت تحتاج إليه في كل أنفاسك في كل حاجياتك.
فصفة العبودية هي التي بها تمام القرب من رب البرية، ولا تظهر إلا في الحضرة المحمدية.
ولذلك دائماً أقول للأحباب الذين يطمعون شوية في الوصال:
منهجكم ووردكم كتاب {الجمال المحمدي} الذي عملناه، أدخل على الكتاب وأنظر بماذا كان يُجمل رسول الله، وجمِّل نفسك بهذا الجمال، في لحظة وأقل ترتقي إلى مقامات أهل الكمال على الفور لأنك تجملت بالجمال المحمدي.
وماذا عن:
وهو بالأُفق الأعلى؟
هذه الآية تتكلم عن رسول الله عندما كان في مقام قاب قوسين أو أدنى، وترك جبريل واقفاً، وجبريل قال له: يا رسول الله إلى هاهنا إنتهي مقامي، فقال: يا أخي يا جبريل أها هنا يترك الخليل خليله؟ قال: لو تقدمتُ قدر أنملة ـ يعني طرف الإصبع ـ لاحترقتُ، وأنت لو تقمتَ لاخترقت ـ وهذا الأمر يبين عدة أمور:
أن جبريل من النور الملكوتي، والنور الملكوتي نهايته سدرة المنتهى لا يستطيع الصعود بعد ذلك.
وحضرة النبي من النور الذاتي، والنور الذاتي المسوح له باختراق هذه الحُجب النورانية الإلهية، لماذا إخترق هذه الحجب؟
من يُرد أن يتمتع بهذه العطاءات وهذه الإكرامات فيكون قد تشبَّه في باطنه في قلبه وبروحه بروحانية الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلَّم، لا يميل إلى كرامات، ولا يحب الظهور، ولا يريد أن يكون شيخاً والناس تشير إليه وتقبل يديه، ويسارعوا إليه، كل هذه الأمور لا تطرف عينه من قليل أو كثير، لأنه لا يريد إلا الله تبارك وتعالى:
والعارف الفرد محبوبٌ خالقه فات المقامات ترويحاً وتمكينـــــــــا
في كل نفسٍ له نورٌ يشاهده من حضرة الحق تليوحاً وتعييناً
يمشي على الأرض في ذلٍّ ومسكنةٍ ـ وهذه هي العبودية ـ هام الملائك شوقاً فيه وحنينا
معناه غيبٌ ومبناه معاينةٌ والفرد معنى وليس الفرد تكوينـــــا
من يُرد الآفاق العُليا ويريد أن يراها، فهذا يحتاج إلى طهارة السر، وصفاء القلب وهيام الروح، وتجلي نفخة القدُّس من حضرة القدوس الأعظم تبارك وتعالى.
هذا باختصارٍ شديد شرح مبسط لبعض منزلة رسول الله التي بينها القرآن في قول الله تبارك وتعالى: