Sermon Details

6 أغسطس 2015م
جـ2 الحلقة الخامسة الآداب القرآنيه مع خير البرية آدب المجالس
الإسلام دين الأدب العظيم والذوق الرفيع في كل الأمور، ومن أدب المجالس أن المؤمن يُوقِّر الكبير، ويعرف للعالم حقَّه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)[2]. فإذا دخل عالِمٌ في المجلس ينبغي على أهل المجلس أن يسعوه ويُجلسوه في صدر المجلس، وإذا دخل من هو أكبر منه سناً ينبغي أن يصنع معه كذلك لأنه هذه هي القيم التي ربانا عليها الإسلام، وعلَّمنا إياها نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
الآداب القرآنيه مع خير البرية
——————————-
قال الله تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (7: 13المجادلة)
———————
إذاً هناك آيات تتحدث عن المناجاة التي نهى عنها الله، وهناك آيات تتحدث عن المناجاة التي حَضَّ وحثَّ عليها الله، وآيات تختم بالمناجاة وكيفيتها مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ويتخلل ذلك ولا غِنى عنه – وهذا دليل على فصاحة القرآن وقوة الحجة والبيان – آداب المجالس التي لا غنى للناس عنها أبداً.
والمجالس يُقصد بها مجالس العلم، مجالس الذكر، مجالس الصلح، مجالس الخير، مجالس قراءة القرآن، مجالس البرِّ، أو مجالس النبيِّ ومجالس الصالحين والعلماء العاملين، والآية فيها قراءتان، قراءة خاصة يقول فيها الله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجلسِ )، وهذه قراءة إجماع القراء، والمجلس يقصد به مجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أو ورثته من العلماء العاملين والصالحين.
وقراءة حفص عن عاصم والتي عليها أهل مصر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ)، كل المجالس التي أشرنا إليها، وتفسَّحوا: أي وسَّعوا (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ)، المؤمن طالبه الله عزَّ وجلَّ بأن يُوسِّع لأخيه لما لهذا الخُلُق الكريم من مكانة عند الله لأنه يسع إخوانه المؤمنين، ولما في هذا الخُلُق الكريم من إكساب المودة والطيبة بينه وبين إخوانه المؤمنين.
أخوك الذي يُفسح لك لابد أنك تُضمر له محبة ومودة، ولذلك رُوي أن رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم كان جَالِساً فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ، إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه، فَوَقَفَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا يُشْبِهُهُ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيُّهُمْ يُوَسِّعُ لَهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: هَهُنا يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَجَلَسَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ)[1].
الإسلام دين الأدب العظيم والذوق الرفيع في كل الأمور، ومن أدب المجالس أن المؤمن يُوقِّر الكبير، ويعرف للعالم حقَّه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)[2].
فإذا دخل عالِمٌ في المجلس ينبغي على أهل المجلس أن يسعوه ويُجلسوه في صدر المجلس، وإذا دخل من هو أكبر منه سناً ينبغي أن يصنع معه كذلك لأنه هذه هي القيم التي ربانا عليها الإسلام، وعلَّمنا إياها نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وكان صلَّى الله عليه وسلَّم ذات يوم جالساً في الصُّفَّة في يوم جمعة، والصُّفَّة هو المكان الوحيد الذي كان له عرش في مسجد حضرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وباقي المسجد ليس له سقف، ومكان الصُّفَّة يقع خلف روضة النبي الآن، وكان أهل الصُّفَّة حوالي تسعين رجلاً تفرغوا لله، لا زوجة ولا ولد ولا عمل، يحفُّون برسول الله؛ يخدمونه ويصحبونه ويتلقون القرآن من حضرته، والعلم من مجالسه، وهم الذين نشروا العلم والقرآن في العالم كله، فهم أول مدرسة لقَّنها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهم الذين قال الله له في شأنهم: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (28الكهف)، وكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يتكفل بهم؛ بإطعامهم وملابسهم وكل حاجاتهم لأنهم تفرغوا لله ولرسوله.
فكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جالساً في هذه الصُّفَّة في يوم جمعة، وحوله أصحابه، ودخل نفر من أهل بدر، وأهل بدر كان لهم وجاهة خاصة في الإسلام، لأن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال فيهم: (لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)[3].
فألقوا السلام على حضرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم ألقوا السلام على الحضور، ووقفوا ينتظرون أن يفسحوا لهم فلم يُفسحوا، لأن كل رجل منهم لا يريد أن يتنازل عن موضعه في القرب من رسول الله، وليس من أجل شيء آخر، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان، وأقام أناساً شباباً من المجلس وأجلس أهل بدر. فلما قام هؤلاء وجلس أهل بدر، وبعد انتهاء المجلس؛ أهل النفاق كالعادة يتلمسون في البرءاء العيب، ويريدون أن يجدوا أي شيء يكيدون به حضرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فقالوا لهم: كيف يقيمكم من المجلس وأنتم لا تريدون أن تبعدوا عنه لحبكم له، ويُجلس غيركم، كيف يكون هذا نبي ولا يعدل في هذه القسمة؟! انظر إلى حجج المنافقين قاتلهم الله في كل وقت وحين، فأنزل الله هذه الآية كتماً لأنفاسهم وتوضيحاً لأشباههم بأن هؤلاء يحادون الله ورسوله.
فأمر الله عزَّ وجلَّ بذاته المؤمنين: يفسح لكم في العلم الإلهي، والنور الرباني، ومقامات القرب من حضرته، ويجعلكم دائماً على أرائك قربه ومودته، ويفسح لكم في المقامات العالية في جنته، ويفسح لكم في الأرائك التي تواجهون بها النظر إلى جمال طلعته، مادمت تؤثر بفاني يعطيك مكانه شيء باق عنده عزَّ وجلَّ.
(وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا): أي قوموا فقوموا، ولا يكون عندك غضاضة لأن هذا أمر أمره الله، وبيَّنه في فعل رسول الله، واستشف العلماء من هذا أنه ينبغي على الجالسين أن يراعوا القادمين، فقد رُوي: أَنَّ أُنَاسًا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا بَلَغَ قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (قُومُوا إِلَى خَيْرِكُمْ أَوْ سَيِّدِكُمْ)[4]. أمرهم أن يقوموا له ليتلقوه، مع أنه كان يقول لهم: (لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا)[5].
والحديث لمن وقف عند الحروف غاب عنه معاني ما يقصده الحبيب الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن الأعاجم يقومون لبعضهم قيام خوف ورهبة، لكن إذا كان القيام عن حب وعن هيام وعن وجد وعن توقير وعن تعظيم فلا بأس به، وكما قال القائل:
قيامي للحبيب علىَّ فرض وترك الفرض ما هو مستقيم
عجبت لمن له عقل وفهم يرى هذا الجمال ولا يقوم
ومن هنا أوجب العلماء والصالحين القيام أو استحبوه، فمنهم من أوجبه ومنهم من استحبه، لمن هو أكبر منا سناً، أو لمن هو أكبر منا علماً، أو لمن هو أكبر منا شأناً في الحياة الدنيا، فقد قال بعض العلماء: إن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يأمر بالقيام لسعد إلا بعد أن أمَّره أن يحكم بينه وبين اليهود، فكان هذا أمير، ولذلك أوجب القيام للأمير، وهذه حجة وجيهة أوجدها العلماء في كلام سيد الرسل والأنبياء صلَّى الله عليه وسلَّم.
أما العلماء فقد قال فيهم الله عزَّ وجلَّ: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (11المجادلة). وإذا كان الله يرفعهم هل يجب علينا أن نضعهم ونبخسهم حقهم ونجلسهم دون رتبتهم؟! أعلَمنا الله عزَّ وجلَّ بهذه الآية أن أعلى رتبة عند الله رتبة العلماء، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم في توضيح مرتبتهم: (يُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ مَعَ دَمِ الشُّهَدَاءِ، فَيَرْجَحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَمِ الشُّهَدَاءِ)[6].
والمداد أي الحبر، وقال ابن عطاء الله في لطائف المنن: ((وحيثما وقع العلم في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وكلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فإنما المراد به النافع، المخمد للهوى، القامع للنفس، الذي تكتنفه الخشية، وتكون معه الإنابة، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (28فاطر).
فلم يجعل علم من لم يخش من العلماء علماً، فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله: الخشية، وشاهد الخشية: موافقة الأمر، وأما علم من يكون معه الرغبة في الدينا، والتملق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع والادخار، والمباهاة والاستكثار، وطول الأمل ونسيان الآخرة، فما أبعد مَن هذا وصفه من أن يكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (خُيِّرَ سُلَيْمَانُ عليه السلام بَيْنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ وَالْعِلْمِ، فَاخْتَارَ الْعِلْمَ، فَأُعْطِيَ الْمُلْكَ وَالْمَالَ لِاخْتِيَارِهِ الْعِلْمَ)[7].
وقال عزَّ وجلَّ: (يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم)[8]. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ)[9]. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (عبادة العالم يوماً واحدا ًتعدل عبادة العابد أربعين سنة)[10].
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ)[11]. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ)[12].
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا كان يوم القيامة يُقال للعُباد ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، ويقال للعلماء العاملين اهبطوا إلى أرض الموقف فكل من واساكم من أجلي أوقدم إليكم معروفاً من أجلي فخذوا بيده وأدخلوه معكم الجنة). ويقول الإمام علي رَضِيَ الله عنه وكرَّم الله وجهه:
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهُدى لمن استهدى أدلاء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً فالناس موتى وأهل العلم أحياء
إذاً أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نُكرِّم العلماء ونُكرِّم الصالحين.
(الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ): الذين وصلوا إلى أعلى درجات الإيمان والتقى، والورع والزهد، وتقوى الله جلَّ في علاه، فلابد أن نحفظ لهم ذلك ونُجلسهم في المكان الذي يليق بهم.
وإذا رأينا داخلاً وليس له مكان فاستنبط العلماء أنه ليس مانع من أن نقيم بعض الحاضرين لمن هو داخل وله هذه المنازل ليجلس مكانه، ولا ينبغي عليه أن يتغير قلبه ولا يكون هناك شيء في نفسه، لأن هذا هو الوضع الذي طلبه منا الله، وأمرنا به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فهذه آداب المجالس.
ثم بيَّن الله عزَّ وجلَّ آداب المناجاة مع حضرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذه الآية يوضح سرَّ نزولها سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وبعض أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الآخرين، فيقولون: كثرت الأسئلة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وزادت عن الحد، فأراد الله عزَّ وجلَّ أن يُخفف عن حبيبه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)، الذي يريد أن يكلم الرسول في مسألة بينه وبينه فليُقدم صدقة، فأما أهل الدنيا فقد قلُّوا، وأما أهل الآخرة فقد استدلوا بذلك على مكانة رسول الله عند الله فلم يسألوه إلا المسائل الضرورية التي لا يجدون لها إجابة عند أصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين، علموا أن الله عزَّ وجلَّ يريد أن يخفف عن حبيبه، فكانوا يسألون الأصحاب، فإذا لم يجدوا عند الأصحاب سألوا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
بعضهم قال: استأثر الأغنياء بمجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ويريدون أن يمنعوا الفقراء، فأدبهم الله عزَّ وجلَّ بهذه الصدقة، فكانت هذه الصدقة بمثابة قاصمة الظهر بالنسبة للأغنياء، فتفسحوا ووسعوا المكان للفقراء ليأخذوا بنصيبهم من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال الله عزَّ وجلَّ في شأنه هذه الصدقة ولم يحددها: (ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (12المجادلة). يقول الإمام علي رَضِيَ الله عنه: {لَمَّا نَزَلَتْ: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)، قَالَ لِي النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: مَا تَرَى دِينَارًا؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: فَنِصْفُ دِينَارٍ؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْتُ: شَعِيرَةٌ، قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: (ءَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ) الْآيَةَ، قَالَ: فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ}[13].
يقول الإمام علي رَضِيَ الله عنه: لم يعمل بهذه الآية أحد غيري، كان عندي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، وكلما كنت أذهب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كنت أتصدق بدرهم، ثم نُسخت هذه الآية بعد عشرة أيام وأنزل الله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ).
هذه الصدقة جعلها الله عزَّ وجلَّ للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الحقيقة إعانة للدعوة الإلهية لتوليته بأمر أهل الصُفَّة، لأنه صلَّى الله عليه وسلَّم هو الذي كان يتولاهم بإطعامهم وتزويجهم وسيوفهم وكتبهم، وكل حوائجهم كان يوفرها لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فكانت هذه الصدقة إعانة من الأغنياء لسيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لكفالة هؤلاء الفقراء رغبة فيما عند الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو النهج الذي اتخذه العلماء العالمين، والصالحين بعد ذلك إلى يوم الدين.
كانت حضرات العلماء ومجالس الصالحين مجالس جامعة يُقيم فيها الطلاب إقامة دائمة؛ يأكلون ويشربون ويتعلمون ويحصلون على ما يريدون من القراطيس ومن الأقلام ومن الكتب وغير ذلك، مَن الذي يقوم بذلك؟ الذين اجتباهم الله واصطفاهم الله ويريدون أن يعينون هؤلاء على إبلاغ دعوة الله، وعلى تربية هؤلاء على تربية أهل الصُّفَّة على ما كان عليه سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
حتى ورد أن الشيخ حبيب العجمي رَضِيَ الله عنه وأرضاه، وكان قطب زمانه، وجاء من بلاد العجم؛ من إيران، لما سكن في القاهرة توافد عليه الناس بكثرة كاثرة فشغلوه وعطلوه، فأراد أن يقللهم، فقال: من جاءنا فليأت بصدقة للفقراء وإلا لا يأتنا، فتبين من هذا الصادق من المُدَّعي الكاذب الذي جاء لغاية أو جاء لغرض أو جاء لعرض، لأن الصادق لا يريد إلا مصاحبة الصادقين، ويريد أن يشاركهم في كل أمر ليفوز بقول رب العالمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (119التوبة).
ثم قال الله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ)، أي رأيتم أنفسكم لا تستطيعون أن تُقدموا الصدقات لضيق ذات اليد، أو لحاجة في نفوسكم (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)، عليكم بهذا المنهج الإلهي القرآني، الذي لا يستطيع الإنفاق يكون منهجه: (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، عليه أن يقيم الصلاة، وإقامة الصلاة أي أدائها بحقها ظاهراً وباطناً على ما قال فيه صلَّى الله عليه وسلَّم: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)[14].
والزكاة أي الطُّهرة، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ)[15]، وفي رواية أخرى: (إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةً وَزَكَاةُ الدَّارِ بَيْتُ الضِّيَافَةِ)[16]. زكاة الجسد الصوم يوماً لله، وزكاة البيت أن يكون هناك ضيوفٌ تدخل البيت لله، يأكلون فيه طعاماً ويشربون في شراباً: (وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ) (87يونس)، وزكاة العلم نشره لوجه الله، وزكاة الشهرة أن يخدم بها الفقراء الذين لا جاه لهم، وزكاة الوجاهة أن يخدم بها الذين لا موئل لهم … كل شيء له زكاة يؤديها الإنسان لله عزَّ وجلَّ.
والإنسان في أي عمل في هذه الحياة زكاته تكون من هذا العمل لوجه الله، لابد أن يجعل من هذا العمل – حتى ولو كان عملاً يربح منه أو يكسب منه – شيئاً لله، فما المانع إذا كان طبيباً أن يجعل عدد من الكشوف لوجه الله، أو إذا كان تاجراً أن يجعل للفقراء سهماً في البيع والشراء لله.
والأهم من هذا وذاك: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) طاعة الله: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) (80النساء) ويعلم علم اليقين أن الله مطلع علينا ويرى ما نعمله وما نقوله في كل وقت وحين (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (13المجادلة).
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا الأدب الكريم مع نبينا، وأن يرزقنا الأدب الكريم مع أصحاب نبينا، وأن يرزقنا الأدب الكريم مع أزواج نبينا، وأن يرزقنا الأدب الكريم مع آل بيت نبينا، وأن يرزقنا الأدب مع العلماء العاملين، والصالحين أجمعين، والمسلمين والمؤمنين، وخلق الله أجمعين، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
*********************
[1] مسند الشهاب ومعجم ابن الأعرابي عن أنس رَضِيَ الله عنه
[2] مسند أحمد والطبراني عن عبادة بن الصامت رَضِيَ الله عنه
[3] البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب رَضِيَ الله عنه
[4] البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ الله عنه
[5] سنن أبي داود ومسند أحمد عن أبي إمامة رَضِيَ الله عنه
[6] تاريخ جرجان للسهمي عن النعمان بن بشير رَضِيَ الله عنه
[7] الديلمي وابن عساكر
[8] ابن عبد البر في العلم
[9] سنن أبي داود والترمذي عن أبي الدرداء رَضِيَ الله عنه
[10] أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[11] سنن ابن ماجة عن عثمان بن عفان رَضِيَ الله عنه
[12] سنن الدارمي
[13] جامع الترمذي وابن حبان
[14] البخاري ومسلم عن مالك بن الحويرث رَضِيَ الله عنه
[15] سنن ابن ماجة عن أبي هريرة رَضِيَ الله عنه
[16] الجامع لأخلاق الراوي وتاريخ جرجان للسهمي عن أنس رَضِيَ الله عنه
1 ندوة دينية السهرةِ بمقر الجمعية العامة للدعوة بحدائق المعادى القاهرة الخميس21 من شوال 1436 هـ الموافق 6/8/2015م