Sermon Details

بسم الله الرحمن الرحيم
إذاً يا أحبة: جهاد النفس – وإن كان متعدد المراحل – نحن نقتصره على مرحلتين:
المرحلة الأولى: لحدوث التوازن بين النفس وبين الحقائق الراقية والعالية في الإنسان، فيكون الإنسان في صحة روحانية وجسمانية مشمولاً بعناية رب البرية عزَّ وجلَّ. يدخل في قول الله عزَّ وجلَّ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (97النحل)، والحياة الطيبة: هي التي فيها راحة البال، وراحة النفس، لأن الإنسان ما دامت نفسه يراقبها ويلومها ويعاتبها فلن تسمح له بأن يؤنبها على شيء فتمتثل لأمر خالقها وباريها عزَّ وجلَّ.
الجهاد في هذه المرحلة – كما ذكرنا – ترك كل الأخلاق المذمومة التي نهى عنها الله جملة واحدة: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ) (257البقرة) من ظلمات النفس إلى نور القلب والروح والصفاء والمشاهدة.
والتجمل بالأخلاق الطيبة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في قرآنه، وتجدها عند كلمة (يُحِبُّ): (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (195البقرة)، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (222البقرة)، (بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران)، (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (134آل عمران)، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (146آل عمران)، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (42المائدة). تجمع هذه الآيات.
وكذلك أحاديث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا الباب: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ)[1]، (إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)[2].
وهكذا، ويمتثل لأوامر الله في العبادات في التوقيتات التي حدَّدها الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) (103النساء).
هذا الجهاد لتصفية النفس من اللبس، وحفظ الجسم لتقوية جهاز المناعة في جسم الإنسان، فلا يتعرض للأمراض المستعصية، ولذلك في عصرنا كما تنبأ الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم: (لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يَعْمَلُوا بِهَا، إِلا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمْ)[3].
لأن الذين قبلنا كانوا يسيرون في هذا الجهاد، والأمراض المستجدة في هذا العصر سببها الأساسي اهتزاز النفس ولبسها وعماها عن الطريق الذي خلقها الله عزَّ وجلَّ وأرشدها إليه.
المرحلة الثانية: بعد ذلك تتجمل بالجمالات والكمالات الإلهية الربانية التي كنت عليها قبل النزول إلى الدنيا، وهذا مقام آخر يحتاج إلى جهاد آخر، مشى عليه الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم، ومشى عليه أتباع الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم إلى يوم الدين. فالإنسان قبل نزوله إلى الدنيا كان يتمتع بالجمال العالي، ثم بعد نزوله إلى الدنيا تنزل الحُجُب، هذه الحُجُب قال فيها صلَّى الله عليه وسلَّم: (إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ دُونَ سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَمَا يَسْمَعُ مِنْ نَفْسٍ شَيْئًا مِنْ حِسِّ تِلْكَ الْحُجُبِ إِلا زَهَقَتْ)[4]، وفي رواية أخرى: (حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)[5].
الحُجب الكثيرة الموجودة على الإنسان سمَّاها القرآن الران: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ. كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) (14، 15المطففين). وما الذي ران على القلوب؟ حجاب حب الدنيا، وحجاب الطمع، وحجاب حب الجاه وحب الرياسة، وحجاب الأمل في الدنيا الفانية … هذه كلها حُجب تحجب الإنسان عن فضل الرحمن عزَّ وجلَّ الذي قدَّره لعباد الرحمن في القرآن.
والحُجب كثيرة، فهناك حُجُب للعقل، وهناك حُجُب للقلب، وهناك حُجب للسرِّ، وهناك حُجُب للخفا، وهناك حُجُب للأخفى، وهناك حُجُب للروح، ونحن لا نتكلم في التفصيلات لكن مجرد إشارات وتنبيهات للأحبة حتى يرجعوا إلى منهج الأحبة. كيف أكشف هذه الحُجُب؟ أعرف الأعداء الأساسيين الذين أنا أحاربهم، وقد جمعهم الإمام الشافعي رَضِيَ الله عنه في بيت من الحكمة وقال فيه:
إبليس والدنيا ونفسي والهوى
|
كيف الخلاص وكلهم أعدائي
|
كم عدد الذين أعلنوا الحرب عليك؟ أربعة، إبليس، والدنيا، والنفس، والهوى.
العدو الأول: إبليس: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (6فاطر)، ما سلاح الشيطان الذي يدخل به إلى الإنسان؟ الشبع، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ)[6]. فسلاحي ضد الشيطان الجوع، وليس معنى ذلك أن لا نأكل، ولكن كما ورد في الأثر: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع)[7]، وكما قال الإمام علي رَضِيَ الله عنه: (إن الإنسان إذا شبع جمحت نفسه به إلى المعصية). فعندما تمتليء الأوردة والعروق بالدماء بعد الطعام فإن الإنسان قد يُفكر في المعصية، قال صلَّى الله عليه وسلَّم للسيدة عائشة رضي الله عنها: (دَاوِمِي قَرْعَ بَابِ الْجَنَّةِ، قَالَتْ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِالْجُوعِ)[8]. (صوموا تصحوا)[9].
مشكلة المشاكل في العصر الحديث أن الناس همَّها كله في شهوة الطعام والشراب!! لكن أنا أريد ان أكون من الذين أنعم الله عليهم، فلذلك لابد أن أسير على هذا المنهاج: (( نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع)).
وكيف نأكل؟ آكل على أن الجوع مرض، وآخذ الدواء الذي يقضي على هذا العَرَض، ما مقدار الجرعة؟ نسأل الطبيب، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)[10].
الإمام الجنيد رَضِيَ الله عنه كان يقول: ((لأن أُنقص من عشائي لقمة أحب إلىَّ من قيام ليلة))، لو كنت آكل رغيفاً فأنقصته إلى ثلاثة أرباع رغيف فهذا أفضل من قيام ليلة، ولو أنقصته إلى نصف رغيف فهذا هو الجهاد. وهذا لا يؤثر على الجسم، لأن الجسم يأخذ ما يكفيه من الغذاء، وما زاد يتحول للمتاعب والمشاكل، فمعظم متاعب النفس في العصر الحديث من الجهاز الهضمي وما يتبعه، وكل ذلك بسبب كثرة الأكل، لكن الإنسان لو مشى على هذا الوضع الإلهي فلن يكون هناك تعب، وسيرتاح من كثرة دخول دورات المياه، وسيظل متوضئاً لفترات طويلة بين يديِّ الذي لا يغفل ولا ينام، وستكون أعماله أضعافاً مضاعفة في الأجر لأنه يعبد الله عزَّ وجلَّ على وضوء وعلى طهارة. كل الأعضاء في الجسم سترتاح، الكبد والكليتين والمعدة، ولن يحدث لها تعب، لأن هذه الأعضاء هي السبب الرئيسي في معظم الأمراض العصرية لمن لا يستطيع أن يُمسك زمام الفم.
لكن الذي يريد أن يغلب الشيطان ولا يكون له عليه سلطان فعليه بسلاح: ((جوعوا تصحوا))[11]، فلا يأكل إلا للضرورة التي لا غِنى عنها لقوام الحياة، ولإقامة أَوَدِ الإنسان.
العدو الثاني: الدنيا، كيف تحاربني الدنيا؟ بالخلق، أريد أن أحادثهم، وأن أجلس معهم، وأن أظهر بينهم، ويكون لي وضع مميز بينهم:
والخلق فتنة من أردت صدوده
|
وشهود أهل البعد في الأكوان
|
والعلاج هنا البعد عن الخلق إلا للضرورات، وأُقلع على الأقل من قال وقيل، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)[12]. فأول شيء يكرهه لنا الله القيل والقال، وإذا كان الله عزَّ وجلَّ يكرهها فلماذا أضع نفسي فيها؟! وهذه ليست خلوة بل عزلة بسيطة عن الخلق، فيكون الكلام على حسب الضرورات، ولكن أتكلم مع الذي لا يغفل ولا ينام، يقول الله تعالى: (أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي)[13].
(فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (29النجم)، إياك من مجالسة الظالمين لأنفسهم، والواقعين في المعاصي، وفي القيل والقال، والغيبة والنميمة، ولو ركنت إليهم، أو حتى وقع في نفسك أن تكون معهم ستَمَّسك نار البعد التي هم فيها، والركون يكون بالقلب، أي مجرد أني فكرت في نفسي أن أجلس معهم ستقع الإصابة في الفؤاد والقلب والعياذ بالله: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (113هود)، نار البعد، ونار الصدود عن الله عزَّ وجلَّ.
إذاً ماذا أفعل مع هؤلاء؟ المؤمن عندما يعزم عزماً أكيداً يُلهمه الله بحسن التخلص، فالمؤمن ليس عنده وقت، فأنا كنت أعتقد أني عندما أُحال إلى المعاش سيصبح عندي وقت واسع، ولكن أصبح الوقت بالنسبة لي لا يكفي بسبب كثرة البرامج الطويلة، لأنه لابد أن يكون لك برنامج مع الله عزَّ وجلَّ تريد أن تنتهي منه.
إذاً لابد من إقلال لقاء الخلق، لأن سلامة المرء في الإقلال من لقاء الخلق المشغولين بالدنيا والأهواء والشهوات، فلو جلست معهم سيتكلمون في السياسة أو غيرها، وهذا الكلام يعمل على تسويد صحائف القلب والعياذ بالله، وإذا كان قلبي قد صفا ببعض الذكر قبل هذا الجلوس معهم فقد ضاع، وعندما أقابل الله عزَّ وجلَّ عند النوم، لا أستطيع النوم، لأني أجد كثيراً من الشرائط المنسوخة في هذه الجلسة التي جلستها مع هؤلاء القوم، وقالوا في ذلك::
فأقلل من لقاء الخلق إلا
|
لنيل العلم أو إصلاح حال
|
فلا يكون لقاء الخلق إلا من أجل أن أستزيد في العلم الإلهي، أو لإصلاح حالي مع الله عزَّ وجلَّ، لكن بعد ذلك لا وقت عندي لأحد، وهذا سلاح الدنيا الذي تجر به الإنسان وتبعده عن حضرة الرحمن عزَّ وجلَّ.
العدو الثالث: النفس، ما وظيفة النفس التي تبعد الإنسان عن الله؟ تريد للإنسان الجمود والخمود والقعود والكسل وعدم الرغبة في القيام بعبادة الواحد الأحد عزَّ وجلَّ، فإذا قام لصلاة الفجر تقول له: ما زال الوقت مبكراً، وتحثه على النوم مرة أخرى، فإذا سمع كلامها، سيستيقظ فيجد قد فاته الوقت وهو لا يدري، فإذا تكرر الأمر فسيجد الشمس قد طلعت ولم يستيقظ للصلاة!!.
وإذا نوى زيارة أخ له في الله، فتقول له النفس: قد تذهب فلا تجده، اتصل به بالتليفون فقط، فهذه هي طبيعة النفس، تُجَمِّد الإنسان، وتُخَمِّد الإنسان، وتُكسِّل الإنسان، ولذلك يقول إمامنا أبو العزائم رَضِيَ الله عنه:
فهيا يا مريد الوصل وانهض
|
ودع عنك التقاعد والتواني
|
أو .. (دع عنك التقاعس والتواني). ما علاج ذلك؟
لابد أن يكون لي سهر بين يديِّ الله في الأوقات التي طلب من الأحبة أن يكونوا فيها أيقاظاً بين يديه جلَّ في علاه. متى؟ (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (18الذاريات)، لأنه هو الوقت الذي ينادي فيه الله عزَّ وجلَّ على عباده، فإذا نادى علىَّ يجب أن ألبي، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ، نَزَلَ الله عزَّ وجلَّ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ)[14]. هل يليق بمن يريد فضل الله وإكرام الله جلَّ في علاه أن ينام والله عزَّ وجلَّ ينادي على عباده؟!!. والذي يريد الشهود: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (78الإسراء).
إذاً لابد أن يكون للسالك كما قال الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم: (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ)[15]. هذا طريق الصالحين: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (17، 18الذاريات)، لا يقضون الليل على النت، ولكن يقضونه بين يدي الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (64الفرقان)، ليس للشيطان ولا للفيس بوك ولا للهوى ولا غيره!.
هذا علاج النفس، مَن انتصر على نفسه قديماً أو حديثاً بدون هذه القومة لله؟ لا أحد، (( من لم يكن له في بدايته قومة لم يكن له في نهايته مع الله عزَّ وجلَّ جلسة)).
قد يقول قائل: كيف أسهر وفي الصباح سيكون معي عمل؟ فنقول له: لو صدقت مع الله حوَّل الله عزَّ وجلَّ لك المُحال إلى حال، فسيدنا عمر رَضِيَ الله عنه لم يكن ينام بالليل ولا النهار إلا قليلاً بين الظهر والعصر، وكان يقول في ذلك: ((لو نمت ليلاً ضيعت نفسي، ولو نمت نهاراً فقد ضيعت رعيتي، فجعلت ليلي لربي ونهاري لرعيتي)) فأعانه الله عزَّ وجلَّ.
والإمام أبو حنيفة رَضِيَ الله عنه كان ماشياً فسمع رجلاً يشير إليه ويقول: هذا الذي يصلي الفجر بوضوء العشاء، فقال: وجبت وإلا سأكون من المنافقين، فصَلَّى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة!!، ويظل حتى شروق الشمس، وكان في الصباح يفتح الحانوت في السوق، وبعد صلاة الظهر يبدأ دروسه في مدرسته لتعليم الفقه الذي وهبه له الله جلَّ في علاه، وكان ينام لحظات، والإنسان في ساعات الصفاء فإن اللحظة الواحدة من النوم تُغني عن أيام في المنام.
الإنسان البعيد عن الله قد ينام أياماً معدودة ويشعر بأنه لم يشبع من النوم، لكن إذا كان في حالة صفاء مع الله فلحظة واحدة يتمتع فيها بالهناء العالي، ويكون للنوم مذاق عظيم، لأن الجسم يكون على التراب والروح في الملأ الأعلى مع رب الأرباب عزَّ وجلَّ، واللحظة من هذه لا تساويها أيام معدودات في النوم:
نَمْ هيكلي فالروح يقظى مشوقة
|
لأصلها العالي ليست من الترب
|
وهذا هو السلاح الذي سأقضي به على لمم وبدوات وهفوات النفس.
العدو الرابع: الهوى، والهوى مشكلة المشاكل كلها: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (40، 41النازعات).
أين يظهر الهوى؟ في فلتات اللسان، ففلتات اللسان تُظهر ما في القلب وما في الجنان، يريد أن يتكلم كثيراً. ما العلاج؟ الصمت: ((الصمت حكم وقليل فاعله)). والحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُلَقِّنُ الْحِكْمَةَ)[16]. أنا أريد أن أكون حكيماً، ويفتح العلي العظيم عزَّ وجلَّ لي كنوز حكمته، ماذا أفعل؟ الصمت:
الصمت معراج وجوعك طهرة
|
والصمت رفرف حضرة التواب
|
هذا هو البراق الذي يرقى عليه العارفون، يُقال: فلان لا يتكلم إلا قليلاً، الشيخ مكين الدين الأسمر كان يقول فيه سيدي أبو الحسن الشاذلي رَضِيَ الله عنه: مكين رجل من الأبدال، والشيخ مكين كان يعمل خياطاً، وكما تعلمون فإن محل الخياط مكان لتجمع الناس وكثرة الكلام، ورغم ذلك كان يقول: قبل المغرب أحاسب نفسي على ما نطق به لساني في هذا اليوم، فأجدهم بضع عشرة كلمة، فما وجدته في الخير حمدت الله تعالى عليه، وما وجدته غير ذلك استغفرت الله عزَّ وجلَّ منه!!.
لو معك جهاز تسجيل صغير وسجلت كلامك في النهار فستسجل كم شريطاً؟! وكل كلمة إما لك وإما عليك: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (18ق) أي بعض قول، والرقيب العتيد هو الله عزَّ وجلَّ. كل كلمة ستحاسب عليها، ولذلك قيل: ((من عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه))، والمؤمن لا ينطق بكلمة إلا إذا حسبها بفِكره، ووزنها بعقله، ثم عرضها على قلبه، فإن أذن له بالنطق بها نطق بها، وإلا حفظها ولم يُخرجها، وهذا حال المؤمنين الصادقين.
إذا واظب الإنسان على هذ الجهاد رُفعت عنه الحُجُب، وتولاه الله عزَّ وجلَّ بولايته، وجعل له حظوة عند أهل عنايته، فيحبونه لما يتسم به من أوصاف قرآنية، وأخلاق محمدية، وإذا أحبوه ونظر الله في قلوب أحبابه أنهم يحبوه زيَّنه الله عزَّ وجلَّ بزينة الصالحين، وجمَّله بجمال المقربين، وحفظه من كل سوء في الدنيا، وأعطاه كتاب الأمان يوم الدين، لأن الله عزَّ وجلَّ آلى على نفسه ذلك في كتابه المبين وقال: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) (15لقمان) وأقرَّ ذلك سيد الأولين والآخرين صلَّى الله عليه وسلَّم.
إذاً لابد أن يكون معه في هذا الجهاد روح عبد نوراني شفافة تمنحه طاقة روحانية من وراء الوراء ترفع عنه هذه الحُجُب الدنيوية والظلمانية، ثم تراقبه حتى ترفع عنه الحُجُب النورانية، حتى يكون من أهل التملِّي من الحضرة المحمدية، ثم يُكَحله صلَّى الله عليه وسلَّم بإثمد الأتقياء حتى يؤهله لقول ربِّ البرية: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (22، 23القيامة).
كثير من الأحباب يريد في لحظة -بدون جهاد – التجلي، أو يريد أن ينام فيرى نفسه في الملأ الأعلى، أو يرى في منامه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا بغير جهاد، ويعتمد على شيخه!! هل المشايخ وصلوا من غير جهاد؟!، وهذا شيء غريب عند بعض الأحبة، لكن: (جاهد تشاهد). فإذا لم تجاهد فأنت ما زلت محبًّا، وأنت في مقام طيب كونك محب، وستكون مع الأحباب يوم القيامة، لكن: (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) (95النساء).
هناك فرق كبير بين (منهم) وبين (معهم)، فمنهم أي شريك معهم ويحظى بفتحهم وفضلهم، وهذا يحتاج إلى جهاد، وهذا الجهاد لا يحتاج إلى تسويف ولا تأجيل، ولكن فوري، وليس فيه أجازة يوم أو يومين أو أسبوع، وليس له نهاية، يقول الإمام أبو العزائم رَضِيَ الله عنه: ((لا ينتهي جهاد النَفْس حتى مع كُمَّل العارفين إلا مع خروج النَفَس الأخير)) فميادين الجهاد واسعة، فلا ينتهي الجهاد حتى خروج النَفس الأخير:
من كان منَا يرآنا ويودنا
|
ويفوز منا بالصفا ويوالي
|