قَسَم الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلَّم في القرآن الكريم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سدرة منتهى علوم العارفين، وحامل لواء الحمد لجميع الخلائق يوم الدين، سيد الشاكرين وإمام الحامدين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
نتناول جانباً آخر وهو الحديث عن كلام الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في وصف ناحية من نواحي نبينا الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم، فالله تعالى لم يتحدث عن حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم وفقط، بل أقسم في كتابه الكريم أقساماً متعددة على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحي إليه وهو القرآن الكريم صلوات ربي وتسليماته عليه.
فالله يقسم أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رسولاً من عنده، وأن كتابه وحيٌ من إنزاله تبارك وتعالى، فيقول في سورة الواقعة: ” فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ” (75-80الواقعة).
فهذا قَسَمٌ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تنزَّل على قلبه القرآن، وهو كلام الرحمن سبحانه وتعالى.
ويقسم مرة أخرى فيقول سبحانه وتعالى: ” يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ” (1-3يس) يقسم هنا أنه صلى الله عليه وسلَّم من المرسلين، والله تبارك وتعالى وهو في مقام عزته يقسم لنا بذلك لنتحقق حق اليقين أنه رسول رب العالمين، وأن الكتاب الذي جاء به وحيٌ من عند الله تبارك وتعالى.
بل إنه سبحانه وتعالى يقسم على صفات عدة وصف بها نبيه الكريم صلى الله عليه وسلَّم، فيقسم أولاً على ما خصَّه به من الخُلُق العظيم، فيقول تبارك وتعالى: ” ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لاجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ” (1-3) ثم يُقسِم على خُلُقه فيقول: ” وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ” (4القلم).
وأوائل السور التي تبدأ بحروف كسورة القلم تبدأ بـ(ن)، أو (يس)، أوالسور التي تبدأ بـ (ألم) أو (حم) وغيرها، احتار المفسرون – لعلو شأنها – في تفسيرها، فمنهم من قال أنها أسماءٌ للقرآن، ومنهم من قال أنها أسماء للسور، ومنهم من قال أن هذا علمٌ استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ومنهم من قال أن هذه شفرة بين الله تبارك وتعالى وحبيبه لا يعلمها غيره صلى الله عليه وسلَّم.
وفي سورة القلم التي أولها (ن) قال بعضهم: إن نون اسمٌ للحوت، لأن الله قال في شأن صاحب الحوت: ” وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ” (87الأنبياء) يعني صاحب الحوت وهو سيدنا يونس على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام
ومنهم من قال إنها اسم للدواة التي يُوضع فيها الحبر لتكتب بها الأقلام، وهذا رأي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
ومنهم من قال إن نون لوحٌ من نور تكتب الملائكة فيه بأمر الله قدر الله سبحانه وتعالى، وما يريده الله عز وجل في ملكه وملكوته.
يُقسم الله تبارك وتعالى ويقول له: ” وَإِنَّ لَكَ لاجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ” (3القلم) يعني أجراً غير منقطع، يعني أجرك مستمرٌ إلى يوم القيامة، وهذا دليلٌ على أن رسالته صلى الله عليه وسلَّم متميزة إلى يوم الدين، لأن كل أمم الأنبياء في صحيفة أجورهم وحسناتهم، وإذا كان صلى الله عليه وسلَّم أجره غير منقطع معناه أنه مستمرٌ في أمته، وله أهل دعوته وأهل الإسلام أجمعين إلى يوم الدين.
ثم يصفه الله تبارك وتعالى بأعظم الصفات التي وصف بها النبيين والمرسلين: ” وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ” (4القلم) وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته، ولذلك عندما سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنه عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، قالت للسائل:
أي أنه كان التطبيق العملي في حياته في عمله وقوله وفعله وحاله لكل ما جاء بالقرآن من عند حضرة الرحمن سبحانه وتعالى.
ثم يبين الله تبارك وتعالى بعض نعمه على حبيبه ويقسم عليها بقَسم آخر، فيقول تبارك وتعالى في سورة الضحى: ” وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الاولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ” (1-5الضحى).
وكان سر نزول هذه السورة أن النبي صلى الله عليه وسلَّم انقطع عنه الوحي وهو في مكة بين ظهرانيّ قريش لمدة خمسة عشر يوماً، حتى قال الكافرون: لقد قلى محمداً ربه، ـ وقلى يعني بغض، يعني أبغض الله سبحانه وتعالى – حاشا لله – محمداً وقلاه يعني بعُد عنه، فنزلت هذه السورة.
وعندما نزلت على النبي كبَّر النبي، وكبَّر الحضور من المسلمين لتكبيره، ولذلك استحسن الأئمة الأعلام أن الإنسان إذا كان يقرأ القرآن ووصل إلى هذه السورة المباركة يفصل بينها وبين السورة التي تليها بالتكبير، يعني يقول: الله أكبر بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ” أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ” (1الشرح) أو الله أكبر بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ” وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ” (1التين)وهكذا إلى سورة الناس.
وإذا زاد وقال: الله أكبر ولله الحمد، فلا مانع، وإذا قال: لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، فلا مانع، ومن هنا نجد قراءنا العظام القدامى كانوا يحافظون على هذا في تلاواتهم رحمة الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
فعليك يا أخي إذا كنت تتلوا القرآن بحسب ترتيب المصحف عند تلاوة هذه السورة وما يليها، أن تفصل بينهم قبل البسملة بكلمة الله أكبر، أو الله أكبر ولله الحمد، أو لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، المهم أن يكون فيها التكبير فإن هذه سُنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه الكرام.
أقسم الله سبحانه وتعالى بالضحى، والضحى يعني ضوء النهار: ” وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ” (2الضحى) يعني إذا غطَّى ولم يعد يظهر فيه أي أثر للنور أو الإضاءة، وكأن الله سبحانه وتعالى يشير بالضحى إلى حضرته صلى الله عليه وسلَّم، فإنه صلوات ربي وتسليماته عليه هو النور الذي جاء بعد الظلام الطويل، فأضاء للناس سبل حياتهم، وطريقهم إلى ربهم سبحانه وتعالى، ” مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ” (3الضحى) يعني أنت بأعيننا على الدوام.
ثم وعده صلى الله عليه وسلَّم بأن يعطيه كل ما يرضيه، سواءٌ في الدنيا، أو في الآخرة، أو في الجنة، حتى تقر عينه وينشرح صدره، ويفرح بهذا العطاء نفسه: ” وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ” (4الضحى).
يعطيه في الدنيا القرآن والهداية والنصر على الأعداء، والظفر بمن كانوا يكيدون له وغير ذلك، ويعطيه في الآخرة الكوثر والشفاعة والمقام المحمود، ويعطيه في الجنة الوسيلة والدرجة الرفيعة والمنزلة الكريمة والنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.
ثم يطلب الله تبارك وتعالى بعد أن يبين له بعض ما خصه به بلسان أهل الإشارة: ” أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ” (6الضحى) قال في ذلك أهل الإشارة: يتيماً يعني فريداً من نوعك، وعندما وجدك فريد في طاعتك لربك، وفي إقبالك على الله سبحانه وتعالى آواك إلى جنابه، وأدخلك إلى رحابه، وجعلك سيد رسله وأنبيائه.
” وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى ” (7الضحى) نأخذ من القرآن ما يفسر القرآن، فإن أبناء سيدنا يعقوب عندما وجدوا أن أباهم يفضل يوسف عليهم، قالوا له: ” تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ” (95يوسف) والضلال هنا يعني الحب، أي أنك في حبك القديم ليوسف وأخيه بنيامين.
(ووجدك ضالاً) يعني محباً لحضرة الله لا يلحقك في هذا الحب أحدٌ سواء من الإنس أو الجن أو الملائكة، ولذلك كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
فهي خير الأمم، وأكثر الأمم قبولاً وقرباً من الله سبحانه وتعالى، ولأنها أمة الختام فأغناها الله من عطائه ومن هباته ومن هداياته كل ما يحتاجون إليه في دنياهم ومعايشهم وأخراهم حتى لا يحوجهم لأحد سواه: ” وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ” (8الضحى).
ثم أوصاه صلى الله عليه وسلَّم بالضعفاء من أمته: ” فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ” (9-11الضحى) ونعمة ربنا هنا للحبيب هي نعمة النبوة، وتحديثه بها أن يبلغها لخلق الله تبارك وتعالى، وهذا هو المعنى الصحيح لها.
ثم أقسم الله سبحانه وتعالى على تصديقه فيما أتى به من وحيه وكتابه، وتنزيهه عن الهوى في خطابه، فقال تبارك وتعالى: ” وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ” (1-5النجم).
والنجم هنا إما أن نفسرها على ظاهرها وهي النجوم الظاهرة التي تنير في ظلام الليل للسائرين في البر والبحر، وإما أن نقول بحسب معناه اللغوي فهو النبات الذي ينبت من الأرض وليس له ساق، وإما أن نقول كما قال البعض: النجم هنا هو القرآن.
ولكن قال جعفر الصادق رضي الله عنه: النجم هنا هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلَّم، وقال: (والنجم إذا هوى) يعني إذا نزل بعد عروجه إلى ربه تبارك وتعالى.
وانظر معي إلى عِظم كلام الله: ” مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ” (2النجم) فالله سبحانه وتعالى لم يقُل: ما ضل محمد، أو ما ضل النبي، ولكن (ما ضل صاحبكم) ليعرفهم بأنهم أعرف الناس به، لأنه نشأ بينهم، ويعرفون نسبه، ويعرفون حسبه، ويعرفون أخلاقه، ويعرفون كل شيء عنه، ويعرفون صدقه وأمانته، وكل ما اتصف به.
ولذلك قال ربنا لهم: ” مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ” (2النجم) يعني ما ضل عن الطريق المستقيم، ولا أغوته نفسه بمنصب رئاسي، أو بشيء مادي، وإنما يُبلِّغ عن الله كما أمره الله رسالة الله، لا يريد بذلك إلا الله تبارك وتعالى.
” وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ” (3النجم) يعني لا ينطق بشيء تهواه نفسه، أو يميل إليه طبعه.
” إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ” (4النجم) إنما هو وحيٌ أنزله الله عليه بواسطة أمين الوحي جبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
ولذلك يروي الإمام الأوزاعي رضي الله عنه وأرضاه عن أحد الصحابة الكرام، أن نبينا صلى الله عليه وسلَّم كان ينزل عليه الأمين جبريل بالحديث الشريف، كما ينزل عليه بالقرآن، يعني حتى الحديث وحيٌ من الله سبحانه وتعالى، لأن الله عز وجل سمَّى الحديث في قرآنه الحكمة: ” وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ” (34الأحزاب) آيات الله هي القرآن، والحكمة هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وكذلك قول الله: ” كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ” (151البقرة) الحكمة في كل آيات القرآن يُقصد بها سنته وأحاديثه صلى الله عليه وسلَّم، وكان الله ينزلها عليه بواسطة أمين الوحي جبريل كما جاء في حديث الأوزاعي إمام أهل لبنان رضي الله عنه وأرضاه عن حسان بن عطية.
كذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال له: ” وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ” (113النساء) هذه الآية بصريح العبارة أن الحكمة نزلت عليه كما نزل الكتاب، والكتاب والحكمة هنا هما القرآن والسنة.
ثم أقسم الله تبارك وتعالى على صدق الكتاب الكريم في أكثر من موضع من كلامه سبحانه وتعالى، فقال سبحانه وتعالى: ” فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ” (15-16التكوير) والخُنس هي النجوم التي تتوارى، والجواري الكُنس هي النجوم التي تسير: ” وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ” (16النحل) وتكنس السماء العليا من آثار النجوم التي ماتت وانتهى أمرها.
وأقسم مرة أخرى بأن هذا القرآن وحيٌ من الله فقال: ” فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ” (38-40الحاقة) وهذا أشمل قَسمٌ في القرآن كله، فإنه يقسم بكل ما نراه وكل ما لا نراه أن هذا القرآن قول الرسول صلى الله عليه وسلَّم الذي نزل به الروح الأمين من عند الله تبارك وتعالى.
ويقول كما قلنا آنفاً:” فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ” (75-80الواقعة) ومواقع النجوم هي مواقع نزول القرآن على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لأن الله قال له: ” نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ عَلَى قَلْبِكَ ” (193-194الشعراء) فمواضع نزول القرآن على قلبه أقسم بها الله سبحانه وتعالى في قرآنه.
ولذلك قال: ” وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ” (76-77الواقعة) أي أنه صلى الله عليه وسلَّم لو تعلمون حقيقته فإنه قرآن كريم في أفعاله وأخلاقه وآدابه وأعماله وأحواله ” فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ” (79) (الواقعة).
وقال أيضاً عن القرآن نافياً أأقوال أهل الجاهلية أجمعين: ” وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ” (211) (الشعراء).
ثم أقسم الله تبارك وتعالى على تحقيق رسالته، فقال سبحانه وتعالى: ” يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ” (1-3يس) أقسم الله تبارك وتعالى باسم النبي (يس) ويس كأوائل السور بعض المفسرين قال معناها: يا إنسان، وبعضهم قال: يا محمد، وبعضهم قال: معناها يا رجل، وبعضهم قال فيها أنها اسمٌ من أسماء القرآن، وبعضهم قال: إنها قسمٌ أقسم الله به وهو من أسمائه الحُسنى.
والإمام أبو العزائم رضي الله عنه قال فيها: (يس) يعني يا سر أسمائي وصفاتي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
ولم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له صلوات ربي وتسليماته عليه.
بل إن الله سبحانه وتعالى ليُعلمنا مكانته عنده، ومنزلته لديه، أقسم به في كل أحواله، فمرة يقسم بحياته، فيقول الله تبارك وتعالى: ” لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ” (72الحجر) (لعمرك) يعني وحياتك، ولذلك فإن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: القَسَم بالنبي إذا حنث الإنسان فيه يحتاج إلى كفارة، لأنه يمينٌ منعقد لأن الله أقسم به في كتابه.
وكذلك جعل الله شرط قبول الإسلام أن يكون في الشهادة: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، فلا تُقبل شهادة الرجل المسلم إلا إذا ذُكر صلى الله عليه وسلَّم مع ربه، وهذا قول الله تعالى في سورة الإنشراح: ” وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ” (4الإنشراح) أي لا أُذكر إلا وتُذكر معي، فإن الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلَّم يمينٌ منعقدٌ صحيح، وإذا حنث الإنسان فيه يحتاج إلى تكفير، لأن الله أقسم بنبيه.
ومرة أخرى يقسم ببلد النبي، ولكنه يبين أن تعظيم البلد لا يكون إلا بوجود حضرة النبي: ” لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ” (1-2البلد) ولا أقسم في اللغة يعنى أقسم، أقسم بهذا البلد وأنت حلٌّ به يعني نازلٌ وموجودٌ وقائمٌ بهذا البلد.
وفي تفسير آخر: وأنت حلٌّ يعني هذا البلد حلالٌ لك أن تفعل فيه ما تشاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم يوم فتح مكة:
ومرة يقسم بعصره فيقول تعالى: ” وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الانْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ” (2) (العصر) فإن الله عز وجل أقسم بالعصر، والعصر هنا هو عصر رسالة النبي صلى الله عليه وسلَّم، ويمتد منذ بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولا يقسم الله به إلا لعِظم شأنه عنده ورفعة مقامه لديه، حتى نعلم قدره عند ربه تبارك وتعالى.
ثم تسامى الله سبحانه وتعالى في وصفه، فوصفه بأنه نور، وأنه سراجٌ منير، فمرة يقول: ” قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ” (15المائدة) والنور هو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وإذا كان رسول الله نور، فإن الله يصف نفسه وذاته بأنه نور: ” اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ ” (35النور) ويصف كتابه بأنه نور: ” مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ” (52الشورى).
ثم يبين هذا النور لمن فيقول: ” وَسِرَاجًا مُنِيرًا ” (46الأحزاب) أي أنه نورٌ لقلوب المؤمنين، وأرواح المتقين حتى نعرف قدره، لأنه نور من نور رب العالمين تبارك وتعالى.
ثم بين الله تبارك وتعالى قدره في القرآن بهذه الكيفية، فبيَّن بذاته الأدب الذي ينبغي علينا أن نلتزم به مع حضرته، ولم يترك ذلك لنا لحرصه على مقام نبينا، فمرة يُحرِّم علينا أن نتقدم بين يديه ونمشي أمامه إلا بإذنه: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ ” (1الحجرات) وإذا كان المشي أمامه ينهى الله عنه، فما بالكم بمن يقدم رأيه على رأي حبيب الله ومصطفاه، ويقدم ما اختاره على ما اختارته شريعة الله وكتاب الله وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وينهانا عن رفع الصوت في حضرته سواء في حياته أو بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى: ” لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ” (2الحجرات) وعندما نزلت هذه الآية قال سيدنا أبو بكرٍ رضي الله عنه:
{ وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا أُكَلِّمُكَ إِلا كَأَخِي السِّرَارِ حَتَّى أَلْقَى اللَّهُ عز وجل }[7]
يعني همس، وكان سيدنا عمر جهوري الصوت، ولكن بعد نزول هذه الآية كان إذا تحدث مع النبي صلى الله عليه وسلَّم لا يتبين حديثه صلوات ربي وتسليماته عليه حتى يستوضحه من خفوت صوته في الكلام مع حضرة النبي.
وعندما جاء أبو جعفر المنصور زائراً إلى حضرة النبي بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ودخل مسجده الشريف، وناظر الإمام مالك ورفع صوته، فقال له الإمام مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم، فإن الله أدَّب قوماً فقال: ” لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ” (2الحجرات) وذمَّ قوماً فقال: ” إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ” (4الحجرات) ومدح قوماً فقال سبحانه: ” إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ الله أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ الله قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ” (3الحجرات) فاستكان لها الخليفة أبو جعفر وخفَّض صوته في حضرة النبي، وذلك بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلَّم.
كذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن أن نجعل دعاءه كدعاء بعضنا لبعض: ” لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ” (63النور) وهي تشمل معنيين، أي لا تنادوا على الرسول كما تنادوا على بعضكم بأسمائكم مجردة من الألقاب، ولكن إذا ناديتموه فقولوا: يا نبي الله أو يا رسول الله أو يا حبيب الله، كذلك نعلم علم اليقين أن دعاؤه لربه ليس كدعائه لنا، فدعاؤه مستجاب، والله وعده أنه سيعطيه حتى يرضى: ” وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ” (5الضحى).
كذلك دعاءه يعني نداءه على أحدنا إذا ناداه ليس كما يناديه أخيه أو إنساناً آخر غير رسول الله: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ” (24الأنفال) فإذا دعانا لأمر ليعلمنا أو يرشدنا أو يوجهنا، نستجيب إليه فوراً صلوات ربي وتسليماته عليه.
وأوجب علينا إذا كنا في حضرته أن لا نخرج أو نمشي من هذا الجمع إلا بعد الإذن من حضرته: ” وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ” (62النور).
ثم خيَّره صلى الله عليه وسلَّم وقال له: ” فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ ” (62النور) أعطاه الله الخيار بأن يأذن لمن يشاء، ويستغفر له لأنه سيفوته خير كثير بعد تركه لمجلس البشير النذير صلى الله عليه وسلَّم.
وأمرنا بعد ذلك بأن نُسلِّم له وننقاد له، حتى يتم إيماننا ويكون إيماننا سليماً: ” فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ” (65النساء).
أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا الأدب مع حضرته، والأدب مع نبيه، والأدب مع الصالحين، والأدب مع المحبين، والأدب مع المسلمين أجمعين.
****************************
1 ندوة بعد صلاة العشاء بدار الصفا الجميزة – السنطة – الغربية 5 من جمادى الأولى 1443هـ 9/12/2021م
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم