Sermon Details

……………………………………………………………………..
حقائق الحضرة المحمدية – التشبه بأخلاق رسول الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، ومفتاح السعادة في الدنيا وباب الشفاعة العظمى في يوم الخلود، سيدنا ومولانا محمد بن عَبْدِ الله، وآله وأصحابه وكل من اتبع هداه إلى يوم الدين، آمين.
وبعد..
نحن في هذا اليوم يا إخواني عندما نحتفل بميلاد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحقيقة نحتفل بميلاد حلقة واحدة من حلقات سيِّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، لأن له ميلادٌ نوراني وميلادٌ روحاني وميلادٌ جسماني، فنحن نحتفل الآن بالميلاد الجسماني، لكن الميلاد النوراني احتفل به الله مع رسل الله وأثبت ذلك في كتاب الله عزَّ وجلَّ. والميلاد الروحاني احتفى به الله مع عمار السموات من ملائكة الله، وأيضًا أثبت ذلك في كتاب الله عزَّ وجلَّ، أما الميلاد الجسماني فهو الذي يحتفل به كلَّ عام جماعة المسلمين والمؤمنين. ما السرُّ في تعدد هذه الحقائق؟
لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اختُصَّ بأنه رسولُ المرسلين، ورسول الملائكة، ورسول الإنس ورسول الجن، ورسول كلِّ كائن من كائنات الله عزَّ وجلَّ العلوية أو السفلية العاقلة، التي تعقل عن الله كلامه، وتهتدي إليه سبحانه وتعالى، وتتعبد إليه وتشكره على جميع إنعامه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ (28سبأ).
فهو للكل!! أما الأنبياء السابقون فكل واحد منهم لجماعته، أو لأهل بلدته، أو لقومه الذي نشأ فيهم، حتى أنه كان يُبعث في الزمن الواحد أكثر من نبيٍّ، فواحد في الشام وواحد في فلسطين، فمثلاً: كان إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل كلُّهم في وقت واحد، وكلُّهم أنبياء، وكان شعيب وموسى وهارون ويوشع بن نون كلُّهم أنبياء، وكلُّهم في وقت واحد، لكن كل واحد منهم مرسل لقومه فقط، أو للجماعة التي خصَّه بها الله عزَّ وجلَّ. أما الذي أرسل للجميع فهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿كَافَّةً﴾ يعني عامة للناس جميعاً – من قبل القبل، إلى بعد البعد، وهو رسول المرسلين ونبيُّ النبيين صلوات الله وسلامه عليه، فكان له ثلاث حضرات: الحضرة الأحمدية، والحضرة المحمودية، والحضرة المحمدية.
الحضرة الأحمدية
فأما الحضرة الأحمدية: فهي الحضرة التي كان يواجه بها الأنبياء والرسل السابقين، ومن أجل ذلك ذكروها: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (6الصف). فالذي عرفوه منه صلى الله عليه وسلم الحضرة الأحمدية، وهي الحضرة النورانية التي ليس فيها جسمانية، وليس فيها هيكلية، وليس فيها من العناصر الأرضية شيء، بل نُورٌ على نُور، نُور الله عزَّ وجلَّ على نُور الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فالأنبياء والمرسلون كانوا يستمدون من الحضرة النورانية الصافية، لأن أرواحهم صافية على الدوام، ولا يحتاجون – مثلنا – لواحد يجلسون أمامه، ويوجهون نظرهم إليه، وينصتون بسمعهم إليه، لأنهم كانوا في صفاء الصفاء وفي بهاء البهاء، ولذلك كان لا يغيب عنهم نور سيِّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم منذ رأتهم عيون أبصارهم في يوم الميثاق، وهم لا يغيبون عنه، بل دائماً يشتاقون إليه، حتى أكمل الله عليهم المِنَّة، وأتم عليهم النِّعمة، وأرسلهم وبعثهم جميعاً بعد مجيء الصورة المحمدية الكاملة، ليجددوا البيعة على حضرته صلوات الله وسلامه عليه في بيت المقدس – كما تعلمون – من أجل أن يحظوا بالشرفين، ويأخذوا من الحضرتين، لكن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يغيب عنهم طرفة عين.
هذه الحضرة الأحمدية النورانية التي يسأل فيها سيدنا جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: {ما أول شيء خلقه الله يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خَلَقَ نُورَ نَبِيِّكَ يَا جَابِر} (رواه عبد الرازق في مسنده عن جابر رضي الله عنه). وهذه كانت الحضرة الأولى، حضرة الأنوار لأهل الأنوار.
الحضرة النورانية
أما حضرة الملائكة فإن الله عزَّ وجلَّ تَجَلَّى لهم بنُورِ حبيبه ومصطفاه في هيكل آدم عليه السلام، فكان أدم الشاشة التي انعكست عليها أنوار النبيِّ الخاتم، ليستطيع ملائكة الله عزَّ وجلَّ أن يروه صلى الله عليه وسلم على حسب قدراتهم، وعلى حسب سعة أنوارهم، وعلى حسب نورانية وشفافية ذواتهم الروحانية، لأن نُورَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أَحَدٌ أن يراه إلا إذا أعطاه الله عزَّ وجلَّ قوة من عنده به يراه، لكنه بذاته لا يستطيع أحد أن يراه صلوات الله وسلامه عليه.
الحضرة الأكملية
ونحن والحمد لله أكرمنا الله بالحضرة الكاملة، الحضرة المحمدية الكاملة، وجعلنا الله ببركة هذه الحضرة لنا من الفضل، ولنا من الهناء، ولنا من الخصوصيات ما به ميَّزنا الله عن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة وأتم السلام.
فعندما ننظر إلى لوحة الأنبياء في القرآن – التي فيها تشريفهم بذات النبيِّ العدنان – واللوحة التي لنا في القرآن، نجد تقارباً كبيراً جداً بين اللوحتين في الفضل والإكرام والإنعام من الله عزَّ وجلَّ. لوحة النبيين: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (81آل عمران). هذه لوحة الأنبياء، أخذ الله عليهم العهد أن يؤمنوا به، ويتبعوه، وينصروه، ويؤازروه، ويساعدوه صلوات الله وسلامه عليه، وحذرهم بعد ذلك: ﴿فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (82آل عمران). أي: حذاري لأي واحد منكم أن يغيِّر هذا العهد أو يبدِّله.
أما لوحتنا: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، وبعد ذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (8-10الفتح). فأخذ علينا العهد أن نؤمن به: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، ﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾، يعني: تساعدوه وتعاونوه، وتعاضدوه وتناصروه، على تبليغ رسالة الله عزَّ وجلَّ، ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾، تعظموه وتبجلوه وتكرموه، لأن هذا أمر مِنْ الله عزَّ وجلَّ.
وهذا العهد هو نفس العهد، لأن الذي بايع رسول الله فإنما بايع الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ﴾، لم يقل كأنما يبايعون الله، بل قال: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾، واليد التي كانت فوق أيديهم كانت يَدُ من؟ يد الله مع أن اليد التي كانت فوق أيديهم يَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾.
إذن نفس الخصائص التي هنا هي نفس الخصائص التي هنا، وهذا يكشف لنا عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم له نواب سابقون، وله نواب لاحقون، وهو صلى الله عليه وسلم رسول الأولين كما أنه رسول الآخرين، ورسول السابقين كما أنه رسول اللاحقين، ونبيُّ المؤمنين والمسلمين، وأيضًا نبيُّ الملائكة والمقربين، فهو نبيُّ الكل صلوات الله وسلامه عليه.
وإن شئت قل هو كالشمس، نحن الآن في الليل وجماعة عندهم الآن النهار، فنحن قبل بعثته كنا في الليل وكان الأنبياء في نهار النبيِّ صلوات الله وسلامه عليه، ولما أشرقت علينا شمس النبيِّ المختار صرنا في نهار الأنوار إلى يوم الفرار، حتى أننا – كما يقول الواحد القهار – نقول يوم القيامة: ﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (8التحريم). فنحن كلُّنا في النور، ولكن نريد أن يتمِّم الله لنا هذا النور، نحن كنا في نور المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام صلوات الله وسلامه عليه.
الذي أريد أن أقوله لإخواني: أننا في هذا اليوم الذي نحن فيه الآن نحتفل بيوم ميلاد الحقيقة المحمدية، وهذه التي بها كمال المعاني الروحانية، وتمام المقامات الإلهية، وتمام الفضائل الربانية، التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، فإن الفضل كان يخرج من كنوز فضل الله بحساب، حتى ظَهَرَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبح الفضل من عند الله بغير حساب: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (39ص).
درجات الإيمان
فالأنبياء أمرهم اله أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا نحن أن نؤمن به، وأمرهم أن ينصروه، وأمرنا كذلك أن ننصره. ما المقصود بالإيمان هنا؟ وما كيفية النصر هنا؟
نحن كلنا مؤمنون، لكن ربُّنا يأتي في القرآن ويضع مُنَبِّهَات، فمثلاً يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ﴾ (136النساء). نحن مؤمنون فبماذا نؤمن ثانية؟ يقصد بذلك زيادة الإيمان، أي نريد درجة أعلى في الإيمان، ودرجة أرقى في الإيمان بالنبيِّ العدنان صلى الله عليه وسلم.
كل إنسان يؤمن بأنه رسول الله، ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يحرم عليه الخلود في عذاب النار، وضمن الله له دخول الجنة مع الأبرار. وهناك مَنْ يؤمن إيمانًا أكثر وأكبر، أنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، هل نحن جميعاً نؤمن بهذا الإيمان؟ لا، فالذي يؤمن بهذا الإيمان معناه أن أمره ونهيه ووصاياه صلى الله عليه وسلم تكون في المحل الأعلى في حياته كلها: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به). (رواه النووي في أربعينه والخطيب عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما).
فهذه درجة أعلى في الإيمان، أن المؤمن يترك هواه ولا يكون له إلا هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هواه أن ينام وهوى رسول الله أن يقوم من أجل أن يصلي الفجر فماذا يُؤثر؟ لاشك أنه يؤثر هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هواه. وكذلك لو كان هواه أن يمكث في المنزل مع أولاده وهوى رسول الله أنه يذهب إلى بيت الله يشارك إخوانه المؤمنين في الصلاة من أجل أن يحظى بفضل الجماعة، فيؤثر هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هواه.
وأيضًا لو كان هواه راحة النفس وسكون البال وهناءة القلب، لكن هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يبقى أحبابه ويبقى أصحابه ويبقى أتباعه في جهاد مستمر إلى أن يلقوا الله عزَّ وجلَّ – لا يخرج أحدهم من جهاد إلا ويدخل في جهاد، ولا ينتهي من جهاد إلا ويبدأ في جهاد حتى يلقى رب العباد عزَّ وجلَّ – فيكون هنا في هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوطن نفسه، ويشدِّد عزمه، ويَعْقِدُ قلبه على أنه لا راحة له في الدنيا من الجهاد إلا بعد لقاء رب العباد عزَّ وجلَّ.
لكن هل الدنيا فيها راحة يا إخواني؟ الراحة فيها يكون عليها ندم بعد ذلك، والمؤمن لا يريد أن يندم يوم لا ينفع الندم، ولذلك فالمؤمن على الدوام في جهاد مستمر!!
والجهاد يكفي أن الله عزَّ وجلَّ قال لنا فيه: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ (78الحج). عندما يقول الله (حَقَّ جِهَادِه) فما مبلغ هذا الجهاد؟ أو مداه؟ أو نهايته؟ ليس له نهاية، لكن معناه: أننا فهمنا منه – على قدر ماعوننا، وعلى قدر عقولنا وأنفسنا – لأن الإنسان طالما في هذه الحياة فهو في جهاد دائم في ذات الله عزَّ وجلَّ، جهاد مع نفسه، وجهاد مع فؤاده وقلبه، وجهاد مع زوجه، وجهاد مع أولاده، وجهاد مع جيرانه، وجهاد مع إخوانه، وجهاد مع رفقائه في العمل، وجهاد مع أهل الشارع، وجهاد مع التجار. جهاد مستمر!! وراية الجهاد في قلب المؤمن لا تنزل أبدًا، إلا عندما يسلِّمها لربِّ العباد عزَّ وجلَّ.
الجهاد الأعظم
فالمؤمن الأرقى الذي تسلَّم راية الجهاد من رسول الله، ورفعها وصمَّمَ على رفعها ما دام فيه نفس يتردد في هذه الحياة، ويكون له أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عندما رفع الراية وأرسلوا له: إن كنت تريد مالاً جمعنا لك الأموال حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد مُلْكاً مَلَّكْنَاكَ علينا، وإن كنت مريضاً بحثنا لك عن الأطباء لنداويك مهما كلفنا ذلك. ماذا قال؟ أشار إلى أنه لا يرضى بأي أمر من هذه الأمور، بل إنه قال لعمه بعد ذلك: {والله يا عمي، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه} (البخاري في التاريخ، والروض الأنفق).
هذا شعار المؤمنين الذين حملوا راية الجهاد في صفوف سيِّد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه. إذا عرضت عليهم الدنيا بزخارفها لم يلتفتوا إليها لشغلهم بالله عزَّ وجلَّ والجهاد في سبيله، وإذا طلبتهم المناصب الدنيوية لم يركنوا إليها لأنهم يرجون المناصب الباقية في جوار الباقي عزَّ وجلَّ، وإذا عرضت عليهم جمالات الدنيا بمختلف أنواعها وأشكالها جعلوها خلف ظهورهم لأن مقصدهم هو الله عزَّ وجلَّ، ولا يلتفتون عنه نفساً ولا أقل، لا يريدون إلا وجهه: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (28الكهف).
وهذا إيمان أعلى وأرقى، والقوم الذين أنزلوا أنفسهم في هذه المنزلة من الإيمان – والذين هم أنتم والحمد لله – هؤلاء جعلهم الرسول مثل الأنبياء السابقين وقال فيهم: {علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل} في الفضل وفي الكرم، وفي المنن وفي العطاء الإلهي، وفي النعيم الربَّاني، فهم كهؤلاء الأنبياء السابقين إذا التزموا بهذا النهج الذي ألزمنا به سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه. أما الذي يميل فليس له نصيب في هذا الأمر.
مَنْ مَالَ عَنْهُمْ هَوى فِي نَارِ شَهْوتِهِ لأنَّه مُشْرِكٌ قَدْ مَالَ لِلسُّفْلِ
فالذي يميل قليلاً يخرج من هذا النهج، لكن القوم الذين عاهدوا الله، وعاهدوا رسول الله، وعاهدوا أنفسهم أن يعينوا رسول الله على دعوته، وأن يساعدوه على نشر شريعته، وأن يكونوا بالنيابة عنه في إحياء سنته، هؤلاء القوم لا ينتهي الجهاد منهم إلا مع النفس الأخير، وحتى في النفس الأخير تجد الواحد منهم في جهاد!!
فقد جاء الموت الإمام الشبلي رضي الله عنه وأرضاه، وعندما أحاط به الموت طلب من خادمه أن يوضئه، وعندما كان يوضئه نسي أن يخلل لحيته، وكان قد كُفَّ لسانه عن الكلام، فأمسك بيد الخادم ووضعها على لحيته – لأنه لا يستطيع أن يتكلم – ليعلمه أنه لم يخلل لحيته بالماء!! والتخليل من سنن الوضوء، فقالوا: حتى في هذه الساعة لم ينس سُنَّة من سنن الوضوء!! لأنه في جهاد مستمر مع الله عزَّ وجلَّ.
والإمام الجنيد وهو في النَّفَسِ الأخير دخلوا عليه فوجدوه يختم القرآن، فقالوا له: حتى في هذه الساعة؟ قال: ومَنْ أولى بذلك مني؟ وها أنا ذا ألقى الله عزَّ وجلَّ وقد انتهيت من ختم قراءة كتابه سبحانه وتعالى، ما الذي يشغلني عن هذا الأمر وأنا مسافر إلى الله عزَّ وجلَّ؟
فهؤلاء القوم لا ينتهي جهادهم مع الله عزَّ وجلَّ إلا في النفس الأخير، وأنتم كلكم تعلمون أن شيخنا الشيخ محمد على سلامه رضي الله عنه وأرضاه خرجت روحه إلى الله عزَّ وجلَّ وهو في أروع وأنصع صفحات الجهاد، فقد كان سائرًا على قدميه ذاهباً ليُعَلِّمَ المسلمين – ابتغاء وجه الله – مما أفاءه عليه الله عزَّ وجلَّ. جهاد إلى النفس الأخير، هذا حال الأتقياء الأنقياء الذين تسلَّموا الراية من البشير النذير صلى الله عليه وسلم، فهذا الإيمان هو الإيمان الذي يجعل الإنسان ليس له راحة إلا في رضاء الله وفي رضاء حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
حكمة الجهاد
﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾ أي: تساعدوه. كيف نساعده؟ هل هو يحتاج منَّا إلى مساعدة؟ الموضوع يا إخواني موضوع تشريف، فكما شرَّف أصحاب رسول الله شرَّف الذين بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإن اختلفت أنواع الجهاد، لأنهم كانوا يجاهدون بالسيوف ونحن نجاهد بالألسن والأموال: (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم وأسلحتكم، ليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل) (رواه أحمد ومسلم والبزار عن ابن مسعود رضي اللهخ عنه) كما قال صلى الله عليه وسلم.
فعندما أمسكوا بالسيوف وحاربوا وقتلوا ماذا قال لهم ربنا؟ ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ﴾ (17الأنفال). هذا ليعلم الذين آمنوا ويعلم الذين جاهدوا ويعلم الجماعة ويتخذ منكم شهداء: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾ (140آل عمران)، وفي القراءة الثانية: ﴿وَلِيُعْلِمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، يضع لهم علامة.
إذا يا إخواني الجهاد ماض، ولكن كل الموضوع أن الله يريد أن يشرفنا، ويريد أن يكرمنا، ويريد أن يعظمنا، ويريد أن يجعلنا من الوجهاء في الدار الآخرة أو من الوجهاء عنده، فأكرمنا وجعلنا بالنيابة عن حبيبه ومصطفاه صلوات الله وسلامه عليه.
وهل معنى هذا أننا جميعاً نرتقي المنابر ونكون خطباء؟ كلاَّ، لأن تبليغ دعوة رسول الله يكون كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (21الأحزاب).
ميزان الأحوال
فأنتم في هذه الأيام التي نحن فيها مطالبون وأنا معكم، مطالبون بأن نزن أحوالنا بأحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {المؤمن مرآة المؤمن}. مَنْ المرآة العظمى التي يرى فيه الكلُّ نفسه؟ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيجب علينا في هذه الأيام أن ننظر إلى رسول الله كيف كان حاله؟ وكيف كانت معاملته؟ وكيف كانت أخلاقه؟ وكيف كانت عاداته؟ وكيف كانت سلوكياته وجهاده؟ كل هذه الأمور يزن الإنسان بها نفسه في هذه الأيام: (زنوا أنفسكم قبل أن توزن عليكم أعمالكم) كيف نزن أنفسنا؟ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبه يقيس المرء نفسه من أجل أن يرى إذا كان مقصِّراً أو أنه أدَّى ما عليه؛ فإن كان مقصراً ندم واستغفر وسأل الله عزَّ وجلَّ الإقالة، وإن كان مكثراً حمد الله على ما أفاء عليه وسأل الله عزَّ وجلَّ الزيادة. ففي يوم ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا نزن أنفسنا، ننظر أحواله وننظر أحوالنا، ونرى أعماله وأعمالنا، ونشاهد سلوكياته وسلوكياتنا، ونعلم أخلاقه وأخلاقنا.
واعلم علم اليقين – يا أخي – أن الإنسان منا لا ينتقل خطوة في طريق الله عزَّ وجلَّ إلا على أثر سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الصراط الذي قال فيه ربنا: ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ (153الأنعام). فهذا اسم إشارة لسيدنا رسول الله، فهو الصراط المستقيم لنا، فلو كان هذا الصراط كما قال المفسرون: (الطريق)، لقال: (امشوا عليه)، لكنه عزَّ وجلَّ يقول: ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾، معنى هذا: أنه شخص أمامنا، حقيقة نورانية أمامنا نتمثلها ونستحضر جمالها وأخلاقها ونمشي خلفها، لكن لو كان الصراط كما يقولون الطريق، لقال: امشوا عليه، أو فاعبروه، أو فمروا عليه، لكن ربنا قال: ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾ صلى الله عليه وسلم.
هذا الصراط المستقيم الذي نحن مأمورون أن نتبعه صلى الله عليه وسلم في كل حركاتنا، وفي كل سكناتنا، وكلما زاد الإنسان منا في المتابعة لسيدنا ومولانا رسول الله كلما زاد مقامه عند الله، وكلما فتح له من كنوز فضل الله ما لا يعلم قدره إلا الله عزَّ وجلَّ.
المتابعة الرافعة
فمفتاح الرُّقي إلى الله هو متابعة سيدنا ومولانا رسول الله، ومفتاح كنوز فضل الله هو متابعة سيدنا ومولانا رسول الله، فهو الصراط المستقيم الذي وضحه لنا الله، وأمرنا أن نتبعه في كل أنفاسنا وحركاتنا وسكناتنا صلوات الله وسلامه عليه، وهذا إيمان أكبر في المنزلة والمقام، فالإيمان الأكبر المتابعة، حتى قال فيه العارفون: يكون الإنسان خلف رسول الله القدَّ بالقدِّ، والنعل بالنعل، يعني: لا ينقل قدمًا ولا يضعها إلا في موطن تأكد أن رسول الله وضعها فيه، ولا يرفع طرفًا لينظر إلاِّ إلى شيء تأكد أن سيدنا رسول الله نظر إليه، وعلم الكيفية التي بها نظر إليه، فيكون في كل حركاته وسكناته خلفه صلى الله عليه وسلم.
وهذه التي يقول فيها سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه وأرضاه: (بقى لي أربعون عاماً لو غاب عني صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المؤمنين). وهل معنى ذلك أنه لم يغب عنه بجسمه أو هيكله أو حقيقته؟ كلاَّ، ولكنه لم يغب عنه استحضار هذه الحقيقة المحمدية، لأنه في كل نفس من أنفاسه في عمل – إما عمل جسماني، وإما عمل لساني، وإما عمل قلبي، وإما عمل بجوارحه، وإما عمل بفكره، وإما عمل روحاني – فهو في عمل بأي حقيقة من الحقائق الإنسانية، وفي كل عمل من هذه الأعمال لابد أن يستحضر الإنسان كيف كان صلى الله عليه وسلم يعمل هذا العمل ليحتذي به ويتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.
ولما كان في كلِّ نَفَسٍ يستحضر رسول الله في العمل الذي يقوم به في هذا النفس، حتى في النوم فإنه يستحضر كيف كان ينام لينام على هيئته، وحتى في المداعبة يستحضر كيف كان يداعب ليداعب على حالته، وحتى في الجماع يستحضر كيف كان يجامع ليجامع على نيته صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الله عزَّ وجلَّ عندما أمر بهذا الأمر قال: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ﴾ (223البقرة)، يعني: لا تنسوا في هذا الأمر أن تقدموا النيَّة الصالحة، هذا معنى تقدموا المتابعة لسيدنا رسول الله حتى في هذا الأمر الشهواني والبهيمي، يستحضر الإنسان النوايا والخواطر التي كان يستحضرها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون على أكمل المتابعة والمشابهة لسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن هناك إيمان لساني، وهناك إيمان مع النصرة والتعزيز والتعضيد، وهناك إيمان مع المشابهة والمتابعة للنبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم.
﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾، وتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم – يا إخواني – الأكبر ليس في الشكليات التي دأبت عليها الناس، لكن توقير رسول الله بالنسبة للسالكين والمريدين والمحبين هو أن ينزه الإنسان حقيقته الإنسانية، وصورته الروحانية، أن تخالف خير البرية صلى الله عليه وسلم في أي أمر ولو حقير أو صغير، حتى ولو كان من سنن العادات فضلاً عن سنن العبادات، فحتى في سنن العادات يسعى الصالحون ليصل الإنسان منهم إلى درجة أنه يحاول أن يكون أكمل الناس متابعة لسيِّد الناس صلى الله عليه وسلم.
حتى ورد أن الإمام أبي العزائم رضي الله عنه وأرضاه وكانت قد شُلَّتْ رجلاه في آخر عمره، وحملوه ليدخلوه المرحاض، وكانوا لا يتمكنون كل التمكن في هذه الحالة من السُّنَّة لشغلهم بحمله، لكنه رضي الله عنه كان في مقام التمكن من استحضار حال رسول الله في هذا الأمر، يعني الذي يحمل يريد أن يؤدي المهمة بأي كيفية وانتهى الأمر، لكن همَّه كلَّه في متابعة السنَّة، فأرادوا أن يدخلوه من الجهة اليمنى فردَّهم بقوة شديدة جداً وقال: خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم!! ماذا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأنه يستحضر رسول الله في كل عمل من الأعمال، ولو كان مثل هذا العمل الذي لا نلقي له بالاً!! ومعظمنا لا يعبأ دخل باليمين أو بالشمال، لكن هؤلاء القوم ما وصلوا إلى هذه المقامات، وما ارتقوا على هذه الدرجات، إلاَّ بِحُسْنِ متابعتهم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحتى في هذه الأمور الهينة في أعيننا، واللينة في نظرنا، ولكنها كبيرة في أعينهم لأن هفوة العارفين أكبر ذنب.
وحتى أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه وقد جمع من الأحاديث ألف ألف حديث، بأسانيدهم ورواياتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع مليون حديث وحفظها بأسانيدها، وكان من ضمن الذي ورد إليه أن سيدنا رسول الله كان يحب العنب والبطيخ، فكان يحب أن يأكل البطيخ ولكنه منع نفسه من تناوله، فقالوا له: تروي لنا أن رسول الله كان يحب البطيخ فلماذا لا تأكله؟ قال: لأنه لم يَرِدْ إليَّ بسند – يستريح إليه القلب – كيف كان صلى الله عليه وسلم يأكل البطيخ، أي: بالكيفية التي كان يأكل بها، وأخاف أن آكل فأخالف الكيفية التي كان يأكل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد برهة من الزمن وصله الحديث الذي وصف له الكيفية، وأنه صلى الله عليه وسلم يشُقُّ البطيخة نصفين، ثم يشقُّ كلَّ نصف قطعاً على هيئة الهلال، ويبدأ باليمين، ويأكل من اليمين إلى اليسار، فأكَلَ متشبِّهاً بالنبي المختار صلوات الله وسلامه عليه.
هذه الأحوال يا إخواني هي التي جعلت هؤلاء القوم يصلون إلى هذه الأحوال، وقد كان صلى الله عليه وسلم يلاحظهم في ذلك، ويعاتبهم على أدنى هفوة يرتكبونها في ذلك، لماذا؟ لأنه حريص على أن يبلغوا هذه المقامات العالية، والدرجات الراقية، والأنوار الصافية، لأنه كما قال الله: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (128التوبة)، حريصٌ على أنَّنا نأخذ هذه المقامات، وننال هذه الدرجات، ونبلغ هذه المنازل الراقيات صلوات الله وسلامه عليه.
إذن كمال توقيره صلى الله عليه وسلم في توقير سُنَّته، وفي تعظيم شريعته، وفي الأخذ بمحبته صلوات الله وسلامه عليه؛ لكن مع ملاحظة أنواره القدسية وليس الوقوف على حركاته الجسمانية كما وقع في ذلك كثير من المتشبهين في هذه الأمة، فإن كثيراً منهم وقفوا على حركات الأجسام ولم ينظروا إلى حركات القلوب، وإلى حركات السرائر في متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المقياس الذي يزيد عليهم به الصالحون، يعني: نحن نتشبه كما يتشبه إخواننا الذين ينسبون أنفسهم إلى السنَّة، ونحن والحمد لله كلنا أهل سُنَّة، لكنا نزيد عليهم أنهم يتشبهون بالظاهر فقط ونحن نحاول قدر الاستطاعة، ونحاول بما يفيء الله علينا من أنوار المصطفى أن نقتفي أثره صلوات الله وسلامه عليه في حركاته القلبية، وفي خطراته النفسية، وفي فكراته العقلية، وفي توجهاته الروحانية، ونحن نتشبه به كمال التشبه في حركاته الجسمانية صلوات الله وسلامه عليه.
فإذا كان الإنسان منا يقوم بحركات الصلاة، فإن حركات الصلاة واحدة لكن الشأن في حركات القلوب أثناء الصلاة، هذا الذي به تفاوت الدرجات، وهذا الذي فيه اختلاف العطاءات، فإننا جميعاً في صفٍ واحدٍ، وركوعنا واحد وسجودنا واحد، ولكن الفرق بيننا على حسب حضور قلبنا بين يدي الواحد عزَّ وجلَّ. ومن هنا كان اهتمام الصالحين بمتابعة سيد الأولين والآخرين ظاهراً وباطناً:
أَطَعْتُ رَسُولَ اللهِ حُبًّا لِوَصْلِهِ فَأَشْرَفَ بِي رَبِّي عَلَى حَضْرَةِ القُدْسِ
أطيع رسول الله في الظاهر وأقتدي برسول الله وأقتفي بأثره صلى الله عليه وسلم في الباطن، من أجل أن يكون هذا هو الاقتداء الحقيقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله عندما قال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾، لم يقل: في محمد!! ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (21الأحزاب). ورسول الله يعني: الجسم والروح والحقيقة، والفؤاد والقلب، وكل الكمالات التي ظهرت في سيِّد السادات صلى الله عليه وسلم. ولو قال: (لقد كان لكم في محمد)، يكون متابعة في الظاهر فقط، لكن: (رسول الله) تكون المتابعة في الظاهر وفي الباطن، وهذا الأمر الذي يجعلنا نحتاج إلى الصالحين في هذا الأمر العظيم.
أنا أتابع رسول الله في الصلاة تمام التمام في الظاهر، لكن أريد أن أصل إلى العطاء الذي يحصل عليه الإنسان المؤمن في الصلاة، كيف أصلي؟ لابد أن أتشبه برسول الله في حركاتي القلبية، وفي توجهاتي الروحانية، وهذه الأشياء لا يهتدي الإنسان إليها من الجهات التشريعية، وإنما من المعاني النورانية والتلميحات الحقيقية التي يلمح إليها العارفون، ويشير إليها الواصلون لأنها موجودة في ثنايا كلام الله وفي وسط أحاديث رسول الله، ولا تلوح جهرة إلا للقلوب التي صفت لله عزَّ وجلَّ.
إذا يا إخواني نحن مطالبون في هذه الأيام المباركة أن نحاول أن ننظر إلى المرآة العظمى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحاول أن ننظر إلى أنفسنا فيها وننظر إلى أحوالنا فيها، وننظر إلى حركاتنا وسكناتنا فيها، فإذا استطاع الإنسان أن يغيِّر في هذا العام خُلُقاً واحداً من أخلاقه ويستبدله بِخُلُقٍ نبيل من أخلاق رسول الله فقد فاز فوزًا عظيماً، وكان له مقاماً عظيماً عند الله عزَّ وجلَّ، وإذا استطاع أن يمشي على هذا المنوال فإنه إن شاء الله سيصير من كُمَّلِ الرجال، لأن هذا هو طريق الرجال.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجمِّلنا بجمال النبيِّ المختار، وأن يكمِّلنا بهذه الأنوار، وأن يفتح لنا كنوز هذه الأسرار، وأن يصل نُورَ قلوبنا بِنُورِ قلب النبي المختار، وأن يجعلنا من الذين تمسكوا به في السرِّ والجهر وفي العلانية والإظهار، وفي المنام وفي الصحو، وفي الدنيا والآخرة، حتى يكون صلى الله عليه وسلم نوراً ظاهراً في قلوبنا، وجمالاً مُهَيِّماً لأرواحنا، وسِرًّا واضحاً بيننا بين حضرة ربِّنا، وكنزاً من العطاء مفتوحاً لنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم