• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:59 PM

Sermon Details

21 نوفمبر 2014

حقيقية التصوف

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

حقيقة التصوف

منزلة التصوف من الدين

التصوف هو مقام الإحسان

حاجة المؤمن للتصوف

طهارة القلب وكمال الإيمان

الفتح في مقام الإحسان

التصوف علمٌ وعمل

المجلس الأول: حقيقة التصوف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذى أعلى شأننا بالإسلام، وجعلنا فى الرتبة العليا من الأنام، واصطفانا وكرَّمنا وقال فى شأننا فى خير كتابٍ أنزله على الحبيب المختار:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ{ (110آل عمران)

والصلاة والسلام على قطب هذه الأمة الإلهى، ونورها الربانى، وهاديها فى الدنيا بشرع الله … إلى محبة الله، والشفيع الأعظم لنا ولجميع الخلائق يوم الدين، سيدنا محمد وآله الطيبين وصحابته المباركين، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين، آمين يا ربَّ العالمين.

سأبدأ معكم بسؤال نُجيب عنه فى الوقت والحال، هذا السؤال يخطر فى ذهن كثيرٍ من الحضور – وغيرهم من المسلمين – نتيجة حملات التشكيك التى يروجها الكافرون والمشركون والملحدون فى هذا الدين، ليفرقوا جمع المسلمين، ويشتتوا شملهم، ويجعلوا المسلمين يتعاركون فيما بينهم فلا يتفرغون لهؤلاء الأقوام!!! هذا السؤال الذى أظهروه يقولون فيه: هل التصوف من الإسلام؟ وما التصوف؟ وهل للإنسان ضرورة فى أن يسلك منهج أهل التصوف؟ ثلاثة أسئلة هامة نحاول أن نجيب عليها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله عز وجل.

منزلة التصوف من الدين

هل التصوف من الدين؟! وما منزلته فى الدين؟!

إذا رجعنا إلى المنازل التى جعلها الله عز وجل لأهل هذا الدين، نجدها قد حددها النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فى حديث صحيح شريف ورد فى كتب الصحاح كلها، وخاصة البخارى ومسلم وغيرهم، وراوى الحديث سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يقول:

{ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَلُونِي، فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ وَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِسْلامُ؟، قَالَ: لا تُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: يَارَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِيمَانُ؟، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِحْسَانُ؟، قَالَ: تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ ، قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الأَرْضِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأَيْتَ رِعَاءَ الْبَهْمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي الْخَمْسِ مِنَ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ ، ثُمَّ قَرَأَ } إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ { (34لقمان) إِلَى قَوْلِهِ } خَبِيرٌ {، قَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ِصلى الله عليه وسلم: رُدُّوهُ عَلَيَّ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا جِبْرِيلُ أَرَادَ أَنْ تَعْلَمُوا إِذْ لَمْ تسَألُوا}[1]

السائل من؟ جبريل، ولذلك لم يُرَ عليه أى أثرٍ للتعب أو للسفر، وهذا الحديث إسمه حديث جبريل لأن السائل فيه أمين الوحى جبريل عليه السلام. عندما نتفحَّص فى هذا الحديث نجد أنه جعل للدين ثلاث مقامات: مقام الإسلام، ومقام الإيمان، ومقام الإحسان.

مقام الإسلام: أن يعبد الإنسان ربَّه العبادات التى  كلفنا بها الله؛ من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.

مقام الإيمان: أن يعتقد القلب ويوثق هذا الإعتقاد فى أركان الإيمان التى ذكرها النبى العدنان صلى الله عليه وسلم. يؤمن بكل رُسل الله وبكل أنبياء الله وبكل الكتب السماوية الصحيحة التى أنزلها الله، ويؤمن أن هناك ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويؤمن بأن هناك يوماً سيجمع الله فيه الخلائق أجمعين للعرض والحساب، وهو يوم القيامة، ويؤمن بقضاء الله وقدره: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ (79النساء). فقال: { أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ ، وَكُتُبِهِ ، وَلِقَائِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ }.

التصوف هو مقام الإحسان

مقام الإحسان: هو أن : تعبد اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، هو أن يعبد الله كأنه يراه وأن الله عز وجل يعلم سره ونجواه، وأن الله يطلع على خطرات قلبه، وعلى ما يدور فى صدره وأنه يعلم السر وأخفى، وأنه لا تخفى عليه عز وجل خافية فى الأرض ولا فى السماء، ثم بعد ذلك يرتقى إلى مقامٍ أعلى وهو أن الله عز وجل يُرقِّق حجاب قلبه وبشريته فيعبد الله عز وجل كأنه يراه.

مقام الإحسان هو مقام التصوف، هو ما يُسمَّى بالتصوف، إسمه الأصلى الذى سمَّاه به النَّبِىُّ: الإحسان، وفى العصور التالية لحضرة النبى أُطلق عليه رمز التصوف لأنه يرمز للصفاء والنقاء، لأن أساسه صفاء القلب من جهة الخلق، وصفاء القلب من جهة الحقِّ عز وجل. فمقام التصوف فى الدين هو مقام الإحسان.

حاجة المؤمن للتصوف

وهل للمؤمن ضرورة فى هذا المقام؟ نعم ، أى عبادة يعملها المرء لله، لها جانبٌ ظاهر، ولها ركنٌ باطن، إذا أدَّاها الإنسان على أكمل ما يكون ظاهراً ولم يحضر فيها قلبه وانشغل عن الله يكون أداؤها باطلاً، تكون هذه العبادة غير مقبولة، ولا ترتفع إلى الله، لأنه لم يحضر فيها القلب مع الجسم عند أدائها لله عز وجل.

ننظر مثلاً إلى الصلاة؛ مدح الله قوماً فى كتاب الله ومن المفلحين فى أداء الصلاة، فما هى الصلاة التى ينالون بها الفلاح والنجاح عند الله؟

} قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) { (المؤمنون)

شرط الفلاح والنجاح فى الصلاة ان يؤديها الإنسان بخشوع القلب، أن يكون حاضراً فى تسبيحاته وتكبيراته وتلاوة آيات كتاب الله وهو يناجى الله فى الصلاة، إذا تُليت عليه الآيات من الإمام أو تلاها هو بلسانه ترتجف أعضاؤه ويهتز كيانه، وتحدث له رعدة وخشية لأنه يتلوا كلام الله فى مناجاة الله جلَّ فى عُلاه.

إذا صلى المرء ظاهراً وأتمَّ الركوع وأتَّم السجود وأطال فيهما بحسب ما نراه، لكن قلبه مليء بمشاغل كونية أو أحداثٍ دنيوية تواترت عليه وهو فى الصلاة، فإن هذا صلاته غير مقبولة.

وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلى بهذه الكيفية، فلما إنتهى ناداه وقال صلى الله عليه وسلم له: { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ }ـ فقام مرةً ثانية وأطال الصلاة فى حركاتها الظاهرة وركوعها وسجودها، وبعد أن إنتهى منها ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:
{ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ } ـ والمرة الثالثة كذلك، وبعدها قال: يا رسول الله علمنى فإنى لا أحسن غير هذا. فعلمه النبى صلى الله عليه وسلم الهيئة التى ينبغى أن يكون فيها مقبلاً على حضرة الله لكى تكون الصلاة كاملة وتنال رضاء الله عز وجل؛ أن يكون الجسم فى سكون وأن يكون الجسم يؤدى الحركات والسكنات من الركوع والسجود والجلوس والوقوف كما أدَّاهما حضرة النبى لأنه قال لنا: { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي }[2].

وكما طهَّر الجسم بالماء لابد وأن يطهر القلب من كل ما يشغله عن الله ويستحضر الخشية من الله والخشوع مع الله، ويحاول أن يستحضر حاله مع الله فَيُكَلِّمُ الله كأنه فى حالة المناجاة، وقد قال الله عز وجل ليُبين لنا هذا الحال فى الحديث القدسى:

{ قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثنَى عَلَيَّ عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ: مَرَّةً فَوَّضَ إلى عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ }[3].

ولذلك نقول لمن يعترض على المسلمين عندما يقرأون الفاتحة لقضاء حاجة أو لتيسير مصلحة، لم تعترض؟! أما سمعت قول الله فى الحديث القدسى أن العبد عندما يقرأ الفاتحة يقول الله تعالى: (هذا لعبدى ولعبدى ماسأل)!!

أى إذا قرأ الفاتحة لأى أمر يقضيه الله، وييسِّره له الله، ويسرع الله عز وجل فى قضاء هذه الحاجات، لأنه وعد بذلك فى هذا الحديث القدسى الذى استمعنا إليه أجمعين، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم عن العبد الذى يقرأ الفاتحة ولا يدرى ماذا قرأ؟ أقرأ الفاتحة أم التشهد؟ هل قرأ التشهد أم الفاتحة؟ يقول صلى الله عليه وسلم فى العبد الذى التفت عن الله فى الصلاة:

{ إِذَا قَامَ الرَّجُلُ فِي صَلاتِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ ، فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ : يَا ابْنَ آدَمَ إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ؟ إِلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنِّي؟ أَقْبِلْ إلى، فَإِذَا الْتَفَتَ الثَّانِيَةَ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا الْتَفَتَ الثَّالِثَةَ صَرَفَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجْهَهُ عَنْهُ }[4].

طهارة القلب وكمال الإيمان

الصلاة صلة بين العبد ومولاه، فينبغى أن يكون القلب حاضراً فيها مع الجسم لكى يؤدى الصلاة الصحيحة لله عز وجل. وهكذا كل العبادات الإسلامية أساسها القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: { أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ }[5]

علم الصالحون هذه الحقيقة فاهتموا بطهارة القلب بالكلية، طهارة القلب نحو الله أن لا يكون فى قلبه شكٌ فى الله عز وجل، وأن لا يكون فى قلبه إعتراضٌ على قضاء الله فى أى أمرٍ أو قضاءٍ قضاه، لأنه يعلم أن الله يختار بالعدل ما هو خيرٌ له فى الدنيا وما هو أنفع له فى الاخرة، وينبغى لمن اعتقد هذا الاعتقاد أن يعلم علم اليقين أن الله يراه فى أى موضعٍ وفى أى حال، لأن الله لا يخلو منه زمانٌ ولا مكان، ويقول لنا فى القرآن حتى ندرك هذا السمو الإلهى:

} وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ { (105التوبة)

المؤمن عندما يعمل أى عمل بأى جارحة من الجوارح يعلم أن الله مطلعٌ عليه ويراه، إذا حضر هذا الأمر فى قلبه فإنه لا يستطيع أن يعصى الله حياءً من الله، ولا يستطيع أن يتخلف عن طاعة الله، خشية منه سبحانه إذا علم قول الله: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ   ﴾ (7المجادلة).

من استحضر هذه المعانى فى فؤاده وقلبه هل يترك لنفسه العنان إذا جلس مع أحدٍ من الخلق أن يتطرق إلى غِيبة فى حق فلان؟ أو نميمة على فلان؟ أو قذفٍ أو سبٍّ أو شتمٍ لإنسان؟ لا يصنع ذلك إلا الغافل عن مولاه، والذى فى حجاب عن حضرة الله، وفى سهوٍ ولا يستحضر أبداً أن الله عز وجل مطلعٌ عليه ويراه.

فإذا طهَّر القلب من هذه الأوصاف:

ملأه الله بخشيته، وملأه عز وجل من جلاله وعزَّته، وملأه الله عز وجل بالخوف من مقام حضرته، فيراقب الله على الدوام حتى ولو كان فى مكان لا يطلع عليه الخلق، يكون موقناً تمام الإيقان أنه لا يغيب عن نظر الحق عز وجل، فيجاهد فى تصفيه قلبه من ناحية الخلق حتى ينال رضا الحق عز وجل، لأنه قال فى كتابه:

} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ { (89الشعراء).

من الذى يحبه الله، ويفتح له أبواب قربه ورضاه؟ الذى يأتى فى كل وقتٍ من أوقات حياته وقلبه سليمٌ من جهة جميع خلق الله؛ سليمٌ من الحقد، وسليمٌ من الحسد، وسليمٌ من البغض، وسليمٌ من الكراهية، وسليمٌ من الأنانية، وسليمٌ من كل هذه الأوصاف، فيكتمل له الإيمان. من الذى اكتمل إيمانه؟ يصف النبى صلى الله عليه وسلم لنا بعض مظاهر تمام الإيمان لكى نعرف أين نحن من ذلك، أولها:

{ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ ، وَوَلَدِهِ ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[6]

لابد أن يحب النبى صلى الله عليه وسلم أكبر من نفسه ومن ولده ومن ماله ومن الناس أجمعين، وسيدنا عمر قال: { يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لأنتَ أَحَبُّ إلى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إلى مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الآنَ يَا عُمَرُ }[7]

والحب حقيقته فى قول الله: } قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ { (31آل عمران)، فالحب يجعل العبد يتابع النبى فى كل أموره، من إدَّعى الحب ولا يتابع الحبيب فهذه دعوى بغير بيِّنة ولا دليل ولا برهان، وحجته مرفوضة عند حضرة الرحمن عز وجل …. ولكى يكتمل الإيمان جعل النبى علامة لأهل الإيمان:

{ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ}[8]

إذا كان يحب الخير لنفسه فقط فهذه أنانية نهت عنها الشريعة السماوية الإسلامية، مع أن الله عز وجل قال أننا جميعاً أخوة: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ (10الحجرات)، وما داموا أخوة لابد أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، إذا لم يكن على هذه الشاكلة يحتاج إلى جهاد نفسه لينال مقام تمام الإيمان.

الفتح في مقام الإحسان

إذاً المؤمن لكى يتم إيمانه ويرتقى إلى مقام الإحسان لابد أن يطهر قلبه من جميع النوازع غير الخيِّرة من جهة الخلق؛ لا يفكر فى مكرٍ ودهاءٍ أن يصيب إنساناً بأذى، أو يدبر له مكيدة، لا يشمت بإنسان مؤمن إذا نزلت به مصيبة، لأن الشماتة تتعارض مع الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: { لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيِعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ }[9].

وقد جعل صلى الله عليه وسلم طهارة القلب من جهة الحق والخلق هى السبيل لمن أراد أن يكون معه فى الجنة إن شاء الله، كان يعلمها حتى للصبيان فقال لسيدنا أنس بن مالك رضى الله عنه وهو غلامٌ حدث:

{ يَا بُنَيَّ ” إِنْ استطعت أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غل ولا غِشٌّ ولا حسد لِأَحَدٍ فَافْعَلْ ، ثُمَّ قَالَ لِي : يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي ، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي ، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ “}[10]

وقد بين صلى الله عليه وسلم لأصحابه جلىَّ هذا المقام؛ عندما كان جالساً معهم ودخل الصحابى الجليل عبد الله بن سلام رضى الله عنه، وعندما أشرف عليهم قال صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ هَذَا الْبَابَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ” ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ }[11] ـ فدخل وألقى السلام وجلس، ثم قام بعد لحظات، فقال صلى الله عليه وسلم: {قام عنكم الآن رجلٌ من أهل الجنة}، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما شابٌ نشأ على طاعة الله؛ يُحيى الليل كله فى التهجد والصلاة لله، وجعل أيامه كلها صيامٌ لله، ويتلو القرآن فى كل ثلاثة أيامٍ مرة من أوله إلى آخره، فقال فى نفسه: ما العمل الذى زاد به هذا الرجل عنى والذى وصفه به النبى صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة؟ فأراد أن يستكشف هذا الأمر فزاره فى بيته وطلب منه أن يبيت عنده على أنه حدث خلافٌ بينه وبين أبيه، وهو فى الحقيقة يريد أن ينظر إلى عبادته وطاعته لله.

وبعد صلاة العشاء انتظر أن يقوم الرجل فلم يقم وظل نائماً، وفى النصف الثانى من الليل وجده يقظاً يتقلب ويتململ ولكنه لا يقوم، فلما إقترب الفجر قام وتوضأ وقال: هيا يا عبد الله نصلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى النهار وجده مفطراً غير صائم، فقال: لعله هذه الليلة كان مجهداً ومتعباً، انتظر ليلة ثانية فوجده فى الثانية على هذه الهيئة، وفى الثالثة على هذه الكيفية، فقال: لابد من إخباره بالأمر، فقال: يا أخى سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول وأنت داخل وأنت خارج أنك رجلٌ من أهل الجنة، فأحببت أن أطلع على العمل الذى فزت به بهذه المنزلة، فلم أجدك زدت عن الفرائض المفترضة شيئاً. فسكت الرجل ثم قال له: لا أزيد عما رأيت ـ فلما نظر إليه ووجده متعجباً ـ قال له:{ غير أنى أبيت كل ليلة وليس فى قلبى غلٌ ولا غشٌ ولا حقدٌ ولا حسدٌ لأحدٍ من المسلمين، قال: فبذاك}[12] ـ أى نلت هذه المنزلة بهذه الأوصاف.

وهذه الأوصاف أين تكون؟ تكون فى القلب. إذن طهارة القلب أساس كل خيرٍ، وكل برّ، وكل معروفٍ، وكل فتحٍ ينزل على المرء من الله عز وجل، لأن الله عندما يطلع علينا أثناء الأعمال لا يطلع على الظاهر فقط، ولكن يطلع على ما فى البواطن، قال صلى الله عليه وسلم:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ ، ـ لأنه هو الذى صورها ـ ولا إلى  أَمْوَالِكُمْ ، ـ لأنه هو الذى أعطاها ـ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }[13]

ومن هنا اهتم السادة الصالحون والعارفون والصوفية الصادقون بجلاء القلب وتطهيره، فإذا تمَّ جلاء القلب وتطهيره أصبح صاحبه متعرضاً لنفحات الله وفتح الله، وهذا مقام الإحسان؛ أحسن العمل، وجزاؤه أن يتنزل الله له فى قلبه، إما بعلومٍ يقول فيها: } وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ { (282البقرة)، أو بنورٍ يضعه فى القلب ينظر به المرء إلى غيره فيكشف الله له عما فى حنايا صدورهم، كمن يقول فيه الله: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ  ﴾ (122الأنعام).

أو يجعل الله قلبه موضعاً لتنزل الحكمة: ﴿  يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا  ﴾ (269البقرة)، فيصبح حكيماً فيما يصدر عنه من أقوال، وحكيماً فيما يفعله من أفعال، لأن الله أيده بحكمته وجعل قلبه خزانة لأنوار حكمته عز وجل، أو يكاشفه الله عز وجل من نور ملكوته الأعلى، قال صلى الله عليه وسلم لرجلٍ من أصحابه يُدعى حارثة رضى الله عنه وأرضاه:

{ كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ ؟ ، فَقَالَ : أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا ، فَقَالَ : انْظُرْ مَا تَقُولُ ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ ؟ ” ، قَالَ : قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا ، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لَيْلِي ، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا ، فَقَالَ : يَا حَارِثُ ، قَدْ عَرَفْتَ فَالْزَمْ. ثم قال لمن حوله: عبدٌ نوَّر الله بالإيمان قلبه }[14].

التصوف علم وعمل

إذاً التصوف يصل إلى تصفية القلوب وجلاؤها لكى تكون صالحة لمواهب حضرة علام الغيوب عز وجل، وهذا يقتضى أمرين: علمٌ وعملٌ، لابد وأن يتعلم أولاً الأحكام الشرعية التى بها يُحسن العبادة  لربِّ البرية، ويتعلم الأحكام الشرعية التى يتعامل بها مع الخلق، ويلتزم بها طلباً لمرضاة الحق، فإذا عمل بما علم دخل فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }[15]

فمن ادَّعى التصوف ولم يطلب العلم أو يتعلم، فهذه دعوى زائفة، ومن ادَّعى التصوف ولم يقم عاملاً بكل ما جاء عن الله من شرع الله فهذه دعوى كاذبة يطلب بها الظهور بين خلق الله. لكن التصوف علمٌ وعمل، وصفاءٌ ونقاء، وحُسن خلقٍ مع جميع الخلق، يجعل المرء يتعرض لما لانستطيع عدَّه من فتح الله وكمالات الله، وأنوار الله وفيوضات الله، التى يفيضها على قلوب الصالحين من عباد الله.

نسأل الله عز وجل أن يبلغنا أجمعين هذا المقام، وأن يجعلنا من المتعرضين لنفحات جوده وفضله على الدوام، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] رواه الإمام مسلم عن سيدنا عمر رضى الله عنه.

[2] البخاري في الصحيح من حديث مالك بن حويرث رضي الله عنه.

[3] مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[5] رواه البخاري والدارمي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

[6] روى البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه.

[7] صحيح البخارى والإمام احمد عن عبدالله بن هشام رضى الله عنه.

[8] صحيح البخارى عن أنس رضى الله عنه.

[9] الترمذي والطبراني والبيهقي عن واثلة بن الأسقع رضى الله عنه

[10] رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه.

[11] ابن عساكر في تاريخ دمشق عن سعد بن مالك.

[12] رواه الإمام أحمد عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه.

[13] أخرجه مسلم  وابن ماجه وأحمد وأبو نعيم في (الحلية) والبيهقي في (الأسماء و الصفات)

[14] رواه البزار والبيهقي عن أنس رضى الله عنه، وابن حبان عن أبي هريرة رضى الله عنه.

[15] أخرجه أبو نعيم في الحلية وذكره أحمد عن أنس رضى الله عنه

ندوة دينية بنادى الزراعين بالأقصر الجمعة 21-11-2014

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid