وحلقتنا اليوم عن سيدةٍ كريمة لها مقامٌ عظيمٌ عند نبينا المفضَّل المكرَّم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم، وهي ذات مواهب متعددة:
تجدها عالمة فذَّة وتجهدها راوية للحديث النبوي، وتجدها زوجة فاضلة، وتجدها مجاهدة في سبيل الله في أشدِّ وأعتى الغزوات التي خاضها الرسول وصحبه الكرام، وتجدها موجهة لكثير من المسلمين والمسلمات، وحاملة لواء الفقه النسائي بعد سيد الرسل والأنبياء، تلكُم هي السيدة عائشة بنت أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهم أجمعين.
السيدة عائشة بنت أبي بكر:
أبوها أبو بكرٍ الصديق أول من آمن بالله عز وجل ورسوله من الرجال، وأمها أم رومان وكانت من الصالحات الصادقات قال فيها صلى الله عليه وسلَّم:
(من أراد أن ينظر إلى حورية من حور الجنة فلينظر إلى أم رومان).
وأختها أسماء ذات النطاقين التي كانت لها الدور المشهود في هجرة النبي صلى الله عليه وسلَّم، وأخواها الذكور:
عبد الله الذي كان أيضاً له دورٌ لا يُنكر في هجرة النبي وصاحبه الصديق، وعبد الرحمن الذي تأخر إسلامه إلى ما بعد غزوة بدر.
وُلدت السيدة عائشة في مكة الكرمة في هذا الجو الإيماني الذي تتحدث عنه رضي الله عنها فتقول:
(لم أرى أبوايَّ إلا وهما يدينان بدين الإسلام).
فلم تشهد جاهلية ولا أحوال أهل الشرك الذين كانوا يفعلونها في الجاهلية، فنشأت نشأةً إسلامية قويةً صادقة، فتتلقَّى القرآن من أبويها، وتتأدب بأدب الإسلام، وتتعلم منهما قواعد الإيمان والأعمال الصالحة التي ينبغي أن يكون عليها أهل الإيمان وساعدها على ذلك أنها كانت صاحبة ذكاءٍ لمَّاح، وكان عندها رغبةً شديدة في طلب العلم، وكان لا يفوتها أن تسأل عن شيئٍ لا تعرفه لتتعرف عليه.
أيضاً كانت رضي الله عنها ذات ذوقٍ رفيع وأدبٍ بديع في الغلمان بالخصال الطيبة والأخلاق الكريمة التي جعلت لها حُظوة عظيمة عند النبي صلى الله عليه وسلَّم، وعند صحبه الكرام أجمعين.
وبعد وفاة زوجة النبي صلى الله عليه وسلَّم البارة التقية السيدة خديجة بنت خُويلد، بدا عليه مظاهر رآها أصحابه لا تستوجب السكوت، لأن خديجة كانت تُعينه على إبلاغ دعوة الله، وكانت تعينه أيضاً في رعاية أولاده في بيته الكريم فدخلت خولة بنت حكيمٍ رضي الله عنها ـ وهذا مشهدٌ يدعونا إلى أن يكون المسلم حريصاً دوماً على مصالح إخوانه المسلمين حتى ولو لم يدعوه إليها.
فعندما رأت حاجة الرسول صلى الله عليه وسلَّم إلى زوجة تؤنسه وتعينه لى أداء رسالته وعلى رعاية أولاده ـ والرجال في العادة يستحون أن يتحدثوا مع بعضهم في هذا الشأن، ولكن النساء يكُنَّ لهُنً مدخلٌ جميلٌ في ذلك ـ فدخلت عليه وقالت: يا رسول الله مالي أراك سائماً بعد وفاة خديجة، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
(ومن لي بمثل خديجة؟ كانت نعم الزوجة).
إن النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد أن هاجر إلى المدينة وهاجر معه أبو بكر وترك كلٍ منهما أهله وأولاده في مكة، وبعد أن بنى المسجد النبوي المبارك واستقرت أحواله في المدينة أرسل زيد بن حارثة ليأتي بأبنائه وزوجته سودة بنت زمعة، وأرسل أبو بكر رضي الله عنه عبد الله بن اُريقط معه، ليأتي بابنه عبد الله ومعه زوجته أم رومان، وابنتاه أسماء وعائشة، فهاجروا جميعاً إلى المدينة واستقروا بها، وبعد أن مكث النبي صلى الله عليه وسلَّم عاماً في المدينة بني دوراً لزوجاته محيطةً بمسجده المبارك، وكانت تُسمَّى بالحجرات ـ حجرات زوجات النبي.
فلما بنى هذه الحجرات طلب من أبي بكرٍ رضي الله عنه أن يتزوج بعائشة، فعرَّف أبو بكرٍ زوجته أم رومان، فأعدَّتها وجهزَّتها وجاءت بنسوة من الأنصار أتقنَّ تجيزها ثم أرسلنها إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلَّم، فكان دخول النبي صلى الله عليه وسلَّم بها بعد الهجرة بعام بعد أن استكملت بنيانها واستوت في شبابها واصبحت مؤهلةً للزواج وأصبحت تعلم ما ينبغي عليها فعله نحو زوجها، وما ينبغي فعله في بيت الزوجية، لأنها بعد ذلك صارت زوجةً مثالية رضي الله عنها وأرضاها.
السيدة عائشة رضي الله عنه كانت لها مكانةً علمية لا تُضارى، يكفي أنها تُعدُ من المحدثين القلائل المجيدين، فقد روت عن الرسول صلى الله عليه وسلَّم صلى الله عليه وسلَّم حوالي ألفين ومائة وسبعين حديثاً صحيحة، ذُكر منها في صحيح البخاري ومسلم حوالي مائتين وتسعين حديثاً.
هذه الأحاديث سمعتها بأذنيها ووعتها بقلبها، وكانت تذكرها ولا تنسى منها حرفاً واحداً، وإلى جانب ذلك حفظت رضي الله عنها القرآن الذي كان ينزل علي النبي وهو في بيتها أو في أي مكانٍ من الجزيرة العربية، فقد خصَّها الله سبحانه وتعالى بميزةٍ يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلَّم:
(عندما ذهبت إليه السيدة أم سلمة زوجته وتقول يا رسول الله: إن زوجاتك يطلبن منك العدل مع عائشة، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة).
،،،،،،،،،،،، وحفظت القرآن الكريم وحفظت بالإضافة ذلك الفقهة الإسلامي الذي طلبه الله عز وجل لإصلاح العبادات ولإتمام الفرائض التي فرضها علينا الله عز وجل، وكانت خير معينة للرسول صلى الله عليه وسلَّم في تفقيه النساء في الأمور الفقهية الخاصة بالنساء.
فقد جاءت إمرأة من الأنصار، والأنصار كانوا كما قال فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
(نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين).
فسألته إمراةٌ منهن عن كيفية الغُسل بعد المحيض، فشرح لها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وقال لها من جملة ما قال:
(تتبعي أثر الدم، فأرادت أن تستزيد، فأخذتها السيدة عائشة رضي الله عنها وقالت: تعالي وأنا أوضِّح لكي ذلك.
فكانت الأمور الخاصة بالنساء تقوم رضي الله عنها بتوضيحها للنساء بجلاء لأنها مثلهن، وتوضِّح لهن ما غاب عنهن من فقه الدين، ولذا قال صلى الله عليه وسلَّم:
(خذوا نصف دينكم عن هذه).
أي الدين الخاص بالنساء كله فقد حملته السيدة عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بذكاء معهود وأمانة علمية فقد كانت لا تروي ولا تقول إلا ما تعرفه، فقد جاءها رجلٌ من المسلمين وسألها عن قضية المسح على الخُفين، فقالت له: إسأل في هذا علياً فإنه كان يسافر مع النبي وهو أعلم بذلك مني.
أنظر إلى هذه الأمانة العلمية فلا تتحدث إلى بما تييقَّن فيه، ولا تدخل في أي أمرٍ خاصٍ بالرجال، وإنما تحترم التخصص الذي خصَّها به رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وكان بيتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلَّم معهدٌ علمي يأتي إليه بعض الصحابة الكرام، ومن بعدهم التابعين وخيار العلماء العاملين يسألونها عن أدقِّ أمور الدين، فتُجيبهم أجمعين بما فقَّهها به الله، وبما تعلمته من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
فكانت مرجعاً للصحابة الكرام في المسائل التي يحتارون فيها ولا يتأكدون من الجواب فيها، لأنها كانت من الحُفَّاظ الذين حفظوا عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أخلاقه وأحواله وأحاديثه وأعماله وكتاب الله عز وجل.
فمنهم من كان يـأتيها يسألها عن عبادة النبي، فتُجيبه بما رأت، ومنهم من كان يسألها عن أخلاق النبي، فترد عليه وتجيبه بما شاهدت من أحواله، ومنهم من يطلب منها أن تشرح له ما تيسر من كتاب الله لأمرٍ إستُغلق عليه في الفهم، فتشرح له ذلك لأن الله آتاها الفهم في كتاب الله والفقه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وجعلها تُفتي في دين الله عز وجل على بصيرة من أمرها، وعلى بيِّنةٍ من نور الإيمان في قلبها.
السيدة عائشة رضي الله عنها تربَّت في بيت أبيها أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وكان أبو بكرٍ على علمٍ بأنساب العرب وكان يُسمَّى “نسابة قريش” لأنه يعلم أنساب قريشٍ بل والعرب جميعاً في الجزيرة العربية، فتلقَّت هذا العلم وهو علم الأنساب والنسب من أبيها أبي بكرٍ رضي الله عنه.
وأبو بكر أيضاً كان عالماً بأشعار العرب في الجاهلية وكان يحفظ منها الأبيات الحكمية، فحفظت عائشة أيضاً لذكائها اللماح الأشعار العربية الحكمية وكانت تتمثَّل بها وتستشهد بها حتى في حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم، وكان النبي صلى الله عليه وسلَّم يعجبه منها ذلك.
أما الطب فقد سألها إبن أختها أسماء عُروة بن الزبير رضي الله عنه، وكان يقول لها يا أمَّاه ـ لأنها أم المؤمنين:
“وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ” (6الأحزاب).
يا أماه أما الحديث فقد حفظتيه من حديث رسول الله، وأما علم الأنساب والشعر فقد تعلمتيه من أبي بكر، ولكن كيف تعلمتي الطب؟
فقالت: يا عُروة كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في آخر حياته يسقم كثيرا ـ أي يمرض كثيراً ـ وكان يأتيه حكماء العرب، فيصفون له الدواء فتعلمت ذلك منهم، أي أنها تعلمت الطب من أطباء لعرب وحكمائهم الذين كانوا يصفون لها الدواء الذي تداوي به إمام الرسل والأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم.
ولذلك كانت السيدة عائشة تُعدُّ جامعة علمية، حتى قال قائلهم:
سمعتُ خطب أبي بكرٍ الصديق وعمر الفاروق وعثمان وعلي فلم أرى أفصح ولا أتقن نطقاً من نُطق عائشة رضي الله عنها.
فقد كانت فصيحةً في النطق لبيبة في الخطابة لأنها عالمة تعلمت في بيت النبوة وإليها وإلى أزواج النبي الإشارة بقول الله عز وجل:
[كان صلى الله عليه وسلَّم يأتي إلى بيتي في ليلتي وينام بجواري ويتدثَّر بلحافي، ثم يقول:
(يا عائشة أتأذنين لي أن أتعبد لربي في هذه الليلة؟).
قالت: فأقول له: إني لأحبك ولا أحب فراقك، ولكني أوثر هواك على هاويا].
فكان يقوم يتعبد لله عز وجل، ولذا كان العباد من الصحابة الكرام والتابعين يسألونها عن عبادته وقيامه في الليل فتجيبهم بما رأت وشاهدت من عباداته صلى الله عليه وسلَّم.
فيسر الله عز وجل عليهم العبادة وأمرهم بتقوى الله على حسب الإستطاعة تطبيقاً لقوله عز شأنه:
“فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ” (16التغابن).
علم الله عز وجل أن هناك مجاهدين وأن هناك مرضى وأن هناك مكافحين في سبيل لقمة العيش، فخفَّف الله عز وجل عنهم وأمرهم عز وجل أن يُيسِّروا على أنفسهم في عبادة الله عز وجل.