لم يقُل بالموعظة الحسنة أولاً، ولكنها الحكمة أولاً، فهي التي تحل المشكل، وهي التي تزيل الخلافات، وهي التي توثق الروابط بين الأفراد والمجتمعات.
والرسول صلى الله عليه وسلَّم كان حكيماً في كل تصرفاته، وكان له في ذلك الشأن العجيب، ويا ليتنا في هذه الأيام في أيام ذكراه صلى الله عليه وسلَّم نطالع بعض سيرة حضرته في التعامل بالحكمة بين الخلق أجمعين.
كان له صلى الله عليه وسلَّم جارٌ يهودي وكان إذا أصبح صباح كل يوم يحمل ما يخرج منه من روث ويضعه على باب بيت النبي صلى الله عليه وسلَّم، فلا يعاتبه ولا يحاسبه ولا يُخبر أصحابه حتى يغاروا له فيقومون بإيذائه.
وفي يومٍ من الأيام لم يجد هذا الذي يجده كل يوم، فسأل عن جاره اليهودي، فقالوا: إنه مريضٌ يا رسول الله، قال: إذاً وجب علينا أن نذهب لعيادته، فذهب إلى عيادته فما كان من الرجل إلا أن أُخذ بهذه الأخلاق الكريمة، وأسلم في الوقت والحين لما رآه من جمال حكمة وأخلاق سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.
نحن في هذه الأيام تقوم حملةٌ شديدة من النساء لعدم تعدد الزوجات، مع أنه لا حل لمشكلات العنوثة في مجتمعنا إلا بتعدد الزوجات، فأين يذهب هؤلاء البنات اللائي لم يتزوجن، والذي يتزوج إثنتين يظل طول عمره في عناء لما يحدث بينهما، ولا يستطيع مهما بذل أن يحل الخلافات التي تحدث بينهما، لكن النبي كان له تسع نساء وكان يعدل بينهن وهم عنده في العدل سواء.
أعطى النبي صلى الله عليه وسلَّم زوجاته في يوم وقد مر عليهن جميعاً لكل واحدةٍ منهن تمرة، ثم جمعهن فقالت إحداهن: يا رسول الله من أحب نساءك إليك؟ قال: صاحبة التمرة، وكلهن صاحبات التمرة، هذه هي الحكمة البالغة التي علمها لنا.
ولذلك قال لنا بين أبنائنا:
(سووا بين أبنائكم حتى في القُبل).
[الألباني عن إبن عباس رضي الله عنهما].
فإذا قبلت هذا فلابد ان تقبل الآخر أمامه، والحب الذي في قلبك لأحدهم لا تُظهره واجعله بينك وبين الله تبارك وتعالى، لكن لابد أن يكونوا جميعاً في البر سواء، لأن أهم ما تورثهم هو محبة بعضهم لبعضهم، أن يخرجوا بعد ما يكبروا ويكونوا أحباء، ويكونوا أودَّاء ويكونوا حريصين على الصلات الطيبة فيما بينهم، وعلى القيام بالحقوق المرعية لأحبابهم وإخوانهم.
لا تفرق بينهم فينقلبون من إخوةٍ إلى أعداء كما نرى الآن في بعض البيئات وبعض الأسر، لأن هذا بسبب عدم حكمة الأب أو عدم حكمة الأم، وعدم إقتدائهم بالرسول صلى الله عليه وسلَّم في هديه.
والله يا أحبة لو درسنا أو سمعنا سيرة النبي في كل شيئ ولا نعمل شيئاً إلا نستحضر حضرته كيف كان يتعامل في هذه المسألة، ما وُجدت خلافات في المجتمع كله، ولغُلقت المحاكم ولم يحدث فيها نزاع، وقد كان ذلك في عصره صلى الله عليه وسلَّم.
فعندما تولى الخلافة أبو الصديق رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلَّم، عيَّن للمسلمين أجمعين قاضياً واحداً هو عمر بن الخطاب، وهو قاضي لكل الدرجات ليس هناك استئناف ولا هناك نقض ولا هناك محكمة إبتدائية ومحكمة شرعية هو قاضي واحد، وكان الراتب يُصرف كل عام، وليس كل شهرٍ كما هو الآن.
وبعد إنقضاء عمر لفترة عمله لمدة عام إستدعاه الخليفة خليفة رسول الله ليعطيه راتبه، فقال لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه: لا أستحق هذا الراتب، قال: ولم؟ قال: لأني طوال هذا العام لم تُعرض عليَّ قضية واحدة.
قضية واحدة بين هؤلاء القوم أجمعين، وتعلمون أنهم كانوا حديثي عهدٍ بالجاهلية، وبينهم حدِّث ما شئت عن العصبية القبلية والفخر بالآباء والأجداد وغيرها من الصفات، لكن هذَّبهم النبي الكريم ورباهم الرؤف الرحيم، وجعلهم إخوةً متحابين، يحلون كل مشاكلهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا يحتاجون إلى الذهاب للقاضي، ولا إلى مرافعات، ولا إلى منازعات بل عاشوا جميعاً إخوةً متحابين متآلفين.
وأنتم تعلمون أنهم لم يدخلوا مدارس أو جامعات، فما بالنا نحن وقد حصل أغلبنا على أعلبى الدرجات العلمية، ولكنه تجده في التعامل مع غيره في أدنى الدرجات الدنيوية، ما هذا؟ وما ذاك؟ أليس لنا قدوةً في هؤلاء الصحابة الكرام؟ ونقتدي بهم في التعلم من سيد الأنام، ونمشي على هديه في التعامل مع زوجاتنا؟
مالذي يجعل هذه الأمة المصغرة الأمة المصرية يكثر الطلاق بين شبابها وفتياتها إلا لجهلهم بدين الله، وعدم تأسِّيهم واقتدائهم بسيدنا رسول الله، وزوجاته أمهات المؤمنين وصحابته الهادين المهديين، مع أن العروسين ربما يكونا معاً من حملة الدكتوراه، ولكن نجد الآن كما قيل في الإحصاءات الرسمية 60 % من حوادث الطلاق في مصر تحدث في السنة الأولى من الزواج، وهم في بداية حياتهم الزوجية، لم يجدوا ناصحاً أميناً ينصحهم، ولم يجدوا من الأهل التوجيه السديد، بل إن الأهل وللأسف يثيرون هذه النزاعات، ويشعلون هذه الشقاقات، ويقولون له ولها: طلقها وسأزوجك غيرها، أتركيه وستتزوجي خيرٌ منه.
ليس بهذا تُعالج الأمور، إن آبائنا وأمهاتنا وكانوا أميين لم يكن عندهم هذا الكم من المشكلات في الطلاق، لأنهم لم يكونوا يتعاملوا مع أبنائهم وبناتهم بما نتعامل به الآن.
كانوا حريصين على المودة والرحمة بين الزوجين، وعلى المعيشة السديدة وعلى أن بيتاً أُقيم في الإسلام لا نسعى إلى هدمه، بل نسعى إلى تثبيت أركانه وتوطيد بنيانه، وكل المشكلات على اختلاف أنواعها لها حلول، هل هناك مشكلة ليس لها حل؟ كل المشكلات لها حلوول، على أن يتنازل هذا، أو تتنازل هذه ويظل الوفاق بين الطرفين.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا أجمعين حسن متابعة حبيب الله ومصطفاه، وأن يرزقنا الإقتداء به في كل أحوالنا في هذه الحياة، وأن يجمعنا أجمعين تحت لواء شفاعته يوم لقاء الله، وأن يحشرنا في زمرته في النعيم أجمعين إن شاء الله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل زاهقاً وهالكاً وارزقنا اجتنابه، اللهم وفقنا أجمعين لفعل الخيرات وعمل الصالحات والتنافس في النوافل والقربات.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال أولادنا وبناتنا، وأحوال إخواننا المسلمين أجمعين، حكاماً ومحكومين ورؤساء ومرؤسين، وأنزل في قلوب ولاة أمورنا الشفقة والعطف والحنان بجموع هذه الأمة يا أكرم الأكرمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات يا أرحم الراحمين.
اللهم اهلك الكافرين بالكافرين، واقض على اليهود الغاصبين واجمع صفوف المسلمين، وأنصرهم على جميع أعدائهم بنصرٍ مبين يا خير الناصرين.