• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

4 يناير 2013 م

خطبة الجمعة_الإسلام دين اليسر

.

شارك الموضوع لمن تحب

**********************************

الحمد لله رب العالمين، ميسِّر الأمور، وباسط العطايا، ومزهق الهم والغم وكل الخطوب. سبحانه .. سبحانه، له الملك وله الحمد، وله تصريف الأمور، وله مقاليد السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أنزل لنا دِيناً سمحاً، يسَّر لنا فيه الطاعات، وسهَّل علينا فيه العبادات، وتوسَّط فيما أمرنا وكلَّفنا به من تشريعات.

وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، شرح الله صدره، وأبان الله أمره، ورفع الله عزَّ وجلَّ ذكره، وجعله رسولاً فاتحاً وخاتماً وجامعاً لشرائع الأولين أجمعين.

اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد، الذي جاء باليُسْر في دعوته،  وبالسَّماحة في شريعته، وبالأخلاق الكريمة بين صفوف أبناء أمَّته، وقال لهم ولنا أجمعين: {يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا}( البخاري ومسلم عن أنس).

صلوات ربي وتسليماته على هذا النبي الكريم، وكل من مشى على هذا المنهج القويم، واستقام على هذا الأمر العظيم إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.

أيها الأخوة جماعة المؤمنين: بَنَى الله عزَّ وجلَّ شرعه الأغرّ، ودينه القيِّم على اليُسر في كل شيء، حتى نستطيع أن نُسميه: (دِينُ اليُسْر). فلم يكلفنا ما يشقٌّ علينا، ولم يكلفنا ما لا طاقة لنا به، ولم يُحملنا ما لا نستطيع حمله من التكليفات الإلهية، وأمرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن نسير على هذا النسق فيما بيننا، نيسِّر للمؤمنين، ونسهِّل الأمر للموحدين – ما دام الأمر لم يخرج عن شرع ربِّ العالمين، وعن سُنَّة سيِّد الأولين والآخرين.

وكان صلى الله عليه وسلم في نفسه، تقول عنه السيدة عائشة رضي الله عنها: {مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ، إِلا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًاً}( البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها).

وكان يقول لرسله ودعاته الذين يبلغون عن حضرته صلى الله عليه وسلم الخلق دين الله: {يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا}( البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنهويقول لهم : {فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ} (صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذي عن أبي هريرة). تيسرون للأمة أمر هذا الدين، حتى يُقبلوا بِحُبٍّ صادق، وإخلاص قصد في كل عمل يتوجهون به إلى ربِّ العالمين. هذا هو أساس الدين.

التشدُّد في الدين

وللأسف ظهر في عصرنا الآن – مع تقدُّم العلم وانتشار الثقافة، وزيادة معرفة الناس بدينهم – انتشار طائفة كبيرة من المتشددين، وجعلوا أنفسهم هم وحدهم الأوصياء على الدِّين، كلامهم هو الحقّ، وكل ما سواهم فكلامه باطل، ولا أعرف من أين أتوا بذلك؟!! ومَن الذي أعطاهم هذه الوصاية؟!! ومَن الذي كتب لهم هذا التوكيل عن البشير النذير؟!!

وإذا وجدنا ما يدعون إليه نجدهم يحرصون على التعسير، ويرفضون التيسير في أيِّ أمر من الأمور التي تتعلق بالمؤمنين، ويزعمون أن هذا فيه إرضاء لله، وحُسن متابعة لحبيب الله ومصطفاه، لأنه يدل على العزيمة القوية الفَتيَّة الصلبة في دين الله عزَّ وجلَّ، بينما هذا لم يكن مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحبه البررة الكرام الأطهار!!

وزاد الأمر سوءاً أنهم جعلوا أنفسهم قضاة، وليسوا دعاة، فيحكمون على هذا بالكفر، ويحكمون على هذا بالشرك، ويحكمون على هذا بأنه سيُخلَّد في جهنم، ويحكمون على هذا بأنه لن يدخل الجنة!! مع أنهم يحفظون قول الله: ﴿ِإِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾ [57الأنعام]. مَن الذي عيَّنهم قضاة في المحكمة الإلهية ولن يحكم فيها يوم القيامة إلا ربُّ البريَّة عزَّ وجلَّ ؟!!

والكُفْرُ حذَّر منه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أشد التحذير، يكفي قوله صلى الله عليه وسلم: {أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ} (البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر). تذهب إلى من قيلت فيه، فإن كان أهلاً لها وإلا رجعت على من قالها. مضمون الحديث: أن من قال لأخيه: (يا كافر)، وكان أخوه مؤمناً موحداً، رجع الكفر عليه، لأنه يتهم مؤمناً بغير حقّ!! الإيمان محله القلب، ولا نستطيع أن نُخرج مؤمناً من الإيمان إلا إذا خرج الإيمان من قلبه وأصبح جاحداً بدين الرحمن عزَّ وجلَّ، وهل هناك من يطلع على قلوب أهل الإيمان حتى يحكم عليهم؟!! أما الأعمال التي يعملها الناس بجوارحهم وأجسامهم وأعضائهم، فإنها ذنوب أو معاصي يغفرها الله عزَّ وجلَّ للعبد إن تاب منها، وقد قال الله لنا أجمعين:

﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [31النور].

ودعانا الله عزَّ وجلَّ إلى الاستكثار من الاستغفار ليمحو الذنوب والأوزار: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾ [10-12نوح].

فإذا لم يتب الإنسان إلى الله فإن الله قد يتوب عليه بابتلاء يخصُّه به في هذه الحياة، بمرض في نفسه، أو بنقص في قوته ورزقه، أو بشيء في ولده، وهذا ما يُسمى البلاء، ويقول فيه إمام الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ} (سنن الترمذي وابن ماجة ومسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه). كلما أذنب ذنباً جاءه بلاء فكفَّر الله به هذا الذنب! ناهيك عن أن الله عزَّ وجلَّ – حتى ولو خرج هذا المؤمن من الدنيا ومات ولم يتب، فقد جعل لنا أجمعين شفاعة الحبيب المحبوب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن هذه الشفاعة: {شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي} (سنن الترمذي وأبو داود وابن ماجة ومسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه).

لم يقل: شفاعتي للصالحين أو للمتقين!! ولكنه خصَّص شفاعته لأهل الكبائر – ولم يقل حتى لأهل الصغائر الذين ماتوا ولم يتوبوا إلى الله عزَّ وجلَّ – لكن القلب استقر فيه الإيمان، وفيه توحيد الرحمن، ولذلك يشفع فيه النبي العدنان صلى الله عليه وسلم. وحتى إذا لم تلحقه شفاعة حضرة النبيِّ .. فأمره مفوَّضٌ إلى الله، إن شاء عفا عنه وغفر له، وإن شاء عذبه، ولا يطلع على ذلك أحد من خلق الله.

تكفير المؤمنين

إذاً ليس لأي مسلم – مهما كان شأنه – أن يُكِّفر مؤمناً بذنبٍ فعله، حتى ولو كان ارتكب كبيرة من الكبائر، حتى ولو قاتل المؤمنين، فقد قال الله عزَّ وجلَّ في المؤمنين: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [9الحجرات]. مع أنهم اقتتلوا سمَّاهم الله مؤمنين، ولم يخلع عنهم اسم الإيمان!!

ولذلك انظر إلى فراسةِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدبِهم الباهر: عندما حارب الإمام عليٌّ رضي الله عنه معاوية بن أبي سفيان لأنه خرج على طاعته، قال بعض أصحاب الإمام عليٍّ في حقِّ أتباع معاوية: (أمشركونَ هُمْ؟ وفى رواية: أكفارٌ هم؟ قالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا – وفى رواية: من الكفر فرُّوا. قِيْلَ: أَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ قالَ: إنَّ المنافقينَ لا يذكرونَ الله إلا قليلاً. قيلَ: فَمَا هُمْ؟ قالَ: إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا) (السنن الكبرى للبيهقي).كما قال الله في القرآن!! إخواننا ظلمونا، إخواننا أساءوا إلينا!! لكنهم ما داموا يقولون (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويُصَلُّون لله، ويصومون لله، ويحتكمون إلى شرع الله، ويعملون بكتاب الله، فكيف لمسلم – مهما كان شأنه – أن يحكم عليهم بغير ذلك؟!  مع أنهم يُقاتلون إخوانهم المؤمنين!! ناهيك عن الكبائر الأخرى.

حكم مرتكب الكبيرة

تعالوا معي إلى حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانظروا في أمره الغريب العجيب مع بعض أصحابه الذين ارتكبوا الكبائر في عصره: جهَّز النبيُّ صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف مقاتل لفتح مكة، وأمر أصحابه أن يكتموا هذا الخبر، فلا يعلم به أهل مكة إلا وهم على أبواب مدينتهم، حتى لا يُكثِرَ فيهم القتل – فهو الرحمة العظمى صلوات ربي وتسليماته عليه – فجاء رجل من خاصة المؤمنين من أهل بدر، واسمه: حاطب بن أبي بلتعة، وكتب كتاباً، وجاء بجارية وقال: ” أوصلي هذا إلى قريش، وإذا أوصلتيه فأنتِ حرَّةٌ لوجه الله عزَّ وجلَّ”.

ووضعت المرأة الكتاب في شعرها – لأن العرب كانوا لا يكشفون امرأة ولا ينقضون شعر رأسها –  ومشت المرأة في اتجاه مكة لتخبرهم بخبر النبيّ، وهذه خيانة عظمى، لأنه يُخبر الأعداء بما دبَّره وقدَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل الوحي من السماء على رسول الله، ويروي هذه الواقعة الإمام علي رضي الله عنه فيقول:

{بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا والزُّبَيْرَ والْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، أي: امرأة – وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا، وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ صَدَقَكُمْ. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. قَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ} (البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه).

عفا عنه صلى الله عليه وسلم وغفر له، ولم يتهمه بالتكفير، ولم يُقم عليه حداً، ولم يُعرضه لقتل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قضية الإيمان موضعها القلب، ولا يطلع على القلب إلا حضرة الرحمن عزَّ وجلَّ، أما الأعمال التي يعملها الإنسان فأمرها مفوضٌ إلى مَنْ يقول للشيء كن فيكون.

شرب الخمر

تعالوا إلى جريمة أخرى من هذه الجرائم: { أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ: اضْرِبُوهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ. قَالَ: لا تَقُولُوا هَكَذَا، لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ } (البخاري وأبو داود والإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه). أي يطلب منهم أن يقولوا له بدلاً من ذلك: هداك الله، أصلح شأنك الله، تاب عليك الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان رحمة مهداة لكل خلق الله، ومَن معه من جنود هذه الرحمة الإلهية من الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين.

وروي أيضاً: {أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لا تَلْعَنُوهُ، فَو َاللَّهِ، مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (البخاري والبيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه). مع أنه يشرب الخمر لأن نفسه سولت له ذلك!! لكن في قلبه حبُّ الله، وفي قلبه حبُّ رسول الله صلوات ربي وتسليماته عليه، فكيف يُحْكَمُ عليه بالكفر؟!

لا يستطيع أهل الإيمان أن يحكموا على أي إنسان بالكفر في هذه الدنيا وهذه الأكوان، إلا إذا أتى بما يخالف ما دخل به في الإيمان: كأن يجحد حضرة الرحمن، أو أن يتحدى الله عزَّ وجلَّ ولا يقيم فرائضه، ويجحد هذه الفرائض – حتى من يترك هذه الفرائض متكاسلاً فله التوبة إلى الله والرجوع إلى الله – لكن الذي يُحكم عليه بالكفر من يجحد هذه الفرائض ويُهَوِّن منها، ويسُبُّ فاعليها، أو يشتم الذين يقومون بها، وشرطه أن يكون قوله يُجمع عليه علماء الأُمة الأنجاب الأقطاب العدول، وأن يكون في حالة كمال وعى، وأن يكون بالغاً عاقلاً، فلو قال قولاً في حالة ذهاب عقله لا يؤاخذ عليه، وإذا كان جاهلاً لا يعلم لا يؤاخَذ على ذلك، بل إن الإمام الشوكاني رضي الله عنه قال:  (من سجد لغير الله جاهلاً فليس مشركاً). لأنه لا يعرف حُكم هذا الأمر، أُعلِّمه أولاً ما ينبغي عليه لله.

لكن لا أسارع بسبِّ الجاهل واتهامه بالكفر وهو لا يعلم ما ينبغي علمه من دين الله، وإن كان شرب خمراً، أو أخذ مُسكراً وغاب عن وعيه، وهَذَى في قوله، لا نؤاخذه على هذا القول، لأنه يهذي بعد فقدان العقل، وإن كان صغيراً لا يُدرك، أو كبيراً وصل به السِّنُ إلى أرذله – وأُصيب بالزهايمر مثلاً – ولا يستطيع أن يسيطر على أفكاره وكلماته، فهذا لا نؤاخذه بأقواله. دين الله عزَّ وجلَّ هو دين التيسير الذي دعانا إليه البشير النذير، وأوصانا صلى الله عليه وسلم أن نسير على ذلك بين المؤمنين، فلا نتهم المؤمنين بأمر يأباه ربُّ العالمين، وينهى عنه سيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، ولا نُعلن أنفسنا وصلاةً على هذا الدين، بل نترك الأمر لله، والقلوب بين يدي الله، والذي يعلم ما فيها ويحاسب فاعليها هو الله جل شأنه.

قال صلى الله عليه وسلم: {الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (الترمذي والبيهقي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما). أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

الخطبة الثانية:

        الحمد لله ربِّ العالمين الذي هدانا بِمنِّه وفضله إلى دينه وكتابه ورسوله وحبيبه. وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، جعل القلوب بيده يقلبها كيف يشاء، ويحركها كيف يشاء، ولا يملك أحد من أمر القلب شيئاً. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، أظهر الحقَّ، وأزهق الباطل، وعلمنا صحيح العلم، وأوصانا بما ينبغي ن نكون عليه أجمعين، حتى تطيب حياتنا في الدنيا، ونسعد عند ربِّ العالمين.

   اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد التقي النقي الوفي، وآله وصحبه أجمعين، وكل من سلك سبيلهم وسار على هديهم إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين يا رب العالمين.

حَقِيقَةُ الفُرْقَةِ فِي الدِّينِ وَعِلاجُهَا

أخي المؤمن الكريم: قد يقول البعض: أصبحنا في حيرة من كثرة الآراء، ومن كثرة المُفتين، ومن كثرة الكاتبين في الصحف، والمتحدثين في الفضائيات، وبعضهم يهاجم بعضاً، وبعضهم قد يتعالى على البعض – بل بعضهم ربما لا يستطيع أن يمسك لسانه فيسبُّ أخيه ويقول فيه بما لا ينبغي أن يقوله!! – مَن نتبع؟

علينا جميعاً جماعة المؤمنين أن نأخذ هذا الميزان لنمشي عليه: لو نظرنا إلى الفُرقة بين التيارات الإسلامية الموجودة الآن، لا نجدها تعصباً لكتاب الله، ولا عصبية لسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن عصبية لآراء رجال قالوها في كتاب الله، أو آراء علماء قالوها في سُنَّة رسول الله.

فتجد العصبية في الحقيقة لرجال من السابقين الذين انتقلوا إلى جوار الله عزَّ وجلَّ. هذا يتعصب للإمام فلان ويتمسك برأيه على أنه الصواب، وهذا يتمسك ويتعصب لرأى الإمام فلان !! ويزعم أنه وحده على الحق وما سواه على الباطل !!!، وهذه ناشئة جدت في هذا العصر لم تكن لدى سلفنا الصالح، فكانت العصبية عندهم فقط لكتاب الله ولسُنَّة رسول الله.

إذا كان الأمر في كتاب الله كانوا يقولون: على العين والرأس، وإذا كان الأمر في سُنَّة رسول الله الصحيحة كانوا يقولون: على العين والرأس، وإذا كان الرأي لفلان كانوا يقولون: هم رجال ونحن رجال، ويقولون كما قال الإمام مالك رضي اله عنه ( وعزاه الغزالي لابن عباس): (كلٌ يؤخذ من كلامه ويُرد إلا صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم)

أي عالم من علماء الأُمَّة نأخذ من كلامه ما يوافق حياتنا، وما يوافق عصرنا، وما لا يوافق حياتنا وعصرنا لا نأخذ به، ما دام هذا الكلام ليس مؤيداً بكتاب الله أو بسُنة رسول الله، بل قولاً قاله من عنده في تفسير آية، أو في تأويل حديث، فآخذ برأي آخر في تفسير الآية وتأويل الحديث يكون مناسباً لنفسي وأهلي وعصري.

وإذا كان هذا الرأي رأياً وحيداً فريداً وأجمع كمٌّ كبيرٌ من علماء المسلمين على رأى آخر، ما الذي ينبغي أن أصنعه؟ ينبغي أن أتبع ما أجمع عليه المؤمنون، لقوله صلى الله عليه وسلم: {يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ} (سنن الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما).

الذي اتفق عليه الجماعة من صحابة رسول الله، والتابعين، وتابعي التابعين، والأئمة أصحاب المذاهب المعتبرة في الدين، وغيرهم من العلماء إلى يومنا هذا هو الأولى بالصواب، وهو الأظهر لنا، والذي ينبغي لنا أن نتبعه لأن: (يد الله مع الجماعة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا يَجْمَعُ اللَّهُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلالَةِ أَبَدًا} (المستدرك عن عبد الله بن عمر ، وفى رواية أخرى عن أبي بَصْرة الغِفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { سَألْتُ رَبِّي عزَّ وجلَّ أَرْبَعاً، أعْطَانِي ثَلاثاً وَمَنَعَنِي وَاحِدَةٍ. سألْتُ الله عزَّ وجلَّ أَنْ لاَ تَجْتِمَعَ أُمَّتِي عَلى ضَلاَلَةٍ، أعْطَانِيْهَا. وسألت الله عزَّ وجلَّ أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها، وَسألْتُ الله عزَّ وجلَّ أَنْ لا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً، أعْطَانِيْهَا، وسألْتُ الله عزَّ وجلَّ أَنْ لاَ يَلْبِسْهُمْ شِيَعاً وَيُذِيْقَ بَعْضَهُمْ بٌّاسَ بَعْضٍ فَمَنَعْنِيْهَا} رواه أحمد والطبراني)

إذا اجتمع رأى علماء الأمة على رأى فهو الصواب لا مراء، فلا أترك رأى الجماعة وأذهب إلى رأى منفرد، وأستمسك به وأقول هذا الصواب وأهجر رأى الجماعة!!

كانت الأُمة في عزة عندما كان رأى الجماعة هو المـُقَدَّم، وهو المـُتحكم في تشريعاتنا فيما بيننا، وهو الحاكم لتصرفاتنا وسلوكياتنا نحو بعضنا ونحو ربنا عزَّ وجلَّ، فلما ذهبت الآراء الفردية واعتزَّ بها أقوام، ونصرها فئات، وتعصَّب لها جماعات، تشتتت الأُمة وأصبحنا جماعات بعد أن كنا جماعة واحدة، لماذا جماعات؟

هؤلاء يتعصبون لرأى فلان، وهؤلاء يتعصبون لرأى فلان، لو تركنا فلاناً وفلان، ورجعنا مباشرة إلى القرآن وسُنَّة النبي العدنان هل يكون هناك خلاف بين المسلمين؟! لماذا نتعصب لآراء العلماء وهي آراء؟!! وعندنا دين الله، كتاب الله، وسُنَّة رسول الله واضحة جلية!!

ومن حكمة الله عزَّ وجلَّ أنه جعل القرآن ميسراً لجميع المؤمنين حتى الأُميِّين، يستطيع كل مؤمن يقرأ كتاب الله أن يفهم مراد الله، وأن يستخرج الذي يريده من تشريعات من كتاب الله، لا يحتاج بعد ذلك إلا إلى توجيه من العلماء العاملين وأهل الفقه الناجين ليوجهوه إلى الوجهة الصواب.

فهلمُّوا جميعاً إلى القرآن،  نجعل القرآن هو الحجة البالغة للخلق أجمعين، وإلى سُنة النبي العدنان نجعلها وحدها هي المذكرة التفسيرية لكلام رب العالمين. وأقوال العلماء أجمعين ما كان منها يلائم عصرنا، واتفق عليه أئمة الأُمة في الدين، فنحن مع إجماع المسلمين، أما الآراء الشاذة فيجب أن نضرب عنها صفحاً أجمعين.

نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، وأن يرينا الباطل زاهقاً ويرزقنا اجتنابه.

اللهم وفقنا لفعل الخيرات، وعمل الصالحات، والمحافظة على الجمعة والجماعات، واحفظ هذه الأمة من الفرقة والشتات، واجعلنا جميعاً تحت لواء القرآن، ناهجين على سنة حبيبك يا رحمن. واجعلنا دائماً وأبداً في خير حال، وانصرنا على أنفسنا نصراً عزيزاً، ويسِّر لنا الخيرات، واجعلها مباركات، واغننا بغناك عن جميع من سواك، واجعل بلدنا بلداً آمناً طيّباً، تخصه بالخيرات، وتتنزَّل عليه بالبركات، وتجعل أهله جميعاً في ألفة ومودة ومحبة إلى يوم الميقات.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا ربَّ العالمين.

عباد الله: اتقوا الله، (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (90النحل).

اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(خطبة الجمعة – المعادي – 22من صفر 1433هـ الموافق 4/1/2013م)

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid