الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان وأعلى شأنه بين الأكوان، فجعله مُكرماً في كل وقتٍ وآن، له التكريم في الدنيا وله السعادة إن إتقى الله يوم لقاء حضرة الرحمن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(أول ما خلق الله العقل، فقال: أقبل فأقبل، فقال: وعزتي وجلالي لأُثيبنَّ بك ولأعاقبنَّ بك).
سبحان من جعل العقل للإنسان ميزانٌ وجعله به حفظ التوازن في الحياة الدنيا وبالفكر السديد يصل به الإنسان إلى رضوان حضرة الرحمن.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أعلى الناس في الكون كله من بدءه إلى نهايته زكاءاً وفطنةً وعقلا، وأكرمهم عند الله تبارك وتعالى نقلا.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد الذي جعلته لنا في الدنيا نبياً وإماماً، وجعلته لنا في الآخرة شفيعاً لنا يوم الزحام.
صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله الأعلام، وعلى صحابته الكرام، وعلى كل من اهتدى بهديه ومشى على سنته إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم بفضلك يا أكرم الأكرمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
خلق الله تبارك وتعالى الخلق وهو أعلم بهم، وكرَّم الإنسان على كل ما سواه من خلق الله:
” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ ” (70الإسراء).
وكان لهذا التكريم أسرارٌ لا يعلم حصرها ولا مداها إلا الله، ومن جملتها ومن أهمها: أن الله عز وجل خصَّ الإنسان بالعقل السديد الذي إذا اهتدى بالشرع الرشيد،كان الإنسان موفقاً في دنياه، سعيداً في أُخراه.
وحرص الله تبارك وتعالى من أجل ذلك على سلامة العقل لكل إنسان، حتى تنتهي حياته الدنيا بأمان ولا يفقد عقله لحظةً ويذهب به إلى زوايا النسيان.
ولذا جعل الله عز وجل لنا في القرآن روشتةً إلهية تجعل الإنسان محتفظاً بقواه العقلية حتى يلقى الله، لا يُصيبه داء الخرف، ولا يُصيبه داء الزهايمر ولو قليل، لأنه عمل بروشتة الجليل تبارك وتعالى، فما هذه الروشتة في كتاب الله؟
إذا أدام الإنسان ذكر الله، إن كان قاعداً أو ماشياً أو جالساً أو نائماً كما ذكرت الآيات الكريمة، فإن ذكر الله هو الوحيد الذي يحافظ على خلايا المـُخ والجهاز العصبي من التآكل، ويجعلها محفوظة بسر الحفيظ تبارك وتعالى.
وأعلى الذكر شأناً هو تلاوة كتاب الله، لذلك كان سلفنا الصالح رضوان الله تبارك وتعالى يرددون، والواقع يشهد لما يقولون:
[من يُدم على تلاوة كتاب الله مهما أصابه الهِرم، ومهما بلغ سنه في الكبر، ومهما ضعُفت الأعضاء، ومهما انتابت الجسم العلل والأمراض، يظل عقله قوياً مُحكماً سديداً إلى أن يلقى الله عز وجل].
لأن ذكر الله تبارك وتعالى يُكسب الإنسان صفةَ أهل الجنة، وأهل الجنة يقول فيهم صلوات ربي وتسليماته عليه:
يظلون في شبابٍ على الدوام، فإذا داوم الإنسان علىى ذكر مولاه وخاصةً تلاوة كتاب الله بتدبر وجودة فهم، يظل ذهنه ثاقب وفكره سديد ورأيه رشيد حتى يخرج من الحياة الدنيا وهو يُردد: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله بكامل وعيه.
الدواء الثاني:
والذي يُقوِّي هذا الكائن الإلهي العجيب هو التفكُّر في مخلوقات الله تبارك وتعالى، فإن الله جعل للعقل عبادةً خاصةً به، كلفنا بها في كتاب الله، وأمرنا بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وجعل لها مقرراتٌ إلهية، هذه العبادة هي التفكُّر، ليس التفكر في الأمور المعيشية، ولا في المشكلات الدنيوية، ولا في الهموم التي غلبت على حياتنا الأرضية، لأن كل هذه مقضية بقول رب البرية:
” وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ” (3الطلاق).
ما دام قد اتقَّى الله سبحانه وتعالى لا يحمل أي همٍّ لأي مشكلة من مشاكل الحياة الدنيا، لأن الله يفرجها بكرمه ولُطفه تبارك وتعالى، وفي ماذا يُفكِّر؟
يفكر في كتابين: وضعهما لنا الله تبارك وتعالى في قرآنه الكريم:
الكتاب الأول:
يُفكِّر في الكون الذي حولنا، ويتدبر في هذه الكائنات وهذه المصنوعات، وحدود المنهج افلهي في هذا الكتاب، ألاَّ يتجاوز العرش، فمن العرش إلى الأرض يفكر فيه وليس له شـأنٌ بعد ذلك لأنه خلق خالقه وباريه.
قال صلى الله عليه وسلَّم في هذا الكتاب:
(تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله فتهلكوا)[3].
يلفتُ نظره إلى ما في نفسي من عبرٍ إلهية ومن آياتٍ ربانية لو تدبر الإنسان في واحدة منها دهره كله ما كفت، فإذا تدبر في العين أو في الأُذن أو فيما فيه من أعضاء أو ما فيه من أنسجة، أو ما فيه من أوردة وشرايين وغيرها، يرى قُدرة رب العالمين التي لا تُحد، وإعجازه الذي لم يصل إليه إلى يومنا أحد، فيزداد إيمانه بمولاه، ويكون دائماً وأبداً حريصاً على قُربه ورضاه.
ولذلك قال حبيبينا صلى الله عليه وسلَّم:
(تفكُّر ساعة ـ وكلمة ساعة في الحديث النبوي يعني لحظة ـ تفكُّر ساعة يعدل عبادة سنة).[4]
يساوي عبادة سنة من العبادات النفلية، حتى قال صلى الله عليه وسلَّم في معرض التفاضل للنوافل التي نتقرب بها إلى حضرة الله:
(لا عبادة كالتفكر).
[شُعب الإيمان عن علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه]
لا عبادة نفلية كعبادة التفكر لأنها عبادة الأنبياء والمرسلين، فقد كان صلى الله عليه وسلَّم قبل بعثته يخرج إلى غار حراء، ويقف أمامه ـ فما كانت عبادته؟
قالوا: كان يقف ويتفكَّر في مخلوقات الله تبارك وتعالى، وهكذا علم صحبه الكرام.
فقد ذهبت طائفة من طوائف الخوارج الذين كانوا حريصين على الطاعات النفلية من قيام الليل وصيام النهار إلى منزل إبي الدرداء، يسألون عن عبادته، فسألوا زوجته لأنه لم يكن هناك، فقالت لهم: لم تكن عبادة أبي الدرداء كعبادتكم وإنما كان يجلس يتفكَّر.
كانت عبادته الفكر وفيه يقول صلى الله عليه وسلَّم:
(عُويمر حكيم أمتي).
فلما قصَّت له ما دار، فقال:
[عجبتُ للحمقى كيف يعيبون على الأكياس نومهم وفطرهم؟ ولذرةٍ من تقوى من أعمال القلوب، خيرٌ من أمثال الجبال عبادةً من المغترين].
كانت عبادتهم التفكر والتدبر في خلق الله لأن الله جمع الحُسنيين فقال لنا في كتاب الله:
فلو انشغل الإنسان بهذه الروشتة الربانية وحافظ على أركانها القرآنية يظلُّ طوال حياته وعقله في حفظ الله وصيانته لا يحتاج إلى علاج، ولا يحتاج إلى تعديل ميزاج، ولكنه يظل على حالته حتى يلقى الله في ثباته ويدخل في قول الله:
(التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له).
أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الذي أكرمنا بالهُدى واليقين وجعلنا من عباده المسلمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ له الحمد وله المـُلك وهو على كل شيئٍ قدير.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله الطيبين، وصحابته المباركين وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين آمين آمين يا رب العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
كان من عناية رب العزة تبارك وتعالى بالإنسان أن نهاه عن أي شيئٍ يستر عقله أو يُغيبه عن الوعي، حتى يظل إنساناً مكرماً على الدوام، فنهى الإسلام كل مسلم عن كل ما يُسكر، ويُسكر يعني يُغيِّب العقل، وقال في ذلك نبينا صلوات ربي وتسليماته عليه:
أي شيئٍ يُغيِّب العقل عن الوعي وعن القيام بوظيفته التي خلقه الله تبارك وتعالى من أجلها فهو حرامٌ في نص كتاب الله، وفي بيان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
أول ذلك الخمر وإن تفاوت الناس في تسميتها بأسماءٍ مختلفةً ليُحللونها، وقد قال عنهم قبل ألفٍ وأربعمائة عام سيد الأنام صلى الله عليه وسلَّم:
(سيكون في أمتي أُناسٌ يستحلِّون الخمر بتسميتها بغير أسمائها، ويظنون أنهم يخادعون الله ورسوله، وما يخدعون إلا أنفسهم وهم لا يشعرون)
وأي شيئٍ يُسكر فهو خمر حتى ولو كان لا يسكر إلا بعد أن شرب منه شيئاً كثيرا:
(ما أسكر كثيره فقليله حرام).
وسبحان الله من يدعون العلم والمدنية من أهل أمريكا وأوروبا، حاولوا المحاولات المستميتة أن يقضوا على هذا الوباء بعد أن أكد لهم العلم الذي يعتبرونه إمامهم، أضرار الخمر وشرورها أن يقضوا على هذه الآفات، ولكنهم لم يستطيعوا.
في عام 1917 رصدت أمريكا خُطة أربع سنوات بمبالغ طائلة للقضاء على الخمر وإنقضت السنوات وفشلت الخُطة ولم يستطيعوا القضاء عليها.
لكن النبي صلى الله عليه وسلَّم المؤيد من ربه الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوُحى إستطاع أن يقضي عليها في لحظات، لقد أنزل الله تبارك وتعالى تحريمها على العرب، وكانوا مولعين بها.
والنبي كان يعلم علم اليقين أنه لم تقوم قائمة للدولة إلا بتركها ولن يكون الرجال أشداء أقوياء ينفذون المهام إلا إذا إمتنعوا عن شربها، فأنزل الله تبارك وتعالى:
فتركها جزءٌ من المسلمين وتعلل الباقي بأن الله حلل تجارتها في الآية، وبعد ذلك إذا برجُلٍ منهم يُصلي إماماً بالمسلمين، وكان حافظاً للقرآن وقرأ في الصلاة: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، فكان خطئاً لا يُغتفر لأنه خطأ توحيدي في توحيد الله تبارك وتعالى، فأنزل الله تعالى قوله سبحانه وتعالى:
” لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ” (43النساء).
أي لا تذهبوا إلى المسجد لأداء الصلاة إلا إذا تأكدت أن الخمر ليس لها تأثيرٌ على عقلك ولا على كل أعضاء جسمك.
ولما كانت الصلوات متتاليات، فكان من الصعب شربها بين هذه الصلوات، ثم جاء سيدنا عمر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله سل الله تبارك وتعالى أن يُبين لنا بياناً شافياً في الخمر، فأنزل الله تبارك وتعالى:
نظروا إلى سياق الآية جمع الله فيها الخمر والميسر وهو لعب القمار، والأنصاب وهي الآلهة التي تُصنع من الحجارة ويعبدونها والأزلام وهي الآلهة التي تُصنع من الخشب ويعبدونها، وأمر الله باجتناب الجميع ولم يقُل: فاجتنبوهم، وإنما قال: فاجتنبوه ـ كأن من يؤدي بأي واحدة من الأربع وقع في هذا الحذر الذي حذره تبارك وتعالى في القرآن.
يقول سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه:
[كنتُ واقفاً عند أبي طلحة ـ زوج أُمه ـ ومعه نفرٌ من الأنصار يشربون الخمر، فلما وصلتهم الآية قالوا: آن يا رب إنتهينا يا رب].
وكان الرجل منهم قد رفع الكوب إلى فيه فلم يدنِه من فيه، وسكبوه على الأرض وأخرج المسلمون كل ما عندهم من جرار الخمر، وأراقوها في الشوارع، قيل: حتى غاصت الشوارع من كثرة نزول الخمر فيها لأن المسلمين انتهوا عندما نهاهم الله تبارك وتعالى عنها.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين ـ يا خير خلفٍ لخير سلفٍ ـ ما بال هذه الظاهرة قد ظهرت الآن بيننا جماعة المسلمين؟ وقد يتعلل البعض بأنه يجلس على المائدة ولا يشرب، مع قول النبي صلى الله عليه وسلَّم:
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُشرب عليها الخمر).[7]
لا ينبغي لمؤمن أن يجلس على مائدة يُشرب فيه الخمر، أو في عُرسٍ يدار فيه الخمر، أو يحمل الخمر فإن الله لعن في الخمر كما قال النبي:
(لعن الله في الخمرة عاصرها ومعتصرها وبائعها والمبتاعة إليه، وحاملها والمحمولة إليه).[8]
كل من شارك بأي سهمٍ في هؤلاء فقد دخل في لعنة الله نسأل الله لنا الحفظ والسداد.
ويشترك مع الخمر وهو الجُرم الأكبر في عصرنا وبسببه معظم مشاكل حياتنا الحوادث التي تحدث في طرقاتنا والمشاكل التي لا عد لها والتي تحدث في معظم بيوتنا، والقتل الذي يحدث بلا سببٍ في شوارعنا وأسواقنا، معظم ذلك لأنها إنتشرت في بلادنا وكان من هذا تخطيط أعدائنا لتغييبينا عن عقولنا: المخدرات والمسكرات التي تفنن الناس وخاصة الشباب في أصنافها.
حتى أننا نجد تزاحماً شديداً على شراء أدوية البرد، وأدوية العلاج من السعال لأنها فيها بعض المواد المهدئة المخدرة، حتى أن بعض المستشفيات لا يجدون المورفين المسكِّن، لأن الشباب يشتريه ويحقن به نفسه ليغيب عن وعيه ويفقد إحساسه، ما هذا الداء الوبيل الذي استشرى في مجتمعاتنا؟
وقد حسب الجهاز المركزي ما يُنفق في شراء المخدرات في بلادنا فوجده يزيد عن الخمسين ملياراً من الجنيهات، تُصرف في تغييب العقول وإبعادها عن حضرة الله، وإبعادها من الطبيعة السوية التي أمرنا الله عز وجل أن نحافظ عليها.
أول شيئٍ يجب أن يحفظه المسلم في نفسه:
أن يحفظ قواه العقلية، وأن يجاهد أن تظلَّ كما هي سوية حتى يلقى رب البرية تبارك وتعالى.
علينا جماعة المؤمنين حملة هذا الدين أن نقوم جميعاً بحملة توعية للمحيطين بنا برفق ولين حتى نُنقي مجتمعنا من هذا الداء الوبيل، وهذا الشر الذي ليس له حدود.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يرُدَّ شبابنا ورجالنا إلى صوابهم، وأن يمتعنا بعقولنا وأسماعنا وأبصارنا وأعضائنا ما حيينا، وأن يُرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يُرينا الباطل زاهقاً وهالكاً ويرزقنا اجتنابه.
اللهم أحينا في عافية وأمتنا في عافية، وأجعلنا يوم القيامة من الفرقة الناجية.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات يا أرحم الراحمين.
اللهم طهِّر أرض مصر كلها من القتلة والمروعين والفاسدين، واجعلها بلدة أمنٍ وأمانٍ لنا وللخلق أجمعين، وكثِّر لنا فيها الخيرات المباركات حتى تغنينا بها من مساعدات الآخرين.
اللهم ولي أمورنا خيارنا، ولا تولي أمورنا شرارنا، وأصلح أئمتنا وحكامنا، وأجعلهم بكتابك عاملين وبسنة نبيك آخذين، وأحطهم بالبطانة الصالحة على الدوام يا أكرم الأكرمين.
أذكروا الله يذكركم واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.
) [1] لمّا خلق الله العقل قال له: أقْبِل فأقْبَلَ ، ثمّ قال له: أدْبِر فَأَدْبَرَ، قال: وعِزَّتي وجلالي ما خلقْتُ خلْقًا أحبَّ إليّ منك، بك أُعطي ، وبك آخُذ). [الطبراني عن أبي أُمامة وأبي هريرة].