Sermon Details
الحمد لله رب العالمين، يُحق الحق ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، الصادق الوعد الأمين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وأجزه عنا خير الجزاء، وبلغه درجة الوسيلة في الجنة، واجعلنا معه من رفقائه أجمعين، آمين يا رب العالمين.
أيها الأحبة:
نرى شكوى واحدة متكررة بين أغلب الناس في زماننا هذا، إذا كان دخله من المال كثير، لا يكفي، وإذا كان دخله من المال قليل لا يُوفي، وإذا كان له بدل العمل عملين ينتقل بين هذا وذاك، يجد كذلك أن الأجور لا توفي، لماذا ذلك؟ ومالذي أوقعنا في ذلك؟
أسباب كثيرة نكتفي منها بثلاثة اليوم، نحكيها باقتضاب حتى لا نطيل عليكم.
السبب الأول:
أن المال هذا لهذه الأسباب الثلاثة أُنتزعت منه البركة، والبركة هي الزيادة والنمو والدعم الذي يجعله الله عز وجل في المال الحلال، فإذا لم يكن المال من حلال نزع الله منه البركة، فلا يكفي ولا يُوفي مهما علا شأنه، ومهما إرتفع قدره، ومهما ضخُم رصيده، فإنه لابد يوماً ينتهي وينكشف صاحبه.
السبب الأول في ذلك هو إقتطاع حقوق المسلمين بغير حق، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(من إقتطع مال إمرؤٍ مسلمٍ بغير حقٍ، حرم الله عليه الجنة، وأدخله النار).
[رواه مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه].
لأن لكل مسلمٍ عندك حقوق، وينبغي عليك أن تُؤدي إليه حقوقه:
-
– ويحدث ذلك في الميراث، يحرم الورثة بعضهم من نصيبه في الميراث، والميراث أحل الحلال.
-
– ويحدث ذلك في البيع والشراء، بأنني لا أُوفي من يشتري مني حقه في الكيل أو في الميزان أو في السعر الذي يُرضي الرحمن، أستغل جهله بالسعر، فأضع له سعراً مرتفعاً لا يوازي السعر الحقيقي.
-
– ويدخل في ذلك أيضاً باب الرشوة الذي زاد عن الحد في هذا الزمان:
كل موظفٍ في أي مكان يأخذ أجره من عملة الذي يُؤديه في وظيفته، لكن أُبتلينا في هذا الزمان أن من بيده خدماتٌ للناس، لا يُؤدي الخدمة إلا أخذ من صاحب الخدمة مالاً زائداً عن أجره الذي يأخذه من وظيفته، قدراً قد يكون فيه ظُلم فاحش، لأن صاحب الخدمة مضطرٌ إليها، ولا يجد سبيلاً إلاَّ ذلك، فيستغل حاجته إلى الخدمة، ويزيد له في الرشوة أضعافاً مضاعفة، وهذا مال حرام حرمه الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلَّم.
-
– ويدخل في ذلك كل مسئول في أي مصلحة حكومية، يستغل المصلحة لحساباته الشخصية، وينتفع بها وأسرته إنتفاعات ذاتيه، وأنظر معي إلى عُظماء الإسلام الذين كان في عهدهم سلامٌ وأمنٌ ووئام.
جاء الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسكاً من البحرين إلى بيت مال المسلمين، فقال: أريد إمرأةً تجيد الميزان، تزن هذا المسك حتى أُوزعه على جموع المسلمين، فقالت إمرأته عاتكة رضي الله عنها: أنا أُجيد الوزن، قال: لكنك إذا وزنتي بيديك وضعتي يديك على رقبتك أو على جزءٍ من جسمك، فتنتفعي به دون سائر المسلمين، قالت: وهل هذا إنتفاع؟ قال: نعم وهل يُنتفع بالمسك إلا بريحه؟
وجاءت مرةً أُخرى وقالت أريد أن آكل حلوى نوعها كذا، قال: ليس معي ـ وهو خليفة المسلمين ـ قالت: لقد إدخرت المبلغ الذي تشتري به الحلوى من نفقات البيت، قال: كم هو؟ فأخبرته، فأمر وزير ماليته أن يقتطع من راتبه مثل هذا الأجر، حتى لا يأكل حلوى لا يأكل منها جموع المسلمين.
ولعلك تقول: هذا في زمن الخلفاء الراشدين، هذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يجلس مع بعض المسئولين في دولته يتناقشون في مسائل الرعية، وأوقدوا شمعة تضيئ لهم، وعندما إنتهى حديثهم عن الرعية وأخذوا يتحدثون في أمورٍ شخصية، قام عمر فأطفأ الشمعة، فقال له الرجل: لم أطفاتها؟ قال: هذا مال المسلمين، ولا يحق لنا أن نستخدمه إلا لمنفعة المسلمين.
ولذلك في عهده جمع الزكاة فحلَّت كل مشكلات المسلمين في عصره، من زواج للشباب، من تمهيدٍ للطرق، من عملٍ دور ضيافة مجانية على امتداد الطرق، من تعليم الناس جميعاً القراءة والكتابة بدون أجر، ولما إنتهى من ذلك، جاءه خازن بيت المال، وقال له: ما زال عندنا مال، قال: إشتري به حباً وانثره على ظهور الجبال، لتأكل منه الطيور، لتعلم أن عدل الإسلام يشمل حتى الطيور في أكنانها.
كانوا هكذا في أموالهم، مابالك الآن تمر على أي موقعٍ حكومي تجد الأنوار والمراوح طوال الليل عاملة، لمن تضيئ؟ ولمن تُروِّح؟
لا أحدٌ يبحث ولا أحدٌ يسأل، ناهيك عن المسائل الشخصية التي لا أحب الخوض فيها، وأنتم تعلمونها جميعاً، ويظن من يفعل ذلك أنه رجلٌ زكي ألمعي، وينسي قول النبي:
(إن الرجل ليرفع اللقمة الحرام في فمه، وتنزل إلى جوفه، لا يقبل الله منه عملاً أربعين يوماً).
[رواه الديلمي عن ابن مسعود رضي الله عنه].
وقال صلى الله عليه وسلَّم:
(يرفع الرجل يديه بالدعاء ويقول: يا رب ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وقد غُذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له).
وفي رواية:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى: “يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا”، وَقَالَ تَعَالَى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ” ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟).
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم: 1015].
أين مصير هذا؟ قال صلى الله عليه وسلَّم:
(كل لحمٍ ـ أو كل جسمٍ ـ نبت من سُحتٍ ـ أي من حرامٍ ـ فالنار أولى به).
[عن كعب بن عجرة رضي الله ورواه الترمذي].
أو كما قال:
أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنفع قائلها في الدنيا، وترفع قدره يوم الدين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أول من حمل لواء العدالة بين الخلق أجمعين، وجعل الناس متساوين كأسنان المشط.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، وآله الطيبين، وصحابته المباركين، وكل من مشى على هديه إلى يوم الدين.
السبب الثاني يا جماعة المؤمنين:
1- وهو سببٌ يقع فيه جمعٌ كثيرٌ من المسلمين، أن يكون في عمل ويُقصر في هذا العمل، وإذا سُئل يقول: على قدِّ فلوسهم باشتغل ـ أنت متعاقد، وإذا لم يُعجبك هذا العقد فاتركه وتحول إلى غيره.
-
– وكذلك فئة الصناع، يذهب إليه الإنسان لإصلاح عُطلٍ في سيارته، ويكون العطل يساوي عشر جنيهات مثلاً، يقول له: العطل يكلف مائتين جنيه أو ثلاثمائة جنيهاً، لماذا يا أخي هذا الظلم؟