الحمد لله ربِّ العالمين، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، بيده الخير وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويعزُّ من يشاء ويذل من يشاء، له التصريف المطلق، والحكم النافذ، والأمر القاطع في مُلكه وملكوته، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليله، إمام الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، والشفيع الأعظم للخلائق أجمعين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، والقائد الحق بالحق، والهادي إلى الصراط المستقيم. صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وكل من دعا بدعوته إلى يوم الدين. أما بعد … فيا أيها الأخوة في الله والأحباب في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
تدبرت لحظة في ما ورد في حادثة الإسراء والمعراج، ونظرت إلى ما نحن فيه في مجتمعنا من علل وأمراض، فوجدت الحكيم الأعظم صلى الله عليه وسلَّم قد وضع يده على الداء وشخص له الدواء الذي يمنح المجتمع كله العافية والرخاء إذا مشى على نهج حبيب الله ومصطفاه صلَّى الله عليه وسلَّم. وقد أشار إلى ذلك صلَّى الله عليه وسلَّم بإشارات حكيمة يعيها أولي الألباب، ويفقهها الأحباب، لأنها أمثال بسيطة وسهلة ليست غامضة على البُسطاء، ولا معقدة لا يعقلها إلا الفلاسفة والحكماء، بل أمثال ضربها لنا يعيها كل مسلم عادي.
من هذه الأمثال مَثَلٌ واحد نأخذه على سبيل العظة والعبرة؛ ونطبق عليه أحوالنا، ونقيس به أعمالنا وأفعالنا، ونتأسى بهديه في حياتنا، لعل الله عزَّ وجلَّ ينفعنا جميعاً بديننا في حياتنا ومماتنا بإذن الله، فقد ورد عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنه: {أَتَى عَلَى رَجُلٍ قدْ جَمَعَ حُزْمَةً عَظِيمَةً لاَ يَسْتَطِيعُ حَمْلَهَا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَزيدَ عَلَيهَا. قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هذَا؟ قَالَ: هذَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِكَ عَلَيْهِ أَمَانَةُ النَّاسِ لاَ يَسْتَطِيعُ أَدَاءَهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا} [2].
إن الله عزَّت قدرته وجلَّت حكمته جعل المبدأ العام لجميع الأنام، للخاص والعام، هو قوله عزَّ شأنه: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ (286البقرة)، لم يكلف أحداً في الوجود إلا على قدر طاقته، وهو عزَّ وجلَّ أعلم بقواه وقدرته وحقيقته، ويحمل الإنسان على قدر القوى التي وهبها له الرحمن، وإذا زاد في تكليفه زاد في عطائه، لأنه عزَّ وجلَّ حكم عدل لطيف خبير، جعل القاعدة الإلهية لجميع البشر: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ (46فصلت) …
فخلقك في الدنيا وكلّفك ببنين وبنات على قدر ما تتحمل، إن كنت تتحمل البنين وهبهم لك وأعانك على ذلك، وإن كنت تتحمل البنات وهبهن لك وأعانك على ذلك، وإن كنت تتحمل البنين والبنات وهبهم جميعاً لك وأعانك على ذلك، وجعل لك من الأرزاق التي قدّرها قبل الخلق وفيها قال صلَّى الله عليه وسلَّم: { إن الله خلق الخلق وقدَّر الأرزاق قبل خلق آدم بألفي عام }[3]، قدَّر الأرزاق وانتهى منها على أن تسير فيها على أمر الله، وشرع الله الذي بينه في كتابه جلَّ وعلا حيث قال في شأنكم: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ (67الفرقان).
والمنهج الوسط هو شرع الله، وكتاب الله، وسنة رسول الله، فمن حاد عن الشرع لهواه ضاقت به الأرزاق، ولم يتحمله ما قُدِّر له من أقوات، ويريد أن ينفذ ما في هواه فيعجز رصيده من الرزق عن تنفيذ ما يريده لأنه مخالف لشرع الله، فيحيد عن الطريق المستقيم؛ تارة يغش، وتارة يسرق، وتارة يكذب، وتارة ينصب، وتارة يتحايل، وتارة يزوغ، وتارة يروغ لأنه يريد ما لا يريده الله عزَّ وجلَّ له ولأولاده وبنيه، فقد قدّر الله عزَّ وجلَّ في الرزق، على سبيل المثال قوت الأجسام وبيَّنه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في خير الكلام وقال: { بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكْلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ }[4].
فجعل الغذاء دواء لتسيير هذا الجسم بأمر خالق الأرض والسماء، فإذا زاد عن الحد تعبت أجهزة الهضم وزاد نصيب الإنسان في دمه من غذائه، فيتعب ويمرض ويطلب العلاج، وقد يكون قد استدان ليأكل ما ليس الجسم في حاجة إليه!!، وقد يستدين أيضاً ليتعالج من مرض جلبه إسرافه عليه!!، فلو اختار طريق السماء ما احتاج أن يمد يده إلى الوسطاء.
ورد أن رجلاً ذهب إلى الحسن البصري واشتكى من الجوع، ثم جاء وراءه رجلٌ آخر يشكو من التخمة وسوء الهضم ويرجو دواء يهضم به طعامه! فقال رضي الله عنهُ: لو كان ما زاد في بطن هذا، في بطن هذا، ما اشتكى هذا ولا هذا. وأنتم تعلمون جميعاً أن الثُلّة المباركة والتي يقول فيها الله: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ (29الفتح)، أرسل إليهم المقوقس عظيم مصر طبيباً فردّوه، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم قولته المشهورة للطبيب: { ارجع إلى أهلك، نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع }[5] يعنى فمن أين يأتينا المرض؟!.
كيف نأكل يا ربّ؟ ﴿ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ (31الأعراف)، ولذا قال صلَّى الله عليه وسلَّم: { الاقْتِصَادُ نِصْفِ الْمَعِيشَةِ }[6]، وقال :{ مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ}[7]. والذي يحتاجه جسم الإنسان الذي قدره له في الرزق الرحمن عزَّ وجلَّ، ما زاد يحتاج إلى النصب والاحتيال، وإلى العلل والأسقام، والأدوية والأمراض، فمن اتبع الشريعة السمحاء عافاه الله من سؤال الناس، وشفاه الله عزَّ وجلَّ من الرجس والألباس، وجعله في أحسن عافية حتى يلقى ربَّ الناس عزَّ وجلَّ. ثم بعد ذلك يحتاج الإنسان إلى كم محدود من الملابس يكفيها ما قدَّره له الرزاق، لكنه لا يرضى بذلك ،كل يوم يريد أن يشاهد الفترينات، ويأخذ منها أحدث الموضات ويرمي ما خلفه، ويا ليته ينتفع به كما أمر الشرع الشريف، فقد ورد فى معنى الحديث الشريف أن رجلاً في زمانه صلَّى الله عليه وسلَّمكان في النزع الأخير وسمعوه يهذي ويقول: ليته كان كله!، ليته كان جديداً!.. فساقوا الخبر إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ففسر لهم ما سمعوه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: إن هذا الرجل كان يأكل رغيفاً فجاءه سائل فقطعه نصفين، أكل نصفاً وأعطى السائل النصف الآخر، فلما عاين الأجر والثواب في سكرات الموت قال: يا ليته كان كله للسائل، وكان لا يلبس ثوباً جديداً إلا وأعطى القديم للفقير، فلما عاين أجره وثوابه قال: يا ليته كان الجديد.
ونحن كم لنا من جديد في بطون الدواليب تقضي عليه العتّة ويهلك من كثرة الخزن، لا نلبسه ولا نوزعه ثم نشتكي الفقر والحاجة ونقول دُخولنا لا تكفينا، ونسى المرء فينا أن زينته بجمال وجهه، وليس بجمال لبسه، وجمال وجهه لا يكون إلا بعبادة الله وطاعة الله، فقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: { شَرَفُ الْمُؤْمِنِ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ}[8]: ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ (29الفتح)، ليس من الزينة الحسية وإنما من الزينة الإيمانية الروحانية؛ من تقوى الله، وخوف الله، والعمل بما يحبه الله عزَّ وجلَّ.
والمصيبة أنه قد يكون عند الإنسان ما يكفيه، ويطلب ما يطغيه، فلا يسع الرزق الذي قدره له الله فيه، فيبحث يميناً وشمالاً عما لم يحلّه له الله ليعطي لنفسه ما تشتهيه، فيقع فيما قال فيه: { عَلَيْهِ أَمَانَةُ النَّاسِ لاَ يَسْتَطِيعُ أَدَاءَهَا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا }. وقد يكون ذا منصب مرموق! ومهام وظيفته تقتضيه العمل ليل نهار! ومع ذلك يريد أن يكون له مزيد من الوجاهة، فيكلف نفسه بأعمال إضافية، وهو لم يقم بالأعمال الأصلية، فيمنع المعروف في هذه الأعمال عن المؤمنين لأنه وكل بها ولم يقم بها، وحمل نفسه المسئولية أمام نفسه وقومه وأمام ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ، لأنه حمل نفسه بأعباء لا يطيقها.
لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنهُ عندما تحمَّل أعباء الرعية لا ينام ليلاً ولا نهاراً إلا غفوة بعد صلاة الصبح يقوم بعدها مسرعاً ويقول: لقد طال نومك يا عمر!!، فيقولون له: لِـمَ لَـمْ تعطِ جسمك حظّه من النوم؟ فيقول رضي الله عنهُ: { أنا إن نمت نهاراً ضيعّت رعيتي، وإن نمت ليلاً ضيعت نفسي }[9]. فجعل رضي الله عنهُ النهار لرعيته والليل لربِّه عزَّ وجلَّ. فكان نهاره في خدمة العباد، وليله في طاعة ربِّ العباد، { كُلُّكُمْ رَاعٍ. وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ }[10].
فقد كلّفنا الله بأولادنا نسعهم بأرزاقنا على قدر ما قدّره المولى عزَّ وجلَّ لنا، لم يكلفنا أن نخرجهم إلى المصايف أو المشاتي إلا إذا وجدت معنا الاستطاعة وأمنا من غشيان المساخر أو المحرمات، لكن لم يكلفنا أن نستدين ونحمل أنفسنا أثقالاً فوق أثقالنا لنخرجهم إلى المصايف أو إلى المشاتي، وإنما علينا أن نطعمهم من الحلال، ونوفر لهم العلم والصحة والسكن الذي على قدر وسعنا. قدر الله لنا سكناً على قدر أرزاقنا، لم يكلفنا بأن نستدين آلاف الجنيهات مما نعجز عنه ونورثه ونتركه تركة عاجزة لأبنائنا لنشتري لهم سكناً فوق طاقتهم وطاقتنا، وإنما علينا أن نتحمل ظروف الحياة ونكيّفها بالرضا لنرضى عن الله، فمن لم يرزقه الله الرضا فلن يرضى ولو مَلَك كل مُقدرات البشر في هذه الحياة!! قال صلى الله عليه وسلَّم: { مَنْهومانِ لا يَشْبَعانِ طالِبُ عِلْمٍ وطالِبُ دُنْيا }[11]. لكن الرضا هو الذي يكيف الأمور، ويُصلّح الدهور، ويجعل المرء مستعداً ليوم العرض والنشور، لأنه يمشي على قدر ما قدّره له المولى عزَّ وجلَّ.
لم يكلفنا الله أن نشتري أثاثاً بالتقسيط، فما لا نملك شراءه الآن فلنصبر حتى يُحضر الله الخير الذي نشتريه به في أوانه ووقته، لم يكلفنا الله أن نقترض بالربا فنحمّل أنفسنا أعباءً لا طاقة لنا بها، وإنما المسلم يسير على قدر ما أفاض به الله عليه. فتحنا على أنفسنا أبواب التقسيط واستسهلناها، وأبواب القرض بالربا وسهّلناها، فأصبح الرزق موزعاً نصيباً للأقساط، ونصيباً لسداد القروض، ونصيباً للمصائف والمشاتي، ونصيباً لكذا وكذا، ثم يشتكي المرء ويقول: من أين أطعم أولادي؟ ومن أين أسدّ لهم حاجاتهم؟
فإذا سأله امرؤ وعنفّه لـِمَ تأخذ الرشوة؟ فيقول إن رزقي لا يكفيني، وأنا في ضرورة وهي مباحة لي، فيفتي نفسه ليوقع نفسه في غضب الله ولا يشعر، لأن المؤمن لا يستدين إلا لضرورة قصوى، عندما لا يوجد في بيته طعام، أو تعرض أحد أولاده لجراحة عاجلة وليس معه ما يسد تكاليفها، أو أمر من هذا القبيل، لكن لا يستدين لشراء فيديو، ولا يستدين لشراء ثلاجة، ولا يستدين لفسحة في إيطاليا، ولا يستدين لسهرة هنا أو هناك – فكل هذه أمور لا يبيحها له شرع الله- ولا يستدين أيضاً لعمل حفلة لعيد ميلاد، أو حفلة عيد زواج، أو ما شابه ذلك مما ننفق فيه جملة أرزاقنا ثم نشكو إلى الله، ونستبيح المحرمات ونحمل أنفسنا الإثم تلو الإثم لأننا كما قال الله عزَّ وجلَّ لنا في حديثه القدسي: { ابْنَ آدَمَ، عِنْدَكَ مَا يَكْفِيكَ وَأَنْتَ تَطْلُبُ مَا يُطْغِيكَ، ابْنَ آدَمَ، لاَ بِقَلِيلٍ تَقْنَعُ وَلاَ بِكَثِيرٍ تَشْبَعُ، ابْنَ آدَمَ، إِذَا أَصْبَحْتَ مُعَافىً في جَسَدِكَ آمِناً في سِرْبِكَ عِنْدَكَ قُوتُ يَوْمِكَ فَعَلَىٰ الدُّنْيَا الْعَفَاءُ }[12].
قال صلى الله عليه وسلَّم: { اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ. فَإِنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا}[13]. أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا لهذا الإيمان ولهذا الدين، وجعلنا من عباده المسلمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وأعطنا الخير، وادفع عنا الشر، ونجنا واشفنا، وانصرنا على أعدائنا يا ربَّ العالمين. أما بعد ..
فيا أيها الأخوة المؤمنون: قال صلى الله عليه وسلَّم : { لَيْسَ لابْنِ آدَمَ حَقٌّ في سِوَى هذِهِ الْخِصَالِ: بَيْتٌ يُكِنُّهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الْخُبْزِ وَالمَاءِ }[14]. فالمؤمن يطلب منه الله أن يستر عورته بالحلال الطيب ولا يزيد على ذلك، فلو كان يكفيه بدلتان للشتاء وبدلتان للصيف فلا يزيد على ذلك، إلا إذا وسّع عليه الله من الحلال، لكنه لا يجوز له أن يرتشي أو يغش ليشتري مزيداً من الملابس بحجة أن ذلك يجعله يكون في المستوى اللائق بأمثاله في المجتمع، وكذا في كل أمر من أمورنا، وأمر أبنائنا وأمر بناتنا، وأمر أثاثنا وفراشنا وبيوتنا، فلو اتقينا الله في هذا الأمر فإن الخير سيفيض عندنا وسيصير أضعافاً مضاعفة، ولكننا نتبع النفس وأهواءها والشهوات والملاذ ومستحسناتها، فذلك الذي يوبقنا ويفرقنا!!.
والذي يتعبنا أكثر أننا ننظر إلى من فوقنا في الأرزاق، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ ﴾ (71النحل)، وليست العبرة بالرزق ولكن الكرامة عند الله عزَّ وجلَّ بالتقوى. ما الذي يحفظ المرء؟ الوصية النبوية – احفظوها وعوها – في قوله صلى الله عليه وسلَّم: { انْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَكَ وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ إِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرِي نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ }[15]. انظر إلى من هو فوقك في الدين، فنحن نقنع بأقل الأعمال الصالحات، ونقنع أنفسنا ونقول نحن خير من فلان وفلان وفلان، أنا أصلي وفلان لا يصلي، مع أن المؤمن عنده دائماً طمع في مزيد من عبادة الله وطاعة الله، لأنها نصيبه الذي يأخذه من دنياه وهو خارج منها للقاء الله. وفي ذلك يقول لنا الله ﴿ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ (77القصص). ما النصيب الذي تأخذه معك؟ العمل الصالح والعمل الرافع والعمل المقبول عند الله عزَّ وجلَّ.
فينظر الإنسان ما هو دونه وأقل منه في الدنيا، فيرى فضل الله عليه، ونعم الله عليه فيشكر الله فيزيده الله: ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ (7إبراهيم)، وقبل أن تكون الزيادة في الكم تكن الزيادة بركة من الله في الرزق القليل فيقوم مقام الكثير، يبارك الله في بدني ويحفظه من الأمراض فيوفر على نفقات الدواء والعلاج، يبارك الله في ولدي فيفقه العلوم فيوفر علي نفقات الدروس، يبارك الله في طعامي وأولادي فما يكفي الواحد يكفي الجماعة!، وما ننفقه في شهر يكفينا عاماً كاملاً!، يبارك الله في ملابسي فالذي ينفق في عام يعيش حتى أملَّ منه وأعطيه للفقراء والمساكين والأيتام!!، لأن الله عزَّ وجلَّ باركه بقدرته. وهذا نصيب المؤمن من شكر الله، إذا شكره عزَّ وجلَّ على عطاياه.
أما ما نراه الآن!! فمجتمع لا يشكر الله لا على قليل ولا كثير، كلما جالست أحداً وجدته غير راض عن الله حتى ولو فتح الله له كنوز الحياة، الكل غير راض وغير شاكر! ما النتيجة؟ كما نرى الآن ذهبت البركة وصعدت للسماء، ووكلنا الله إلى أنفسنا ولا نستطيع أن نقوم بأقل أمورنا، ولا أبسط همومنا إذا وكلنا الله عزَّ وجلَّ إلى أنفسنا. < ثم الدعاء >>.
[1] كانت هذه الخطبة بمسجد الأنوار القدسية بالمهندسين – جيزة يوم الجمعة الموافق 28 من رجب 1418هـ – 28/11/1997م.
[2] الترغيب والترهيب رواه البزار عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أو غيره عن أبي هريرة
[3] رواه مسلم عن عمر مرفوعاً ولفظه: “قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام”.
[4] عن المقدام بن معد يكرب أخرجه ابن حبان وابن ماجة.
[5] كان الطبيب من ضمن هدية المقوقس حاكم مصر إلى النبي، فقبل صلَّى الله عليه وسلم الهدية ورد الطبيب رداً جميلاً – السيرة الحلبية