• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:58 PM

Sermon Details

7 يناير 1994

خطبة الجمعة_جمال الدعاء فى الإسراء

،

شارك الموضوع لمن تحب

الحمد لله ربِّ العالمين، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه، نحمده على أن هدانا للإيمان وجعلنا مسلمين، ونستعين به عزَّ وجلَّ في كل أمر من أمورنا حتى نكون على نهج الرسول الأمين، ونستعين به سبحانه وتعالى أن يوفقنا في حياتنا وسلوكنا حتى يختم لنا جميعاً بالإيمان ويتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو وحده الذي بيده مقاليد كل شئ، بيده الضر وبيده النفع، وبيده الخير، وبيده العفو والعافية، وبيده المنح والعطايا، وبيده كل أمر يتعلق بالكائنات لأنه عزَّ وجلَّ هو واهب الحياة لنا، وهو مدبّر أمورنا ومصرّف أقدارها وهو على كلِّ شيء قدير.

وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله عزَّ وجلَّ مثالاً لأهل طاعته، ونموذجاً قويماً لأهل مودته، وأمرنا أن نتأسى به في هديه وسيره وسيرته وقال لنا فيه: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[ (21الأحزاب).

اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد الأسوة الحسنة للمقربين، والقدوة الطيبة للصالحين، وصاحب لواء الشفاعة الأعظم للخلائق أجمعين حتى النبيين والمرسلين، وعلى آله وصحبه وكل من اتبع هداه إلى يوم الدين. أما بعد..

فيا إخواني ويا أحبابي:

كيف نتأسى بسيدنا رسول الله في إسرائه ومعراجه؟

نحن جميعاً علمنا كيف نتأسى به في الملبس، وكيف نقتدي بهديه في المطعم، وكيف نكون كحاله في المشرب، وكيف ننفذ هيئته وسنته في المشي والكلام ومعاشرة الزوجات والأولاد والجيران والأقارب وغيرها من خصال البر والخير، لكن كيف نتأسى به في الإسراء والمعراج؟!!!

فنحن جميعاً نعتقد أن هذا أمرٌ قد خصَّه به الله،، ولم يخص به أحدٌ سواه – ولو مِنْ أنبياء الله ورسل الله عليهم السلام أجمعين. لكن يا إخواني الأمر سهل ويسير!! والله عزَّ وجلَّ يضرب لنا المثل جميعاً لحضرة البشير النذير صلى الله عليه وسلم.

فنحن نسير في ضروب هذه الحياة نتعرض للمشاكل ونتعرض للمصائب ونتعرض للمتاعب، ونتعرض لفنون وألوان من تعب النفس، أو من قلق القلب أو من عذاب الضمير، أو غيرها من أنواع الآلام النفسية أو الاجتماعية أو الأسرية.

ما العلاج الأمثل لهذه الآلام؟ وما المفتاح السحري الذي يقضي على كل هذه المواجع والمشاكل في لمح البصر أو في طرفة عين أو أقل؟

مهما تعرضنا لصنوف البلاء ولأنواع الإيذاء فلن نتعرض لما تعرض له سيد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، فمن مكث في قومه أو في بلدة عشرة سنين يدعوهم إلى الله ويأمرهم بتوحيد الله، وينهاهم عن عبادة الأصنام والأوثان، لا يطلب منهم مالاً ولا يطلب منهم جاهاً أو سلطاناً، ولا يطلب منهم مكانة أو منزلة على هذا الأمر، بل إنما يقول لهم كما قال الله عنه وعن جميع أنبياء الله: ] فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ [ (72يونس).

ومع ذلك كذّبوه، ولم يكتفوا بذلك بل سبّوه وشتموه وعابوه، وجرحوه وأهانوه، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يقلِّبُون العرب والملأ والقبائل عليه، ويقبّحون صورته، ويشنّعون على دعوته، ويتهمونه بما لا يستطيع واحدٌ منّا أن يتحمل تهمة واحدة منها في حياته الدنيا!! ولم يكتفوا بذلك بل أخرجوه وطردوه، فذهب إلى الطائف يرجو خير أهلها ويدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ، لكنهم قد أرسلوا قبْله من يحرّضهم عليه، فقاموا بإيذائه حتى خرج من البلد، وعند خروجه من البلد أمروا من عندهم من العبيد والصبيان أن يطاردونه ويسبّونه ويشتمونه ويقذفونه بالحجارة حتى دَميت قدماه الشريفتان صلوات الله وسلامه عليه، كل هذا في سبيل تبليغ دعوة الله وتنفيذ أمر الله عزَّ وجلَّ، فينزل عليه إلهام الله في الحال بماذا يصنع؟

فرفع الأمر إلى الله لأنه يعلم أن تسيير دفة الأمور كلها بيد الله عزَّ وجلَّ. ولو شاء لهدى الناس جميعاً لكنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء لحكمة يعلمها عزَّ وجلَّ في علمه الأزلي ولن نعلمها جميعاً إلا يوم العرض والجزاء، فندرك حكمة ذلك فيمن يشاء  سبحانه وتعالى.

فرفع الأمر إلى الله واستجار بالله وقال فيما أنبأنا عنه الرواة: {اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى عَدُّوَ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ تَكُنْ سَاخِطَاً عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي. أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمُ الذِي أَضَاءَتْ لَهُ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ، وَأَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَنْ تُحِلَّ عَلَيَّ غَضَبَكَ، أَوْ تُنْزِلَ عَلَيَّ سَخَطَكَ، وَلَكَ الْعُتْبَىٰ حَتَّى تَرْضَىٰ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ } (رواه الطبراني في مجمع الزوائد عن عبد الله بن جعفر).

مفتاح عظيم فتح به النّبِيُّ الكريم أبواب الإجابة في السماوات، ففتحت أبوابها، وتحركت جنودها، ووقفوا جميعاً على أهبة الاستعداد، وقدموا طلبات إلى المُنعم الجواد، يستأذنونه في النزول لتنفيذ أمر هذا النَّبِيِّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

هذا المفتاح يا إخواني سلَّمه الله عزَّ وجلَّ لرسوله وألهمه به، وسلمه صلى الله عليه وسلم لنا، فلا يقع واحد منا في كرب، ولا تصيبه نكبة، ولا يلم به شدة، فيتوجه بهذا الدعاء إلى الله إلا وتفتح له أبواب السماء في الحال، وتنزل له من عند الله جنود لا يعلمها إلا الواحد المتعال، تكون طوع أمره، ورهن إشارته، لأنه تأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإنه صلى الله عليه وسلم ما كاد ينتهي من الدعاء، واسمعوا لقوله صلى الله عليه وسلم: { فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي. فَقَالَ: إنَّ اللّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إنَّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ. فَمَا شِئْتَ؟ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ (جبلين محيطين بمكة)، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً }( صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها).

وهكذا علّمنا وأدّبنا، علمنا ألا ندعو حتى على أعدائنا في وقت الشدة، فضلاً عن أنفسنا، وفضلاً عن أهلينا، وفضلاً عن أموالنا، وفضلاً عن أبنائنا، فقال صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً نِيلَ فِيهَا عَطَاءٌ فَيُسْتَجَابَ لَكُمْ} (صحيح مسلم – باب حديث جابر الطويل عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، وفي صحيح ابن حبان عن جابر بن عبد الله عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت).

وهنا وقفة جانبية: بعضنا – وهذا يحدث كثيراً – عندما يُصيبه همٌّ أو غمٌّ أو كربٌ يدعو بأن يتوفاه الله، أو يدعو بأن يصيبه بالبلاء والأمراض، أو يدعو بأن ينتقم منه الله. وهذا أمرٌ منافٍ لسُنَّةِ الإسلام يا إخواني. يعني يقول الرجل: (ربنا يموّتني ويريحني منكم)، عندما يتعبه أولاده. أو يقول لزوجته: (ربنا يأخذني ويريحني من وشّك)!! مثل هذا الكلام نسمعه كثيراً!! وهي أيضاً تقول لأولادها عندما يغضبونها: (ربنا يريحني منكم)، يعني ربنا يموّتني، أو: (ربنا يعمل فيّ كذا وكذا علشان أبعد عنكم ولو حتى أروح السجن، أو مستشفى الأمراض العقلية، أو فى مصيبة)!! أهذا يصحُّ ياأيها المسلمون ؟ هذا أمرٌ لا يليق.!!!!

وكذا الدعاء على الأموال، كأن يحاول الإنسان مثلاً أن يدير سيارته فلا تدور فيدعو عليها فيقول لها: (ربنا يوقَّف حالك)، وهذا الكلام نسمعه كثيراً!! ألا تدري أنه إذا أوقف حالها فإنه يُوقِفُ حالك أنت، وأنت الذي تتعب وتتعرض للمشاق؟!! ما الأفضل؟ أن تقول لها ربنا يوقف حالك، أم تقول لها ربنا يهديك، أو ربنا يصلح شأنك؟

فالمؤمن يا إخواني لا يدعو على أحد أبداً، بل يدعو بالهداية، فيدعو لزوجته بدلاً من أن يدعو عليها، فلا يقول لها: ربنا يخلصني منك، أو ربنا يريحني منك، بل يقول لها: ربنا يصلح حالك، ربنا يهديك، ربنا يُحَسِّنْ أخلاقك، ربنا يكرمك ويضع الإيمان والتقوى في قلبك. وبدل أن يدعو على أولاده يدعو الله لهم بالهداية، ويدعو الله عزَّ وجلَّ لهم بالإيمان، ويدعو الله عزَّ وجلَّ لهم بأن يقوموا بأوامر الله، ويتأسوا بسنة سيدنا رسول الله. هذا هو مبدأ الإسلام يا إخواني.

ولو عادى الإنسان منا إنساناً لا يدعو عليه قال صلى الله عليه وسلم: { مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ } (مسند أبي يعلي عن عائشة رضي الله عنها)، يعني أخذ حقَّه. فالذي دعا ولو كان مظلوماً يكون أخذ حقه، يعني لا يحق له أن يرفع قضية على هذا الظالم يوم القيامة إن شاء الله، ولو رفع القضية فإن إدارة المحكمة الإلهية تُسقط دعواه، لأنه دعا على هذا الظالم بالويل والثبور والنكبات والأمراض وغيرها في هذه الحياة، فلا ترفع لك القضية ولو على ظالم إلا إذا كنت لم تنتصر عليه إلا بالله، وكنت كما قال نَبِيُّ الله موسى عليه السلام: ]وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[ (44غافر). ولذا لما كان صلى الله عليه وسلم يدعو قومه لم يدعُ عليهم مع أنهم ظلموه على اليقين، وآذوه وكلكم تعلمون وتتأكدون، ولكن كان يقول لهم وعليهم: { اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } (رواه البخاري في كتاب الأنبياء عن ابن مسعود رضي الله عنه).

فبدلاً من أن أدعو على خصمي بأن يهلكه الله، أو ينتقم منه الله، ادعو الله أن يهديه ويعرِّفه الحقَّ ويجعله يمتثل به، أدعو الله عزَّ وجلَّ أن يردَّه لطريق الهداية حتى يبصر الحلال ويمشي فيه ويترك الحرام. أدعو الله أن يبصره بأمره حتى يكون على بصيرة من نفسه، وعلى بصيرة من أمره، وحتى لا يفعل معي أو مع غيري ما يغضب الله عزَّ وجلَّ.

لماذا ينهانا الله عن الدعوة على الظالمين؟ لأني ربما أظن أنه ظالم، وهو في نظر الله مظلوم، ولست أدري، وربما يكون معه حجة لم أعرفها، وله وجهة نظر يرضى عنها الله، وإن كنت أنا لحظِّي أو لهواي أو لغرض في نفسي لا أرضى عنها!!

فإذا أجاب الله دعوتي – فقد ورد في الأثر: (القاتل بدعائه كالقاتل بسيفه)، وَقَتْلُهُ استجابة الله لدعائي! – يُحاسبني على ذلك يوم القيامة، ويسألنى كيف ولماذا؟ يحاسبنى على أنني قتلت فلاناً لأن دعوتي مستجابة، وهل أحطت بكل شيء حتى أطلب من الله أن يقتله؟، والدعوة المستجابة تتحكم فيها الإجابة، ويكون كأنه قتل نفس بريئة من غير حق. ولذا فالواجب أن يُرجع الإنسان الأمر إلى الله، ويفوضه إلى الله، ويرفعه إليه، والله عزَّ وجلَّ لا يظلم أحداً من خلقه: ]وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ[ (46فصلت).

إذاً علينا يا إخواني الدعاء لكن في الخير وفي البرِّ وفي المعروف، فإن رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم قال: { يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ } (رواه الترمذي عن أبي هريرة)، وفي الرواية الأخرى { لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ } (ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه).

لا يجوز أن يدعو على مؤمن بأن يوقعه الله في مصيبة، أو أن يجعله الله يقع في ذنب ويُقبض فيه، أو يبتليه الله بنكبة ليس له منها مخرج، ويحمُّ القضاء عليه بسببها، لأن المسلم لا يدعو بإثم – يعني: بذنب، ولا يدعو بقطيعة رحم – يعني: لا يدعو على ولد بأن ينسى أمه وأباه ليتفرغ لزوجه، أو يدعو على رجل بأن يقاطع أخوته ويبعده الله عنهم ليحب زوجته وأولاده، لأن الإسلام يدعو إلى البرِّ ويدعو إلى الخير.

فالمسلم يدعو بالبرِّ ويدعو بالخير، ويستجيب الله عزَّ وجلَّ له الدعاء ما دام لا يتعجل في دعائه، ولا يدعو بإثم أو قطيعة رحم، وما زال يدعو الله عزَّ وجلَّ وهو موقن بالإجابة. والذي يدعو الله – كما يقول علماء النفس – في هذه الحياة على الأقل يُفرغ الشحنة العصبية الموجودة في داخله،، ولا يكتمها في نفسه فتصيب أعضاءه بالأمراض النفسية.

فإن الإنسان لو أهمَّه أمرٌ أو أقلقه أمر، لا يرتاح نفسياً ولا عقلياً ولا جسمانياً إلا إذا أفضى به إلى إنسان آخر، فإذا أفضى إلى الآخر استراح. وإذا ظل هذا الأمر في دخيلة نفسه يُتعبه، وربما يُصاب بالضُرّ، وربما يزيد عنده التوتر، وربما يزيد القلق النفسي، وربما يُصاب بمرض عصبيّ، وربما يُصاب بمرض جسماني، لأنه حبس هذه الشحنة من الغضب والتوتر والقلق في نفسه، فلابد أن ينتهي إلى غيره، وإذا تحدث بها إلى غيره ماذا يفعل الغير؟

لن يستطيع نفعه، ولن يستطيع دفع الضرّ عنه، بل ربما يزيد البلاء بلاءً، ربما ينقل الكلام إلى الأعداء فيزيد الطامة الكبرى من البلاء عليه، وربما يبثه حديثاً ضاراً بينه وبين زوجه فيعلمها بطريق حسن أو غير حسن، فيقلب العداء عليه جهاراً بعد أن كان مستتراً، وربما يبثه أمراً بينه وبين صديقه فيذهب إلى صديقه ويخبره، وقد أصبح الصديق الأمين المؤتمن على الأسرار في زماننا يا إخواني قليل وأقل من القليل!!

إذن كيف أُبيح بما في نفسي، وكيف أُذهب عصبيتي وتوتري؟ أبث أمري إلى الله ] قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ[ (86يوسف). وهو عزَّ وجلَّ وحده الذي يجيرني، وهو وحده الذي يستطيع أن ينفعني أو يمنع الضرّ عني، وهو وحده الذي يكتم السرَّ ولا يُبيحه حتى لأعضائي، ولا يبيحه حتى لأصدقائي، حتى يوم القيامة يحاسبنا جماعة المؤمنين بيننا وبينه!!

قال صلى الله عليه وسلم: {يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ – يعني: في ستره – ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: يا ربَّ أَعْرِفُ. حَتَّى إِذَا بَلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ قَالَ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. قَالَ، ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، أَوْ كِتَابَهُ، بِيَمِينِهِ } (ابن حبان وبن ماجة عن صفوان بن محرز).

فالذي فعل ذنباً يؤرقه ولا يستطيع أن يخبر أحداً! به عليه أن يخبر به الله، وأن يبثَّ شكواه وألمه إلى الله ويرفع أمره إلى الله ويُقبل على الله تائباً، ويستغفر الله يجد الله تواباً رحيماً، ويجد الله غفوراً رحيماً ويجد الله معه في كل أموره لأنه قال عزَّ وجلَّ: ]ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ (60غافر). أدعو الله وأنتم موقنون بالإجابة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ربِّ العالمين، نحمده سبحانه وتعالى على نعمه علينا في كل وقت وحين، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يزيدنا مِنْ برّه وكرمه وفضله أجمعين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وحبيبه. اللهم صلِّ على سيدنا محمداً وآله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجِّنا واشفنا، وانصرنا على أعدائنا يا ربَّ العالمين. أما بعد..

فيا إخواني ويا أحبابي في الله ورسوله: عندما يدعو الإنسان خاصة عند الكرب، وربما لا يستطيع أن يتملك زمام نفسه – فيدعو على ولده أو على أهله، لينفّس عن نفسه، وليخرج ما في نفسه من الصدمات العصبية والشحنات النفسانية!! ولكن الله عزَّ وجلَّ أعطى نبيكم الكريم الطريقة الإيمانية للدعاء والتي تجعل الإنسان يدعو الله كما ينبغي، ويدعو الله وهو ساكن النفس مطمئن البال، والله عزَّ وجلَّ معه على سماعة التليفون يرد عليه ويجيب طلباته وينفذ رغباته لأنه عزَّ وجلَّ قريب من كل من يدعوه ويناجيه.

فأعطاه الله عزَّ وجلَّ مفتاحاً خاصاً بكم جماعة المؤمنين لم يعطه للسابقين حتى الأنبياء والمرسلين!! وهو مفتاح الصلاة وأمره أن يجعلها هي سماعة النجدة أو تليفون الإغاثة الذي يغيث به المسلمين والمسلمات في كل كرب أومعضلة في أي مكان أو جهة من الجهات، سماعة وتليفون لا يحتاج إلى اشتراك شهري أو سنوي ولا يحتاج إلى جهاز مركب في منزل أو سيارة ولا يحتاج إلى مال تدفعه وإنما يحتاج فقط إلى إيمان صادق يدفعه إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ ويرفعه إلى الله سبحانه وتعالى.

فأمر نبيُّكم الكريمُ المؤمنَ أن يلتزم بهذا الأمر، ولا يدعو الله إلا في الصلاة، لماذا؟ لأنه إذا كان غاضباً وتوضأ هدَّأ الوضوء والماء من غضبه، فيخرج بعد الوضوء وقد سكنت نفسه، وقد ذهب توتره، وقد رجع إليه عقله الراجح، ثم يدخل في الصلاة. والصلاة بما فيها من كلمات أمرنا أن نردِّدَهَا الله، وتسبيحات أمرنا بها رسول الله تُدْخِلُ على النفس السكينة والطمأنينة، فإذا وصل إلى السجود قال فيه سيد الوجود {وَإذَا سَجَدْتُمْ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَاِنَّهُ قَمِنٌ – يعني حقيقاً – أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ} (الطبراني عن عليٍّ رضي الله عنه).

فما دعا رجل الله في سجوده إلا واستجاب الله عزَّ وجلَّ له في الحال، لأنه إذا وصل إلى السجود بعد الخطوات التي ذكرناها يكون قد هدأت نفسه واستراح باله وتكلم بكلمات يعقلها لا يندم عليها واستحضر عظمة العظيم سبحانه وتعالى في قلبه فيناجيه بما يحب أن يسمعه عزَّ وجلَّ.

فمن وقع في ذنب عظيم ما عليه إلا أن يصلي ركعتين أمام حضرة العظيم يقول فيهما النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: { مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لمْ يُحَدّث نَفسه فيهما بشئ خَرج مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } (عن عثمان بن عفان، رواه أبو يعلى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه)، وهذه اسمها صلاة المغفرة، يفعل الإنسان الذنب ثم يركع بين يدي الرب ركعتين فيخرج منهما ليس عليه ذنب وربما ينطبق عليه قول الله: ]فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ[ (70الفرقان)، يجعل مكان كل ذنب حسنة من فضله وجوده وكرمه عزَّ وجلَّ.

ومن أهمه أمرٌ من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة وليس عنده الشجاعة لاتخاذ القرار فيه مَنْ يشاور؟ هل يذهب إلى بيتِ خبرة؟ أو هل يذهب إلى مكتب لشئون الأسرة؟ أو هل يذهب إلى صديق يستشيره؟ ومن هو المشير الذي في درجة العليِّ الخبير عزَّ وجلَّ؟

يصلي ركعتين لله، ثم يدعو بدعاء الاستخارة الذي كان يقول فيه سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّوَرَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَاسْتَعِينُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذَا الأَمْرَ – ويحدِّدُه، وهو السفر مثلاً، أو الزواج من فلانة مثلاً، أو إنشاء مشروع كذا مثلاً – خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ،  فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذَا الأَمْرَ – ويحدِّدُه – شَرّ لي في دِينِي ومعاشي وعَاقِبة أمْرِي، أو قَال: عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عَنْهُ، واقْدِرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ ارْضِنِي بِهِ. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم } (رواه الطبراني في الثلاثة، وفي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله).

ماذا يتم له في الأمر؟ يقول رسولكم الكريم: {مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ} (رواه الطبراني في الصغير عن أنس رضي الله عنه). لا يخيب في أي قرار يتخذه مادام قد استخار الله، ورضِىَّ بما أشار عليه الله، والمشورة تأتي إلهاماً في قلبه – يعني يوجهه الله إلى هذا الأمر – ويحببه في هذا الأمر.

أما مَنْ يذكرون الرؤية المنامية، فهذا أمرٌ لم يذكره نبيُّنا في أحاديثه النبوية، وإنما الذي ذكره: أن الإنسان ينشرح صدره إلى أمر فيتَّجه إليه. فإذا كان الله عزَّ وجلَّ يتنزل لنا بنفسه القدسية ويطلب منا أن نستشيره في كل أمورنا الدينية، وفي كل أحوالنا النفسية والعائلية، فكيف نحتار بعد ذلك يا جماعة المؤمنين، ومعنا المشير الأعظم وهو ربُ العالمين عزَّ وجلَّ. وإذا عجز الإنسان عن أمر ولا يستطيع تحقيقه ماذا يفعل؟ ]اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ[ (153البقرة). استعن على هذا الأمر بالصلاة.

رسولكم الكريم كان أعداءه يحيطون بالثلة المباركة وهم قلة وعددهم ثلاث مائة وعدد الكافرين يزيد عن الألف ما السلاح الذي يقاتل به؟ هم يقاتلون بسيوفهم ورماحهم وسهامهم وهو يقاتل بالصلاة والدعاء فيها لله عزَّ وجلَّ وما استكمل ركعتين حتى قال لأبي بكر: { أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل قد أتى على فرس على ثناياه – يعني على أسنانه – النقع } (رواه أحمد في مجمع الزوائد ومسند الإمام أحمد عن عائشة) – يعني: الغبار – معه ثلاثة آلاف من الملائكة مسلحين، جاءوا لنجدته وجاءوا لمعونته صلوات الله وسلامه عليه.

فالأمر الذي يعجز المسلم عن تنفيذه يستعين عليه بالصلاة لله عزَّ وجلَّ، يعينه الله ويمدُّه الله بِمَدَدٍ من عنده. حتى الأمر الذي يعجز الطالب أو العامل عن حلّه أو فهمه يتأسى فيه بإمام العلماء الذي قال فيه سيِّد الأنبياء: { اللَّهُمَّ اهْدِ قُرَيْشاً فَإنَّ عَالِمَهَا يَمْلا طِبَاقَ الأَرْضِ عِلْماً } (ابن عساكر عن أبى هريرة رضي الله عنه). وهو الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، كان إذا سأله سائل عن سؤال لا تحضره الإجابة فيه في الحال يقول: انتظر يا هذا، ثم يتوضّأ ويصلي ركعتين لله، ثم يقول له بعد الصلاة: إجابة سؤالك كذا وكذا، فيقولون له: كيف عرفت الإجابة، ولم تطلع على مرجع، ولم تنظر في كتاب؟ فيقول نبّأني العليم الخبير وأنا في الصلاة.

حتى الذي يحتار في عُمّاله كيف يعرف الأمين منهم من الخائن؟ وكيف يعرف الذي يُرضي ضميره من الذي يخون؟ عليه أن يتبع سياسة القائد الأعظم، الحاكم العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، لقد كان عندما يأتي ولاته وعماله في الأقاليم ليحاسبهم، يقول لهم: انتظروا حتى استشير ربِّي عزَّ وجلَّ فيكم، فيصلي ركعتين لله عزَّ وجلَّ ثم يخرج بعد الصلاة ويقول لكل واحدٍ منهم: أنت حسابك كذا!! وأنت لا تُولّى لنا على عمل، وأنت أسكناك في مكانك. فيقولون: من أين لك هذا يا أمير المؤمنين؟ فيقول عرضت الأمر على ربِّي في الصلاة! فأنبأني بما ترونه وهو حُكم الله عزَّ وجلَّ!!

كيف يحتار المؤمن يا إخواني ومعه الصلاة؟!! إن الصلاة هي التي توصلك لله عزَّ وجلَّ، وهي المفتاح الأعظم الذي سلَّمه لكم رسولكم الكريم.

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من المحافظين على الصلاة، وأن يجعلها لنا نوراً وبرهاناً ونجاة في هذه الحياة، وأن يجعلها لنا ذخراً يوم لقاء الله، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه

ونسأله عزَّ وجلَّ أن يربط على قلوبنا حتى نشاهد بعين قلوبنا أنوار ربِّنا، فلا نلتفت إلى غيره في حركاتنا وسكناتنا طرفة عين ولا أقل ولا أكثر.

اللهم بارك لنا في إيماننا، وبارك لنا في دِينِنَا، وبارك لنا في أسماعنا، وبارك لنا في أبصارنا، وبارك لنا في أموالنا، وبارك لنا في أزواجنا، وبارك لنا في أولادنا، وبارك لنا في بلدنا يا خير المجيبين.

اللهم اغفر لعبادك المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا ربَّ العالمين.

اللهم ولِّ أمورنا خيارنا، ولا تولِّ أمورنا شرارنا، وأصلح أحوالنا وأحوال مجتمعنا، وأحوال المسلمين أجمعين ووفقهم لإتباع شريعتك يا أرحم الراحمين.

اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لما فيه خير العباد والبلاد، واهدهم إلى طريق الخير والرشاد، وباعد بينهم وبين طريق الخزي يا ربَّ العباد.

اللهم أهلك الكافرين بالكافرين، وأوقع الظالمين في الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين، يا ربَّ العالمين.

عباد الله اتقوا الله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (90النحل).

أذكروا الله يذكركم وأقم الصلاة.

********************

 

7 خطبة بمسجد الأنوار القدسية – المهندسين – جيزة  الجمعة الموافق 25 من رجب 1414هـ – 7/1/1994م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid