الحمد لله ربِّ العالمين، أحصى الخلق وعدَّهم عددا، وأمدَّهم بما فيه كرمه عزَّ وجلَّ لحياتهم ولحركاتهم وسكناتهم، وأنزل لهم الرسل مبشرين ومنذرين، فإذا وافى الأجل المحتوم وجيئ بالكلِّ إلى ساحة الحىِّ القيوم، لتُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت ويقول لهم ربُّ العزَّة: ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (17غافر).
وأشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، العليمُ الحكيم، العزيزُ الحليم، الذي يُملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته أبداً. وأشهد أن سيِّدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، أقام دولة القسط والعدل بين المسلمين، وكان بحقٍّ نصير الضعفاء والمستضعفين، يُعطي لكل ذي حقٍّ حقَّه، ولا يظلم أحداً ولو كان بعيداً عن أسرته، ولا يجامل أحداً ولو كان أعزَّ قرابته. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على حامل لواء العدل في الدنيا، وصاحب لواء الشفاعة يوم الدين، الذى قال بحقٍّ لكل الأئمة العادلين: (لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)[1].
صلِّي اللهم وسلِّم وبارك على هذا النَّبِيِّ، وعلى آل بيت هذا النَّبِيِّ، وعلى صحابة هذا النَّبِيِّ، وعلى كل تقيٍّ نقيٍّ تابع هذا النَّبِيِّ إلى يوم الدين، وارزقنا صحبتهم ومعيتهم أجمعين، يا أكرم الأكرمين.
إخواني جماعة المؤمنين:
تنتاب كثيرٌ من الأتقياء الأنقياء الحَيْرة في هذا الزمان، عندما يسمع أو يطالع سيرة أصحاب النَّبِيِّ، وبعدهم من المسلمين الأتقياء الأنقياء، وكيف كان صِدْقُهُم؟ وكيف كانت أماناتهم في التعامل فيما بينهم؟ وكيف كان إخلاصهم في القصد والنيَّة لربِّ البرية؟ وكيف كانت قلوبهم تتقطع خوفاً من الله إذا فعلوا شيئاً يُغضب الله، أو إذا بَدَرَ منهم ظُلماً لعَبْدٍ من عباد الله عزَّ وجلَّ؟!!
ونحن أتباع النبي وورثة دين النَّبِيِّ ما بالنا؟!! كَثُر قُطَّاع الطريق، وانتشر هتك أعراض المسلمات المؤمنات القانتات بلا جريرة ولا سبب، وأصبح الظُلم يصرخ من كثرته في كل واد – إن كان في الأسر، أو في دواوين الحكومة، أو في الأسواق، أو فى المجتمعات، بل زاد الحدُّ فأصبح كثيرٌ من المسلمين يتباهى بذلك، ويتَّهم من لم يفعل ذلك بأنه ضعيفٌ أو أنه عاجز لأنه لا يستطيع مجاراة الأقوياء – في زعمه – ويظلم هذا، ويغُش هذا، ويكيد لهذا، ويأخذ عُنوةً المال من هذا، إلى ما لا حدَّ له من الجرائم التي زادت عن الحدّ.
وإذا سألت هؤلاء المجرمين تجدهم يقولون: أمامك القانون – وهم يخططون جيداً للهروب من القوانين – ولا بأس عندهم بالرشوة، ولا بأس عندهم بالتزوير، ولا بأس عندهم بالإتيان بشهداء الزور، ولا بأس عندهم بالإتيان بأشياء لا نستطيع ذكرها الآن لشناعتها – من لَىِّ الحقائق، وتزوير الأمور – ويظنُّ أنه قد ظَفَرَ بعد ذلك وفاز بمبتغاه!! أو يقول للقائل له: اضرب دماغك في الحيط!!ـ اللى أنت طايل تعمله أعمله، ونسوا أن الله عزَّ وجلَّ وهو يقول: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (4الحديد). لا تخفى عليه خافية، لا يغيب عنه شيءٌ – في النَّفْسِ ولا في الذهن، ولا في المجتمع ولا في أى زمانٍ أو مكان – لأنه عزَّ وجلَّ : ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (19غافر). والأمر يا إخواني كما قال القائل:
ولكنِّا إذا مِتْنَا بُعِثْنَـــــا ونُسأل بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيءٍ
هذه الحقيقة هي التي جعلت أصحاب حضرة النَّبِيِّ، والأتباع السابقين للنَّبِيِّ، والأتقياء من أمة النَّبِيِّ لا يعاملون الخلق وإنما يعاملون الحق عزَّ وجلَّ، أينما كانوا وحيثما تتوجهوا ينظرون دائما وأبداً إلى الله، ويتعاملون مع الحقِّ جلَّ في عُلاه، لأنهم يعلمون أنه سيكون هناك يومٌ معلوم سيؤخذ الحقُّ فيه للمظلوم من الظالم، وذاك يومٌ يجمع الله عزَّ وجلَّ الناس فيه، ولا يستطيع أحدٌ أن يُخفي شيئاً عن الجمع ولا عن خالقه وباريه.
أما عن الجمع: فيُبعث الناس يوم القيامة طوائف ثلاث: منهم من بيَّض الله وجهه – نسأل الله أن نكون منهم أجمعين، ومنهم من سوَّد الله وجهه، ومنهم من جعل الله وجهه أزرقاً: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ (102طه)، وهؤلاء هم المنافقون الذين يُظهرون الإسلام ويعملون بين الناس بأعمال الإسلام، ولكنهم يتصرفون تَصَرُّفَ المّكَرَةِ واللئام مع أهل الإسلام، فيأتون يوم القيامة وجوههم زُرقاً. والكافرن يأتون يوم القيامة وجوههم مسودة: ﴿تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ (60الزمر).
فيتباين الخلق ويظهر للجميع شأن الجميع بلا تشنيع ولا فظائع وإنما إعلامٌ من الله عزَّ وجلَّ وهو العليم بالجميع، والحساب أمرٌ يطول شرحه!! ولكننا نقول في عجالة سريعة إلى ما نحن فيه:
يُوقف الخلقُ للحساب، فإذا انتهى المرء من حسابه وكانت أعماله الصالحة تستوجب له الجنة، وساقه ملائكة الرحمة إلى الجَنَّة، وعلى أبواب الجَنَّة بعد أن يشُمَّ رِيحَهَا، ويشهد قصورها، ويُشاهد حورها، يأتي النداء من قبل ربِّ العزِّة عزَّ وجلَّ: (من كان له مظلمة عند فلانٍ فليخرج)، وقد يكون قد ظلمه ولا يعرفه، لكن النيابة الإلهية تُعرِّفه وتطلبه، ولذا يكون التعارف هناك بالسِميا، لا بالشكل ولا بالصورة ولا بالزىِّ: ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ﴾ (46الأعراف).
فيخرجون وكلٌّ في يده مَظْلَمَة، منهم من يقول: لقد سرقني في يوم كذا، ومنهم من يقول: لقد غشَّني في يوم كذا، ومنهم من يقول: قد ظَلَمَنِي وأخذ من راتبي بغير حقٍّ كذا، ومنهم من يقول: قد ظلمني وأخذ أجراً لعملية جراحية لست بمستحقها يوم كذا، فيقول رب العزِّة: (وعزَّتي وجلالي لا تدخل الجنة حتى تُرضي خُصماءك)، اجلس معهم واعقد محاضر صُلْحٍ ثم إئتنا، فيأخذ يتفاوض مع خُصمائه!! والتفاوض في هذا الوقت صعبٌ!! ولذلك كان النَّبِيُّ يُوصينا ويوصي أصحابه فيقول: (من كان له مظلمةٌ عند أخيه فليتحلل منها في الدنيا قبل أن يأتي يومٌ لا يكون فيه إلا الحسنات والسيئات)[2]، التحلُّل منها هنا سهل وأمره بسيط، لكن هناك الكلُّ يريد أن يثقِّل ميزانه، والكل يريد أن يُرجِّح كفة حسناته. الكل يبحث عن حسنة.
اسمع إلى وصف حضرة النَّبِيِّ صلِّي الله عليه وسلِّم عن إمرأة احتاجت إلى حسنة واحدة تُثقِّل بها ميزانها، فأعطاها الله عزَّ وجلَّ مُهلةً تنظر في أهل الموقف من يُعطيها حسنة، إلى أين تذهب؟!!
ذهبت إلى ابنها – تسطعف ابنها الذي حملته وربَّته وأرضعته – وتقول له: يا بُنيَّ لقد كان بطني لك وعاء، وصدري لك سقاء، وحجري لك وقاء، فهل أجد عندك حسنةً أُثقِّلُ بها ميزان حسناتي؟ فيقول: هيهات هيهات يا أماه، إني أعاني مما منه تعانين!! ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (34: 37عبس). فلا تجد حسنة تأخذها من فِلذة كبدها – الذي ربما ارتكبت من الفظائع كذا وكذا من أجله!!
وينظر المنافقون ويُبعثون يوم القيامة في ظلمة شديدة إذا أخرج أحدهم يده لم يكد يراها. أما المؤمنون فبِنُورِ الله يسعون، أقلُّهم نوراً من يُضيء نور صالحاته تحت قدميه فيمشي في هذا النور، ولكن منهم من نُورُهُ – مثل الشمس في رائعة النهار – يُضيئ لأهل الموقف، ومنهم من نوره كالكوكب الدُريُّ: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ (12الحديد)، ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (8التحريم).
فيجلس يتفاوض، وكلما تفاوض مع رجلٍ قال له: كم تدفعُ لي لأتنازل عن مظلمتي؟ وماذا يدفع؟!! من الحسنات التي معه!! فإذا فَنِيَتْ الحسنات وأُعلن إفلاسه يوم الميقات، لا يتنازل المطالبون!! فيقول لهم: لم يَعُدْ لي حسنة!! فيقولون له: خُذْ من سيئاتنا وتحمَّلها – لكي يتنازلوا عن مظالمهم في هذا الأمر.
يُبيِّنُ النَّبِيُّ صلِّي الله عليه وسلِّم بعض هذه المظالم لنتجنَّبها، ونَعْلَمُ قدر هذه القضية الخطيرة فنستعد لها. يدور حديثٌ بين ولدٍ وأبيه – وكما يحدث في عصرنا، قد يحتدُّ الولد على أبيه، وقد يخرج غاضباً ولا يتكلم، ولكن يخرج من فمه إشارة تدل على غضبه، كأن يقول: (أُفّ)، وتُثبت المحاضر الإلهية هذه الجريمة في حقِّ الأب، أو في حقِّ الأم – ويذهب الابنُ إلى أبيه أو أمه يرجوهما التنازل عن ذلك، ما الذي يُرضيهما؟ وقد ورد في الأثر: (كلمة أفٍّ عند الله تعدل يوم القيامة عمل سبعين سنة) حتى يتنازلوا!! فما بالك بالذى يسُبُّ أباه؟ فما بالك بالذى يضرب أباه؟ فما بالك بالذى يهجر أباه؟ فما بالك بالذي يُقدِّم زوجته على أُمِّه؟ أمورٌ كان ينظر لها الأولون نظر خوفٍ وورع، فيُقبلُون على الله ويراعون القيام بالحقوق لعباد الله. أما المعاصرون فقد نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ، نسوا الموت!! مع أننا نرى الموت في كل يوم، وغي كل ساعة، وفي كل وقت!! نسوا أنهم سائرون إلى الله حتماً!! وبعد ذلك هناك حساب، وعلى الأقلِّ لومٌ وعتابٌ ثم ثوابٌ وعقاب.
وربُّ الأرباب عزَّ وجلَّ عند اجتماع الخلق جميعاً في الموقف العظيم ينادي منادِ الله: (يا عبادي إنِّي استمعت إليكم طويلاً فاستمعوا إليَّ اليوم: أما ما كان بيني وبينكم فقد غفرته لكم، وأما ما كان بينكم وبين بعضكم فتواهبوه فيما بينكم ثم ادخلوا الجنة برحمتي).
يغفر الله عزَّ وجلَّ الذنوب التي ارتكبناها في حقِّ حضرته، لكن حقوق العباد لابد أن تُؤدَّى للعباد، لا يرفع الظلم يومها إلا بتنازل هؤلاء العباد أو مسامحة هؤلاء العباد، ولا تنفع المسامحة بالكلام إذا كان هناك مالٌ أو مقتنيات، فمنهم من يضحكون على أنفسهم وعلى الميت عند موته – وقد ظلم رجلاً أو إمراةً في مبلغٍ كبيرٍ من المال – ويقولون له أو لها: سامحيه لأنه في سكرة الموت. وهل هذه المسامحة تُنفع الله؟!! المسامحة لا تكون إلا بعد دفع الحقوق إلى أهلها.
لقد كان الشِّبْلِيُّ – وهو من كبار أولياء الله الصالحين – كان حاكماً عادلاً ثم اختصَّه الله عزَّ وجلَّ بولايته، وعند وروده إلى ساحة الموت طلب ممن حوله أن يوضؤوه، وأخذ يبكي بكاءاً حادَّاً مريراً!! فقيل له: لِـمَ تَبْكِ ولَـمْ نَرَكَ فَعَلْتَ ذنباً؟ قال: (والله لم أفعل في عُمري كلِّه إلا ذنباً واحداً، وأنا والي أخذتُ درهماً من رجلٍ بغيرٍ حقٍّ، وقد بحثتُ عن هذا الرجل في كل بلاد العراق فلم أجده، فتصدَّقتُ عنه بألوفٍ، ومع ذلك أخشى أن يطالبني بهذه المظلمة عند الله يوم القيامة).
درهمٌ واحد!! أين نحن جماعة المؤمنين الآن ممن يأكلون مال اليتامي؟!! وينهبون الضعفاء؟!! ويأخذون حقوق الفقراء ويخشون الأغنياء؟!! ويرتكبون الفحشاء جهاراً نهاراً بين المؤمنين؟!! نسوا أن هناك يومٌ سيُعرضون فيه على الله ويقتصُّ لكل واحدٍ منهم، ولا يدخل الجنة إلا إذا سامحه خلق الله.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجنِّبنا جميعاً فضائح هذا اليوم، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. قال صلِّي الله عليه وسلِّم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة)[3] وقال صلِّي الله عليه وسلِّم: (من ظلم مؤمناً بشبرٍ من الأرض، تُوقه بسبع أراضين في جهنَّم يوم القيامة)[4] وقال صلِّي الله عليه وسلِّم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)[5]، ادعوا الله وانتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين الذي هدانا للهُدى، وملأ قلوبنا بالنور والرشاد وجعلنا من عباده المؤمنين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحقُّ الحقَّ ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، الصادقُ الوعد الأمين.
اللهم صلِّى وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هُداه، ووفِّقنا للعمل بشرعه أجمعين يا الله، واجعلنا من أهل شريعته في الدنيا، ومن أهل شفاعته في الآخرة أجمعين يا أكرم الأكرمين.
أيها الإخوة جماعة المؤمنين:
اعلموا علم اليقين أنه لن تقوم قومةً لبلدنا، ولن تنصلح أحوالنا، ولن يُعلي الله عزَّ وجلَّ شأننا، ولن يوَسِّع الله عزَّ وجلَّ خيرنا وبرِّنا، إلا إذا أصلحنا أخلاقنا وسلوكياتنا أجمعين: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (11الرعد). نحتاج لصلاح الأحوال إلى صلاح الأعمال واستقامة الأخلاق.
وقد كان مجتمع الأتقياء الأنقياء – من السادة المهاجرين والأنصار ومن تبعهم أجمعين – أمناء صادقين حكماء في كل أفعالهم، يتشبَّهون بإمام الرسل والأنبياء صلِّي الله عليه وسلِّم، ولن ينصلح حالنا إلا إذا كنا كذلك – الراعي والرعية.
انظر إلي عمر رضي الله عنه!!! جاءه مِسْكٌ من البحرين، فأراد أن يوزعه على الرعية، فقال: أريد امرأة صالحة تُجيد الوزن لتزنه بالقسطاس المستقيم، فقالت امرأته أم كلثوم بنت الإمام على بن أبي طالب: أنا أجيد الوزن، قال: على شرط أن تضعي غطاءاً على أنفك، قالت: ولِـمَ؟!! قال: وهل يُنتفع إلا بريحه؟!! فلا ينبغي أن تنتفعي قبل باقي المسلمين – وبعد الوزن لا تلطخي بيديكٍ رقبتك ولا شيء من جسمك حتى لا يكون لكِ خصوصية بين المؤمنين.
هذا هو العدل الذي يُحي به الله البلاد ويجعل أهلها في أرغد عيشٍ وأسعد حال، وفيه يقول رسولنا صلِّي الله عليه وسلِّم واسمعوا واعوا: (ساعةُ عدل من إمامٍ عادلٍ خيرٌ من مطر السماء أربعين عاماً)[6]. الخير الذي ينزل على أهل المحِلَّة وأهل البلد من ساعة عدل من إمامٍ عادل، أكثر من الخير الذي ينزل عليها إذا أمطرت عليها السماء لمدة أربعين عاماً.
كانوا على هذه الشاكلة أجمعين رجالاً ونساءاً صغاراً وكباراً، يتوَّخُون العدل على الدوام، ويحرصون على الحقوق والواجبات لجميع الأنام، ولذلك جعلهم الله عزَّ وجلَّ خَيْرَ أمة أخرجت للناس، بهم يُضرب المثل إلى يومنا هذا في كل بقاع الأرض في عدلهم وصلاحهم وبرِّهم وتقواهم، وما كانوا عليه مع الخلق، وما كان بينهم وبين الحقِّ عزَّ وجلَّ.
والنَّبِيُّ صلِّي الله عليه وسلِّم يُخاطبنا جماعة المسلمين فيقول لنا موجهاً وناصحاً – وهو الناصح الأمين: (كما تكونوا يُولَّى عليكم)[7]. أى إذا أصلحتم قلوبكم، وقوَّمتم نفوسكم، فإن الله سيختار لكم رجلاً من صُلحائكم يُوليه شئونكم وأموركم، وإذا كنتم على غير ذلك فسيكون غير ذلك: (كما تكونوا يولى عليكم).
علينا جماعة المؤمنين أن نثور ثورة إصلاحية، نسعى فيها لإصلاح الأخلاق وإصلاح المعاملات بين المؤمن وأخيه، وبين الإبن وأبيه، وبين الزوج وزوجته، وبين الجار وجاره، وبين الزميل وزميله. نحتاج إلى منهج الإسلام نُحييه في هذه الأيام – والحمد لله نُحيي جميعاً العبادات ولكننا نحتاج إلى إحياء الأخلاق والمعاملات، إذا فعلنا ذلك فإن الله عزَّ وجلَّ عساه أن يُصلح ويُحوِّل أحوالنا إلى أحسن حال.
اللهم قوِّم أخلاقنا، وأصلح طباعنا، وأذهِب فساد قلوبنا، وأنزع الغِلَّ والغش والشحناء والبغضاء من صدورنا، واملأ بالمحبَّة والوُدِّ والشفقة والحنان قلوبنا، واجعلنا دائماً وأبداً أجمعين أخوةً متآلفين، متكاتفين، متوادِّين. وأنزل اللهم سخطك وعذابك وعقابك على الفاسدين والمفسدين، والقتلة والمروعين للآمنين، والماشين بالباطل والشرِّ في هذا البلد أجمعين، حتى تطهرها من كل فساد وإفساد، وتجعلها بلداً آمنة مطمئنة يا أكرم الأكرمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات يا أرحم الراحمين.
اللهم اجمع شمل عبادك المؤمنين في كل بلدٍ، وَوَحِّد صفوفهم، واجعلهم أخوةً متناصرين، متباذلين، متناصحين، وانصرنا على القوم الكافرين، وأذِّل اليهود ومن عاونهم، واجعل فلسطين قبراً لهم يا أرحم الراحمين. اللهم أصلح أحوالنا، وحوِّل حالنا إلى أحسن حالٍ.
[2]البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه).
[5] ابن ماجة والطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[6] روى أبو نعيم عن أبي هريرة بلفظ: (عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة ، قيام ليلها ، وصيام نهارها). ورواه الطبراني بإسناد حسن بلفظ:“يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة ، وحدٌّ يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحاً”.