الحمد لله رب العالمين الذي واجهنا بلُطفه، وفتح لنا أبواب رحمته وفضله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، واعطنا الخير وادفع عنا الشر ونجنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا يا رب العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:تعالوا معي في بداية هذا العام ـ الذي نسأل الله أن يجعله عام خيرٍ وبركةٍ وفتحٍ ونصرٍ لنا وللمسلمين أجمعين ـ إلى عيادة الحبيب المصطفى في مدينته المنورة لنأخذ روشتة واحدة تكون عوناً لنا في هذه الحياة، وتبلغنا فيها ما نأمله من الله في الدنيا، وما نحصل به على رضا الله والفوز بالسعادة الأبدية يوم لقاء الله تبارك وتعالى.
هذه الروشتة شخصَّها النبي صلى الله عليه وسلَّم للصحابي القدير أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه في كل زمانٍ ومكان لكل مسلمٍ ولكل مؤمن، قال له فيها صلى الله عليه وسلَّم:
(يا أبا ذرِّ أحكم السفينة فإن البحر عميق، وكثِّر الزاد فإن السفر طويل، وخفِّف ظهرك فإن العقبة كؤود، وأخلص العمل فإن الناقد بصير).رواه الإمام المقدسي والديلمي في الفردوس
ونشرحها بإيجازٍ حتى لا نُطيل عليكم فنقول:
أحكم السفينة فإن البحر عميق:
والسفينة التي تركبها هي جسمك وجوارحك التي تفعل بها ما تشاء في الدنيا، لأن الدنيا الآن بحرٌ عميق مليئٌ بالفتن، مليئٌ بالأمور التي تُغضب الله تبارك وتعالى، فينبغي عليك إن أردتَ النجاة أن تُحكمها بشرع الله، فلا تفعل إلا ما أمرك به الله، أو أباحه لك سيدنا رسول الله، وتتوقَّف عن فعل ما سوى ذلك، حتى تنجو من المهالك.
فإذا عُرض لك أمرٌ في هذه الحياة، فلابد أن تستشير فيه أولاً شرع الله، ما حُكم العمل في الشريعة المطهرة؟ إن وافقت عليه أمضيه وافرح بفضل الله ومعونة الله، وإن أخبرتك الشريعة أن هذا العمل لا يُرضي الله، فامتنع عنه فوراً، واعلم علم اليقين أنك إذا فعلتَ ذلك فأنت موفقٌ في الدنيا سعيدٌ في الآخرة إن شاء الله.
وكثِّر الزاد فإن السفر طويل:
وما دُمنا كلنا مسافرين وإلى الله راجعين، ولا يعلم أحدنا متى السفر؟ ولا ميعاد المغادرة، فعليك أن تُكثِّر الزاد، والزاد هو الذي قال فيه رب العباد:
تزوَّد بتقوى الله، تزوَّد بالأعمال الصالحة التي تنفع من معك ومن حولك، عاونهم على شئون هذه الحياة، وخفِّف عنهم ما استطعت ما يعانون به من ويلات الأمراض والمشاكل، وعاون نفسك أنت بالمداومة على الصلوات الخمس في مواقيتها، وعلى أن يكون لسانك رطباً دائماً بذكر الله، وعلى أن تفتح كل يومٍ كتاب الله ولو تقرأ فيه صفحةً واحدة، يُنوِّر الله بقراءتك ظاهرك وباطنك، وأكثر من الاستغفار لله، لأنه لا يوجد من ليس له ذنوب، وليس له عيوب والذي ليس له عيوبٌ وليس له ذنوب كان يقول:
(أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله واستغفره في اليوم مائة مرة).
استكثر من الزاد برضا من حولك، رضا الوالدين ورضا الأهل والأقارب بمواصلتهم، ورضا الناس بالكلمة الطيبة والبسمة الصادقة والمعاملة الصالحة، فكلها أشياء هينة لينة لا يعجز عنها إلا إنسان تخلى عنه توفيق الموفق عز وجل.
كثِّر زادك واجعل نفسك دائماً تُكثِّر من هذا الزاد بأعمال الخير والبر والطاعات التي تجعلك من وجهاء الله في الدنيا، ومن وجهاء الله في الآخرة.
خفِّف الذنوب والمعاصي وأكثر الذنوب والمعاصي كما نعلم من آفات اللسان، فهو الذي يغتاب هذا، وينِّمُ بين هذا وهذا، ويسبُّ هذا ويشتم هذا ويلعن هذا، فعليك أن تكبحه عن هذه المهالك، وتمنعه من هذه المعاصي حتى تأتي يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلَّم لصحبه المباركين:
(سيروا سبق المـُفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله، قال: الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وضع الذكر عنهم إصرهم وأغلالهم حتى يلقون الله تعالى يوم القيامة خِفافا).
واعلم علم اليقين أن عملك يُعرض على رب العالمين في الوقت والحين، فإذا نطقت فهو أول السامعين، وإذا عملت فهو أول الناظرين، فلا يرى منك إلا ما يُحبه ويرضاه في كل وقتٍ وحين.
وأخلص العمل فإن الناقد بصير:
واعلم أنه يحاسبك على نيتك:
(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئٍ ما نوى).
فلا تعمل عملاً وأنت ترى به وجه الله، وتقصد به أحداً سواه، فإن هذا يردُّه عليك ولا يقبله الله، فاقصد بأي عملٍ تعمله في حياتك حتى ولو كان أكلك وشُربك ونومك، حتى ولو كان مداعبتك لأولادك وملاعبتك لزوجك، إعمل أي عمل ولكن إنوي به رضا الله، واقصد به وجه الله وتابع حين أدائه سيدنا رسول الله تفوز يوم لقاء الله تبارك وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلَّم:
(يأتي أُناسٌ يوم القيامة بأعمالٍ أمثال الجبال، فيُعرضون على الله تعال، أو يُعرض أحدهم على الله تعالى، فيقول الله تعالى: إضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، فتقول الملائكة: ولم يا رب؟ فيقول: إنه لم يُرد بذلك وجهي والدار الآخرة).
وقد قال صلى الله عليه وسلَّم في إخلاص الأعمال:
(من صلَّى يُرائي فقد أشرك ـ والمراءاة يقصد بها نظر الناس وليس نظر رب الناس ـ من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يُرائي فقد أشرك ـ وقد قال الله تبارك وتعالى: ” فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ” (110الكهف).
يا أبا ذر أحكم السفينة فإن البحر عميق، وكثِّر الزاد فإن السفر طويل، وخفف الحمل فإن العقبة كؤود، وأخلص العمل فإن الناقد بصير).
أو كما قال: (أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الذي وفقنا للهُدى والنور وملأ قلوبنا باليقين، وجعلنا من عباده المسلمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحقُّ الحقَّ ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله الصادق الوعد الأمين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله تبارك وتعالى:
روشتة واحدة تُدخل الإنسان الجنة إن شاء الله إذا حافظ على العمل بما أمره به مولاه، نسمعها سوياً من حبيبي وقُرة عيني رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حيث يقول لأنس بن مالكٍ رضي الله عنه:
(يا بُنيَّ إذا استطعت أن تبيت وليس في قلبك غلٌّ ولا غشٌّ لأحد من المسلمين فافعل، فإن ذلك من سنتي ومن فعل سنتي كان معي في الجنة).
فليجاهد كل أخٍ مؤمن يرجو لقاء الله، ويطمع في دخول الجنة في جوار رسول الله، أن يُخلِّص قلبه مما ذكرناه فيجعل قلبه دائماً وأبداً ليس فيه إلا الحب والمودة والشفقة والعطف والحنان والرأفة لأولاده وزوجه ولجميع المسلمين.
فإذا تسلَّل إليه مرض الحقد أو ميكروب الحسد أو عقرب الطمع صدَّه عن ذلك الباب، وجعله يتخلَّف عن دخول الجنة مع النبي والأحباب، لأن شرط دخول الجنة أن ينطبق على الداخل قول الله:
نسأل الله تبارك وتعالى أن يُخلص قلوبنا من الأحقاد والأحساد والبُغض والكُره لعباد الله المؤمنين، وأن يملأ قلوبنا بالإخلاص لذات الله، والصدق في اتباع حبيب الله ومصطفاه، والرأفة والرحمة والمودة والشفقة والعطف لجميع المؤمنين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وارنا الباطل زاهقاً وهالكاً وارزقنا اجتنابه، ووفقنا لفعل الخيرات، واحفظنا بحفظك من جميع المعاصي والفتن والمنكرات، ووفقنا دوماً لعمل الخير والبر والصالحات.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا والمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات يا أرحم الراحمين.