Sermon Details

الخطبة الثالثة[1]
شهر شعبان والليلة المباركة
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي خلق الليل والنهار، فتتابعت الأيام إثر الأيام، كلها متشابهة، تطلع شمسها وتغيب، ولكن الله اصطفى منها مواسم لرحمته واختار منها أياماً وليالي لنعمه وأفضاله مصداقاً لقوله تعالى ]وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [ (68القصص).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَنْ توكل عليه كفاه، ومن رجع إليه في أمر من الأمور تولاه سبحانه سبحانه هو وحده الذي يشرح الصدور وييسر الأمور فسبحان اللطيف الخبير الذي أنزل لخلقه كل ما فيه نفعهم وشفائهم. وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، صلاة تشرح بها صدورنا، وتزيل بها عنّا غمومنا، وتقضي بها حوائجنا، وتحصننا بها من كل شر، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه أجمعين.
أما بعد.. فيا عباد الله جماعة المؤمنين.. كان العرب يعظمون رجب تعظيماً حتى كان الرجل منهم يلقى قاتل أبيه وقاتل ابنه، فيخشى أن ينظر إليه نظرة غضب فيهتك حرمة الشهر، وكانوا يسمونه رجب الأصم لأنه كان لا يُسمع فيه قعقعة السلاح، ويسمون شعبان العازل لأنه كان بعد رجب مباشرة، وفيه كانت العرب تعود إلى ما كانت عليه من جاهليتها، ولكن الله جل جلاله جعل رجب شهراً حراماً وجعل شعبان بين رجب ورمضان، الذي عظمه الله بما لا يخفى على مسلم بصريح القرآن فكان شعبان بين شهرين عظيمين.
ومن فضائل شهر شعبان أن رسول الله r كان يتقرب إلى الله فيه بما لا يتقرب في غيره من الشهور، حتى ورد أنه صامه إلا أقله، فعن أسامة بن زيد t أنه قال: { قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْراً مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ: ذٰلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَـــــيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ }[2] وورد عن السيدة عائشة y قالت:{كَانَ رَسُولُ الله e يَصُومُ حَتى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتى نَقُولَ لاَ يَصُومُ وَمَا رَأيْتُ رَسُولَ الله e اسْتَكْمَلَ صِيَامُ شَهْرٍ قَطُّ إلاَّ رَمَضَانَ وَمَا رأيْتُهُ في شَهْرٍ أكْثَرَ صِيَاماً مِنْهُ في شَعْبَان}[3]
وقد فسر بعض العلماء قول الله تعالى ] إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ [ (3الدخان) ، بأنها ليلة النصف من شعبان وقالوا إن السفرة الكرام استنسخوا القرآن من أم الكتاب في أربعين يوماً، ابتدءوا في ليلة النصف من شعبان، ثم بعد الأربعين يوماً نزل إلى سماء الدنيا ثم نزل به جبريل u على رسول الله r نجوماً بحسب الأحداث على ثلاث وعشرين سنة وكان نزوله إلى سماء الدنيا من أم الكتاب بعد نسخه في الألواح ليلة القدر بعد مضي الأربعين ليلة وبذلك نجمع بين قوله تعالى ] إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ وبين ] إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ [، فإنزاله الأول إنزاله من أم الكتاب لينسخه السفرة الكرام وهو في ليلة مباركة، التي هي النصف من شعبان، وإنزاله الثاني إلى سماء الدنيا في ليلة القدر كما أخبر الله تعالى.
وقد أجمع المسلمون جميعاً أن الله خص بفضله أفراداً من عباده الصالحين، وأمكنة خاصة وأزمنة خاصة، فجعل في الأسبوع يوماً وهو يوم الجمعة وفي السنة شهراً للصيام وأربعة اشهر حرم، وخص ليلة الإسراء بحبيبه فلا حرج على فضله أن يخص ليلة النصف من شعبان في كل عام بفضيلة استجابة الدعاء وقبول التوبة ممن يتوب والعفو عن كثير من المذنبين والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. لا يمنع هذا الفضل العظيم إنكار من أنكر فقد ذكر فضلها الإمام أبو طالب المكي – وهو من أئمة السلف الصالح الصادقين في الفضل والرواية في كتابه (قوت القلوب) – أن ليلة النصف من شعبان كان يعتني بها أصحاب رسول الله r ويجتمعون لصلاة النوافل جماعة، إحياء لها والتماساً لخيرها فقد ورد أن فيها تُرفع الأعمال، وتقدر الأرزاق والآجال وقد ورد فيها الدعاء المأثور الذي يلتمس فيه الداعي خفى اللطف في قدر الله، ولله تعالى فيها نظرات إلى خلقه ] يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [ (39الرعد).
كما أورد الإمام أبو طالب المكي أن السلف الصالح y كانوا يحيون ليلة النصف من شعبان وكانوا يصلون فيها مائة ركعة يأملون فيها الخير، أما اجتماع الناس في ليلة النصف من شعبان في المساجد وقت صلاة المغرب، وما يقومون به من الصلاة وقراءة (يس) والأدعية، فبدعة محدثة لا بأس بها، لأن الدعاء سنة، والاجتماع للصلاة والدعاء مشروع عند المقتضيات كالاستسقاء والخسوف والكسوف.
فإذا اعتقد الناس أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان كما بيّن ذلك بعض المفسرين، فالاجتماع حسن مرغوب فيه، وعلى قول من يقول أن الليلة هي ليلة القدر، فالاجتماع في هذه الليلة يكون لذكر الله. وصيام يوم النصف من شعبان لغير معتاده، إن قصد به التقرب إلى الله تعالى، أو التشبه ببعض الصالحين، فهو مباح وإن نوى به السنة فهو مكروه، اللهم إلا إذا ثبت بطريق صحيح أن رسول الله r صامه، وللمسلم الخيار في صيام أي يوم إلا يوم الشك ويوم العيدين. من هذا استحسن للمسلمين عامة في كل أنحاء البلاد،
أن يجعلوا لليلة النصف من شعبان قسطاً وافراًَ من الإقبال على الله والمسارعة لإحيائها، فيصومون نهارها ويقومون ليلها اقتداءاً بهدى السلف الصالح ويكثرون فيه التبتل والتضرع والقنوت لله تعالى.