الحمد لله رب العالمين، الذي أكرمنا بهُداه، وملأ قلوبنا بنور الإيمان به والتصديق بحبيبه ومصطفاه، سبحانه سبحانه إذا أحب عبداً وفقه لما يُحبه ويرضاه، وأعانه على ذكره وشكره وحُسن عبادته في هذه الحياة، ليكون له الفوز العظيم والأجر الكريم يوم لقاء الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يحُدُّه زمان ولا يُحيزه مكان، بل هو سبحانه وتعالى خالق الزمان والمكان، وهو محيط بكل شيئٍ في عالم الإمكان.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، جعله الله سبحانه وتعالى أُسوةً للمؤمنين، وقُدوة للمسلمين، فمن اتبع هُداه، وسار على نهجه كان في الدنيا في حياةٍ طيبة، وفاز بالسعادة العُظمى يوم لقاء رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هُداه، ووفقنا أجمعين لحُسن اتباعه والعمل بشريعته يا ألله.
أما بعد فيا أيها الإخوة جماعة المؤمنين:
ما أحوجنا في كل وقتٍ وحين، وخاصة في هذه الأيام المباركة أن نحذوا حذو سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد، فنتبين هديه الشريف في هذه الأيام، ونمشي على نهجه في الصيام والقيام، عملاً بقول الله تعالى لنا في محكم التنزيل:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا﴾ (21الأحزاب).
وإن المرء ليعجب من دقة هذا الحكيم الرباني الذي ألهمه المولى تبارك وتعالى ما به صلاح الأبدان، وما به صلاح القلوب وما به الحياة الطيبة في الدنيا، وما به نيل السعادة في الآخرة عند حضرة علام الغيوب.
علم النبي صلى الله عليه وسلَّم أن الله فرض على أمته صيام شهر رمضان، وكان من هديه المبارك التدرج في كل شيئ، فحتى لا يُفاجأ المسلم في بدنه وأعضائه بالصيام، كان يبتدئ متدرجاً بصيام بعض أيام شهر شعبان، يُؤهل الإنسان بها لصيام شهر رمضان، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها في نهجه المبارك صلوات ربي وتسليماته عليه:
[كان صلى الله عليه وسلَّم يصوم حتى نقول: لا يُفطر، ويُفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شهر شعبان].
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف في الصحيحين والنسائي وعند الترمذي كلهم عن أبي سلمة عن عائشة، وأخرجهما النسائي].
ولما وجد أصحابه المباركين هذه الحالة، أرادوا أن يعرفوا حكمتها وسببها لأنه لا يفعل أمراً إلا عن حكمة ربانية وإلهاماً من الله تبارك وتعالى.
وكان لشدة هيبته لا يستطيعون مواجهته بالسؤال، فتوجهوا إلى أُسامة بن زيد، وكان قد تربَّى في بيت النبوة حتى كان يُلقب بحبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ليستطلع الخبر، ويعلم جلية هذا الأمر، فقال له أُسامة بن زيد رضي الله عنهما:
يا رسول الله لم نَرَكَ تصوم في شهرٍ من الشهور ما تصوم في شهر شعبان، وسكت، فقال النبي صلى الله عليه وسلَّم:
(ذاك شهرٌ يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى الله وأُحب أن يُرفع عملي وأنا صائم).
[مسند أحمد وسُنن النسائي، وحسنه الألباني عن أُسامة بن زيد رضي الله عنه].
فكان صلى الله عليه وسلَّم يستكثر من الصيام في شهر شعبان، تعويداً للأجساد وتدريباً للنفوس، حتى إذا جاء شهر رمضان صام الإنسان عن محبة في هذا العمل لله، وعن رغبة أكيدة في ثواب وفضل الله، لا يصوم غدَراً ولا يصوم متململاً، ولا يصوم وهو كاره، فيُقُلل ذلك من أجره وثوابه عند الله.
ومن عظيم حكمته صلوات ربي وتسليماته عليه أنه كان بعد صيام شهر رمضان حتى لا يتوقف المؤمنون عن الصيام مرةً وحدة وربما تتعب الأبدان، وربما تحدث رجةٌ في النفوس، يأمرهم أن لا يتوقفوا تماماً مرةً واحدة عن الصيام، بل يصوموا ما تيسر من شهر شوال، فيقول صلى الله عليه وسلَّم:
(من صام شهر رمضان وأتبعه بستٍ من شوال فكأنما صام الدهر كله).
[رواه الإمام مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه].
والدهر أي العام كله، وكان صلى الله عليه وسلَّم لأن شهر رمضان شهر القيام، والنفس لابد لها أن تتدرب قبل ذلك على القيام، فكان يقوم ليالي كثيرة في شهر شعبان، ويُعلمنا الكيفية الصحيحة للقيام حتى لا يتضرر الأهل، ولا تحدث بينهم مشادَّة ولا خلاف، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:
[كان صلى الله عليه وسلَّم في ليلتي ينام في فراشي ويتدثَّر ـ يعني يتغطى ـ بلحافي ثم يقول: يا عائشة أتأذنين لي أن أتعبَّد لربي تلك الليلة؟ قالت: فأقول: يا رسول الله إني لأُحبك ولا أُحب فراقك، ولكني أوثر هواك على هوايَ].
[صحيح ابن حبان عن أبن عُمير رضي الله عنه].
فلا يعمل عملاً إلا برضى من حوله، ليستجلب مودتهم وليُديم محبتهم، وليُعوانوه ويساعدوه فيتبعوه، ويكونون معه على الدوام.
فكان يُكثر من القيام في شهر شعبان، وكان أيضاً يُكثر فيه من الدعاء، وقد استجاب الله تبارك وتعالى له الدعاء، ومن ذلك الحدثان المشهوران عندما دعا الله مرةً في مكة، أن يُظهر له آيةً يؤمن بها الكفار عندما طلبوها منه، فدعا الله سبحانه وتعالى فانشقَّ القمر نصفين وكان ذاك في ليلة النصف من شهر شعبان.
ومرةً أُخرى في المدينة عندما كان يُصلي في اتجاه بيت المقدس، لكن قلبه يهفو إلى الإتجاه إلى بيت الله الحرام قبلة أبيه إبراهيم أبو الأنبياء، فكان يضرع إلى الله ويطلب من الله أن يُوجهه إلى هذه القبلة المباركة وعند صلاته للظُهر في الخامس عشر من شهر شعبان، وبعد أن صلَّى ركعتين تجاه بيت المقدس، إذا بالوحي يتنزَّل على قلبه:
فكان هذا الشهر المبارك شهرٌ لإجابة الدعاء وتحقيق الرجاء، ويكفي أن نسمع قول سيد الرُسل والأنبياء:
(إن الله يتنزَّل لعباده في الثُلث الأخير من كل ليلة إلى السماء الدنيا، فينادي: هل من داعٍ فأستجيب له، هل من تائبٍ فأتوب عليه، هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من مسترزقٍ فأرزقه، هل من مبتلى فأعافيه .. هل من كذا هل من كذا حتى مطلع الفجر).
[مسند أحمد بن حنبل عن عثمان بن أبي العاص].
أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الذي الذي شرفنا بالإيمان وأعاننا على ذكره بالأركان، ونسأله عز وجل أن يُلهمنا شكره في كل وقتٍ آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القريب لكل عبدٍ يناجيه، السميع لكل سائل يطلب منه عز وجل الإجابة للدعاء، البصير بأحوال العباد ظاهره وخفيها، إنه هو السميع البصير.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله القائم بالله لله، والهادي بتفويق الله إلى الدين القويم وإلى الصراط المستقيم والقائل لنا ولإخواننا إلى يوم الدين من المسلمين:
(تركتكم على المحجِّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).
[العرباض بن سارية رضي الله عنه ـ إبن ماجة].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وامنحنا يا ربنا التوفيق لما تُحب وترضى، واشملنا بعنايتك واكلأنا بكلاءتك، وتولنا بولياتك على الدوام في الدنيا ويوم الزحام آمين يا رب العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
كان النبي صلى الله عليه وسلَّم كما وصفه ربُه في القرآن الكريم:
أول العابدين لله، وأتقى الخلق جميعاً من قبل القبل إلى يوم الدين، ويقول:
(أنا أخشاكم لله واتقاكم له).
[الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه].
ومع ذلك علمنا أمراً يجب أن ننتبه إليه أجمعين، أنه لكي تعبد الله سبحانه وتعالى عبادةً فيها خشوع، وعبادة فيها قرارٌ وأمانٌ واطمئنان، لابد أن يُؤمن نفسك وأن يؤمِّن المكان الذي تعيش فيه، فإذا عشتَ في مكانٍ آمن، كانت الطاعة لله عز وجل خالصةً كما كان صلى الله عليه وسلَّم يفعل، فقد كان صلى الله عليه وسلَّم حريصاً على تأمين مجتمع المسلمين.
سمعوا في يومٍ من الأيام وهو في المدينة صوتٌ خارج المدينة أفزع الحاضرين، فخرجوا يتلمسون الصوت، ومن هذا الذي سيُفزع أهل المدينة، وعندما خرجوا وجدوا عجباً، وجدوا النبي صلى الله عليه وسلَّم قد سبقهم على حصانٍ لم يتجهَّز للركوب، فلم ينتظر حتى يُوضع عليه سرجه ولجامه، ركبه وهو عَريٌّ وخرج يستطلع الصوت ثم رجع، وعندما رآهم قال: لا تُراعوا ـ أي لا تخافوا).
فاطمأن وطمأنهم، لأن الإنسان إذا كان في أمان كانت الطاعة أكرم وأدوم لحضرة الرحمن سبحانه وتعالى.
وربَّى أصحابه المباركين على هذه الأحوال، فهذا رجلٌ في غزوة أُحدٍ من أصحابه المباركين، يُسمَّى حنظلة، رآه النبي صلى الله عليه وسلَّم وقد أُستشهد تُغسله الملائكة بين السماء والأرض، والشهيد لا يُغسَّل، فسألهم:
(ما بال حنظلة؟ إسألوا زوجته ـ وكانت هذه الليلة للية دخلته، ليلته الأولى في حياته الزوجية ـ فقالت زوجته: بعدما دخل بي سمع المنادي ينادي: هيا يا جند الإسلام، فخرج ولم يغتسل، فقلت له: ألا تنتظر حتى تغتسل؟ قال: لو إنتظرتُ حتى اغتسلتُ يكون قد فاتني خيرٌ كثير.
وفي رواية:
(سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن استشهاد حنظلة بن أبي عامرٍ في أُحدٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن صاحبكُم تُغَسّله الملائكة، فسألوا صاحبته [زوجته] فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة ـ وهو الصَّوت المفزع وهو منادي الجهاد سمع منادي النبي يدعو للخروج للجهاد).
[رواه الحاكم والبيهقي وحسنه الألباني. عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه].
فخرج إلى المعركة بهذه الهيئة، فاستشهد فغسلته الملائكة لأنه خرج بعد قضاء حاجته، هكذا كانوا وهكذا ينبغي أن يكون شباب المسلمين ورجال المسلمين في كل وقتٍ وحين، يؤمنون أوطانهم، ويحافزون على أمن بلادهم ليعيشون حياةً طيبةً في الدنيا، ويطمئنون إلا طاعة ربهم تبارك وتعالى، فيدخلون في قول الله:
اللهم آمنا في أوطاننا، وآمنا في بلادنا وآمنا في بيوتنا، وآمنا في أجسادنا واحفظ أسماعنا وأبصارنا، وأدم علينا قوتنا ما حيينا، واجعلنا دائماً وأبداً في أمنك وكنفك يا أكرم الأكرمين،اللهم اقضِ على المروعين للمسلمين، والمثيرين للفتن بين الآمنين، والقتلة لمن قال لا إله إلا الله في مجتمع المسلمين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل زاهقاً وهالكاً وارزقنا اجتنابه، اللهم حبِّب إلينا فعل الخيرات، والمداومة على الطاعات وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات يا أرحم الراحمين.
اللهم نجِّي إخوتنا في سوريا من الفتن المحيطة بهم، وأنزل سخطك وغضبك على أعدائهم والمتربصين بهم،اللهم اجمع شمل إخواننا في فلسطين، وطهِّر بيت المقدس وأرض فلسطين من اليهود الغاصبين.
اللهم أمِّن إخواننا في ليبيا وأفغنستان واليمن والصومال، من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجمع شملهم ووحد كلمتهم ورُدَّ عنا كيد أمريكا ومن عاونها أجمعين.
اللهم ولي أمورنا خيارنا، وأصلح ولاة أمورنا وحكامنا واجعلهم بشرعك عاملين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلَّم آخذين، واجمع عليهم البطانة الصالحة واحفظهم من أهل الغي والخداع أجمعين يا رب العالمين.