• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

23 ابريل 1999

خطبة الجمعة_ صور من هجرة الصادقين

إقرأ الموضوع

شارك الموضوع لمن تحب

……………………………………………………………………………..

الهجرة ويوم عاشوراء: صور من هجرة الصادقين            

الحمد لله ربِّ العالمين، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شئ قدير. سبحانه .. سبحانه! لو أراد أن يحيا الناس جميعاً في الدنيا في نعيم الجنة لكان ذلك لهم، ولكنه عزَّ وجلَّ ابتلى الخلق ليختبرهم، فيثيب من أثابه عن عمل صالح قدَّمه، ويعاقب من عاقبه بسوء في آخرته لذنب في الدنيا عمله: } وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ { (46-فصلت( .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمره بين الكاف والنون: } إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ { (82-يس)، وحكمه بعيد عن الأهواء والظنون، وإرادته نافذة على جميع من في الكون. لا رادَّ لفعله، ولا معقِّب لقضائه، ولا انتهاء لمُلْكِه، بل مُلْكُه دائمٌ سرمديّ إلى أن يرث بعزته وجلالته الأرض ومَنْ عليها.

وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، ربَّاه اللهُ على عينه، وأمره بتبليغ شريعته، ووعد مَنْ أطاعه بالعزِّ في الدنيا والخلود في دار جنته، وتوعد مَنْ عصاه بالهوان في الدنيا وبدخول دار شقوته.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والناصر الحقّ بالحق، والداعي إلى الصراط المستقيم. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين، آمين يا ربَّ العالمين. (أما بعد)

فيا أيها الأخوة المؤمنون: إن الله عزَّ وجلَّ- وهو القادر- ولا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء كان قادراً على أن يعزَّ نبيَّه في بلدته مكة ويهلك الكافرين، ويمنع المؤمنين ويجعلهم وهم بين ظهرانيهم أعزَّة لا سلطان عليهم إلا لربِّ العالمين.

وقد خُيِّرَ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما وجدهم لا يؤمنون به – إلا القليل – وذهب إلى الطائف، ليدعو أهلها من ثقيف إلى الإسلام، فأعرضوا عنه ولم يؤمنوا به، فرجع من عندهم إلى مكة ونزل عليه الأمين جبريل عليه السلام وهو في الطريق – بعد أن رفع شكواه إلى الله، وأنزل حاله بمولاه – ومعه ملك وقال: يا محمد هذا ملك الجبال، وقد جعله الله عزَّ وجلَّ طوع أمرك. فقال له ملك الجبال: { يا محمد إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ – والأخشبين: الجبلين المحيطان بمكة، يعني: لا يبقى فيها أحد، ولكنه صلى الله عليه وسلم – قال: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً }[2].

واشتد إيذاء أهل مكة لأصحابه وذهب نفر منهم يشكو من شدة ما يجد من الايذاء لكنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصبر الجميل، وقال لهم: { اصبروا حتى يجعل الله عزَّ وجلَّ لكم فرجاً ومخرجاً}، ومضى حينٌ من الزمن فأمرهم أن يخرجوا وقال صلى الله عليه وسلم: { إنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ، وهُمَا الحَرَّتَانِ، فَهاجَرَ مَنْ هاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ، ورَجَعَ عامَّةُ مَنْ كانَ هاجَرَ بأرْضِ الحبَشَةِ إلى المَدِينَةِ }[3] .

فمنهم من هاجر متخفياً، ومنهم من أعلن بهجرته – كعمر بن الخطاب وقد طاف بالقوم وهم حول الكعبة، وقال منذراً ومتوعداً: ( من أراد أن تثكله أمه أو يُيَتَّمَ أولاده أو تترمل زوجته فليتبعني خلف هذا الوادي ) وخرج نهاراً جهاراً ولم يتعرض له أحد، ومنهم من ترك كل ما يملك – كصهيب رضى الله عنه وخرج بنفسه، وعندما لحق به أهل مكة أخذ كنانته وأخرج سهامه وقال: (يا معشر قريش، تعلمون أنى من أحكمكم رميًّا، ووالله لو اقتربتم مني لأصوبن إليكم سهامي، حتى إذا انتهت كنانتي (يعني محفظة السهام) أمسكت بسيفي فجالدتكم، ولكن أدلكم على خير من ذلك؟ أدلكم على مالي فتأخذوه وتتركوني أهاجر إلى الله عزَّ وجلَّ؟ فرضوا بذلك، فنزل في الحال تلغراف من ملك الملوك إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول فيه الله: } وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ { (207-البقرة)، فقال صلى الله عليه وسلم – وهو في مكانه: { رَبِحَ البَيْعُ أَبا يَحْيى – لصهيب رضى الله عنه – رَبِحَ البَيْعُ أَبا يَحْيى }[4].

لماذا أمرهم الله بالخروج مرتين إلى الحبشة ومرة إلى المدينة؟ وقد قال في قرآنه عزَّ وجلَّ: } كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ { (21-المجادلة). تلك هي الضريبة واسمها شبيه بها، عندما يقابلون الأعداء لماذا لا يغلب الله الأعداء -وهو القادر- بدون حرب؟!! وقد قال لحبيبه وأتباع حبيبه صلى الله عليه وسلم منبِّهاً: } فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى { (17- الأنفال)، لأن هذه هي حكمة الإيمان!!

فقد أعلنوا الإيمان – ونحن جميعاً والحمد لله أعلنا الإيمان، وكل من يعلن الإيمان لابد له من امتحان، واختبار يجريه عليه الديان ليعلم صدق إيمانه فيكتبه من الصادقين إذا وفى بما عاهد الله عليه، أو يرى رقَّة إيمانه – إذا لم يتحمل ما اختبرته به خِبْرَةُ ربِّ العالمين، فيعطيه ثوابه على قدر إيمانه. وفي ذلك يقول الله عزَّ وجلَّ في الأمر الجامع لجميع الأنبياء والمرسلين، والصديقين والشهداء والصالحين، وعامة المسلمين والمؤمنين مِنْ السابقين واللاحقين – يقول الله عزَّ وجلَّ: } الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ { (1: 3 -العنكبوت) .

إذاً لابد لأهل الإيمان من الاختبار والامتحان على حسب زمانهم، وعلى حسب قدراتهم واستعداداتهم، وعلى حسب ما في قلوبهم من نوايا وطوايا، وصدق ويقين في عقيدتهم لله عزَّ وجلَّ، وكلما زاد الإيمان كلما زاد الامتحان ليزيد الرقي عند حضرة الرحمن عزَّ وجلَّ، ولذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: { يُبْتلى المرء على قدر إيمانه } وبين درجات الابتلاء فقال صلى الله عليه وسلم – وقد سئل: { يا رسولَ اللَّهِ، مَنْ أشدُّ الناسِ بَلاءً؟ قالَ: الأنبياءُ، ثم الأَمْثَلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى العبدُ على حَسَبِ دينِهِ، فما يَبْرَحُ البَلاءُ بالعبدِ حتى يَدَعَهُ يَمْشي على الأَرْضِ وما عليهِ خَطيئة }[5].

فلو كان البلاء يقصد به العقاب أو الجزاء – حاشا لله عزَّ وجلَّ- لحََفِظَ مِنْهُ كُمَّلَ عباده، وهم الأنبياء والصالحون والصديقون وما شابههم وما ماثلهم، لكن الله عزَّ وجلَّ – وهو الحقُّ، والكُلُّ عنده سواء، ولا يكرم الخلق بقدر عطائهم من الدنيا لأنه هو الذي أعطاها لهم، وهو الذي أعطى هذا وحرم هذا، وهو الذي رفع هذا وخفض هذا، وهو الذي أعزَّ هذا وأذلَّ هذا، وهو عزَّ وجلَّ الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يخفض ويرفع. ولأن هذه الأشياء تَسَاوَى فيها، بل زاد فيها الكافرون على المؤمنين!! فلم يجعلها هي معدن الابتلاء، وإنما الابتلاء على قدر الإيمان، وجعل ابتلاء أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في امتحان صلابة الإيمان في نفوسهم فتعرضوا للكافرين، تارة بالاستهزاء، وتارة بالتعذيب، وتارة بالطرد، وتارة بالضرب، وتارة بأخذ أموالهم، وتارة بأخذ أرواحهم وإزهاق نفوسهم – ينظر الله عزَّ وجلَّ إلى قلوبهم عند تعرضهم لهذا البلاء!!

فمنهم مَنْ هو أشد صلابة في دين الله من كل جبال الدنيا وصخورها، ولا تأخذه في الله عزَّ وجلَّ هوادة كأبي عبيدة بن الجراح الذي التقى في غزوة بدر مع أبيه وجهاً لوجه، وكلما ابتعد من أمام وجه أبيه برًّا به وهو كافر أسرع أبوه ليلحق به! فخاف أن يقتله مسلم فيكون في صدره شئ نحو هذا المسلم، فأراد أن يثبت لله أنه لا يخشى إلا الله، ولا تأخذه رأفة في دين الله عزَّ وجلَّ فقتل أباه بسيفه.

ومنهم مصعب بن عمير وكانت أمه من أثرياء مكة، وعندما آمن بالإسلام حَرَمَتْهُ من كل مالِها ومقتنياتها، وتركته يتكفف إخوانه المؤمنين لقلة ذات يده، وأرْسَلَتْ رُسُلَهَا يطلبون منه أن يرجع إلى دينها وترد له الأموال التي عندها، لكنه قال لهم قولوا لها: ( هيهات .. هيهات، لقد عرف القلب حُبَّ الله، واستنشق عبير كتاب الله، فلم يعد يجد لذة إلا في مناجاة مولاه عزَّ وجلَّ) ، ويجيب على أخيه – أبى اليسر- في موقعة بدر وهو أسير في يد رجل من المسلمين، فيستنجد به أخوه، فليتفت إليه ثم يقول لأخيه المسلم: أشدد يدا أسيرك فإن أمه غنية وستفديه بمال كثير، فقال: أهذه وصايتك بأخيك!؟ قال: لست أخي وإنما هذا هو أخي والإسلام فرق بيننا!! } يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {  (54-المائدة).

فنجحوا في الامتحان جميعاً، وقال لهم الله مع حبيبه في قرآنه: } مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ { (29-الفتح). فهم معه في الدنيا، ومعه في الاخرة، ومعه عند لقاء الله، وبشَّرهم بالجنة، ووعدهم بمقعد صدق، وهنَّأهم بما لهم عند الله من مقام كريم وأجر عظيم، لأنهم نجحوا في هذا الابتلاء. فنصرهم الله وأعزَّهم الله، وفتح لهم البلدان وصاروا أمراء وقادة جيوش وفاتحين، وجاءتهم خزائن الدنيا كلُّها تحت أرجلهم – فكان الإمتحان الأعظم – فلم يلتفتوا عن الله طرفة عين، ولم تشغلهم الدنيا عن الله ولا عن طاعته وعبادته، ولم يتخلوا بسبب طغيان المادة عن الأخلاق الإسلامية، من الصدق والأمانة، والكرم والشجاعة، وغيرها من أخلاق الإيمان.

وقد ورد أنه لما فُتحت خزائن كسرى، أمر قائد الجيش جنده أن يحضروا ما وجدوه، فأحضروا كل ما التقطوه من ألوان النعيم ومن أصناف الأموال، حتى من كان يجد ولو إبرة يأتي بها إلى القائد. وجاء رجل منهم ومعه صندوق كبير ملئ بالمجوهرات التي كان يتحلى بها نساء كسرى – وهي مجوهرات لم يروا جميعاً مثلها في حياتهم، فليس في بيوتهم ولو قليل من مثلها. فقال له القائد: ما اسمك؟ قال: ولِمَ؟ قال: لنرسل لعمر بن الخطاب نخبره عن شأنك. قال: عجباً لك!! لو كنت أتيت بهذا من أجلك أو من أجل ابن الخطاب ما أتيت به، وكنت أخرته عندي وأخذته لي!! ولكن جئت به من أجل خشية الله عزَّ وجلَّ!!

وحَمَلَتْ هذه الكنوز جمالٌ، كان أولها في المدينة المنورة وآخرها في بلاد فارس، وكانت أكواماً كثيرة في مسجد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتجمع المسلمون في المدينة المنورة ومن حولها ليشاهدوا غنائم المؤمنين من كنوز كسرى، وعجبوا!!! وقال عمر رضي الله عنه: { إِنَّ أَقْوَامَاً أَدُّوا هٰذَا لَذَوُو أَمَانَةٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّت الرَّعِيَّةُ }[6].

هذا رجل منهم – وهو سلمان الفارسي رضي الله عنه- يأتيه صك بتعيينه أميناً على المدائن، وبينما هو يمرُّ ويتفقد أحوال رعيته، إذا برجل مسافر – لا يلحظ عليه الإمارة وأنه أمير المدينة – ومعه أثقال يريد من يحملها، فأشار إليه وقال: تعال احمل متاعي. فحمله رضي الله عنه على كتفه!! وبينما هو يمشي خلفه إذا رجل يقول له: (السلام عليك أيها الأمير). فتعجب الرجل وقال: أنت أمير المدائن؟ قال: نعم. قال: وتحمل لي أثقالي!! قال: وماذا في ذلك؟ ذهبت وأنا سلمان ورجعت وأنا سلمان!!

فلم تفتنهم الدنيا وزينتها وزخرفها عن الرحمن طرفة عين ولا أقل، فكانوا بذلك – وعلى ذلك – من الذين يعنيهم الله بقوله: } فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا { (69-النساء) .

ونحن كذلك أعلنا الإيمان فابتلانا الله عزَّ وجلَّ ليختبرنا بصدق الإيمان. ابتلانا الله بفتن الدنيا وزينتها وزخرفها، وطغيان الأموال، وابتلى بَعْضَنَا ببَعْضِِ الأمراض، وابتلى بعضنا ببعض المناصب، وابتلى بعضنا ببعض زواره، وابتلى بعضنا بأمور في بيته أو في عمله أو في نفسه أو في إخوانه، لأن الله قال وهو أصدق القائلين: } وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ – نمتحنكم جميعاً في أي أمر من هؤلاء – بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ { (155-البقرة).

قال صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: { إِنِّي والجنَّ والإِنْسَ في نبإٍ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرُّهم إلىَّ صاعد، أتحبَّبُ إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليَّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليَّ. مَنْ أقبل إليَّ تلقيته مِنْ بعيد، ومَنْ أعرض عنِّي ناديته مِنْ قريب، ومَنْ ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومَنْ أراد رضاي أردت ما يريد، ومَنْ تصرَّف بحولي وقوتي أَلَنْتُ له الحديد. أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم مِنْ رحمتي، إنْ تابوا إلىّ َ فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إلىَّ فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهِّرَهُم مِنْ المعايب.}[7].

 أو كما قال ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ربِّ العالمين، الذي هدانا للإيمان، وملأ قلوبنا بالإسلام، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يثبِّتنا على الحقّ وعلى طريقه المستقيم، ويتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحِقُّ الحقَّ ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُهُ ورسولُه، وصفيًّه من خلقه وخليله، أتمَّ الله به علينا النعمة، وأسدل به علينا المنَّة. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد حبيبك ومصطفاك، واجعلنا أجمعين تحت لواء شفاعته يوم الدين، واحشرنا في زمرته في جنة النعيم، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)

فيا عباد الله جماعة المؤمنين: من فضل الله عزَّ وجلَّ علينا أنه جعل التوبة أقرب إلينا من أنفاسنا التي تتردد في أجسامنا، فمهما فعل المرء وارتكب من الخطايا، إذا رجع في أي نَفَسٍ وقال: (يا ربَّ تبت إليك)، يقول في الحال: (وأنا قبلت) لأنه عزَّ وجلَّ كما قال في قرآنه: } يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ { (222-البقرة)، بل قالَ الله تَبَارَكَ وتعَالى: {يا ابنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ إنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً}[8].

وقد جعل الله عزَّ وجلَّ – من فضله – أياماً خصَّصها للمغفرة!! ومن هذه الأيام يوم عاشوراء – يوم العاشر من شهر الله المحرم – فقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاء يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيةَ } [9]. إذا اهتم فيه الإنسان بالطاعات، وصامه لله، وقضى يومه في التوبة والإنابة لحضرة الله عزَّ وجلَّ. ولذلك فالحبيب صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يصوم هذا اليوم ويقول { صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاء يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيةَ }. عملٌ سهلٌ يسير، وأجرٌ كبير!!

ولما وجد اليهود يصومون هذا اليوم – لأنه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، واليوم الذي نَجَّا الله فيه موسى ومن معه من فرعون وملأه – فنادى وقال لأصحابه: ( خالفوا اليهود )، وقال كما أخبر حَبْرُ الأمة – عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: { لَئِنْ بَقِيتُ إِلَىٰ قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ والعاشر }[10].

فعليكم بصيام التاسع والعاشر، واضرعوا فيه إلى الله، وسلوا الله فيه مطلوبكم بصدق، وقولوا جميعاً: تُبْنَا إلى الله، ورجعنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، وعلى ما قلنا، وعزمنا على أننا لا نعود إلى ذنب أبداً، وبرئنا من شرور أنفسنا وسيئات أقوالنا، وقبائح أعمالنا، وكل شئ يخالف دين الإسلام، والله على ما نقول وكيل، والله على ما نقول شهيد.

اللهم تقبل متابنا، واغفر لنا ذنوبنا – ما صغر منها وما كبر، ما ظهر منها وما بطن، ما علمنا منها ومالم نعلم – واجعلنا اللهم من عبادك التائبين المتطهرين، ومُنَّ علينا بالمغفرة الشاملة أجمعين.

اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، وارحمنا – وأولادنا وبناتنا، وأمواتنا وآبائنا وأمهاتنا – رحمة واسعة من عندك.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا رب العالمين.

اللهم اجعل هذا العام الهجري عام صلاح وفلاح ونجاح، لنا وللمسلمين أجمعين.

اللهم أهلك فيه الكافرين بالكافرين، وأوقع الظالمين في الظالمين، وطهِّر فيه بيت المقدس وفلسطين، وأعلي فيه راية المسلمين خفاقة في كل مكان يا خير الناصرين.

اللهم ولى أمورنا خيارنا، ولا تولى أمورنا شرارنا، وأعِنْ حكامنا وولاة أمورنا على العمل بكتابك، وعلى تنفيذ سنة خير أحبابك، وأصلح الراعي والرعية في جميع البلاد والشعوب الإسلامية. اللهم تقبل منَّا، واستجب لنا، يا قريب يا مجيب.

عباد الله: اتقوا الله، } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90-النحل).

**************

[1] كانت هذه الخطبة بمسجد الحاج إبراهيم الطنطاوي بمدنية بنها يوم الجمعة 7 من محرم 1420هـ الموافق 23/4/1999م.

[2] رواه ابن حبان في صحيحه والبخاري ومسلم في صحيحيهما والسيوطي في الكبير والنسائي في سننه عن عائشة.

[3] رواه البخاري في صحيحه والبيهقي في سننه وأحمد في مسنده عن عائشة.

[4] رواه الحاكم والطبراني عن صهيب وقال الشيخان هذا حديث صحيح الإسناد.

[5] صحيح ابن حبان  عن مصعب بن سعد عن أبيه

[6] عن مخلد بن قيس الْعَجلي عن أَبيهِ، جامع المسانيد والمراسيل

[7] رواه البيهقي والحاكم عن معاذ والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداءبإختلافات ونقصان أوزيادة ، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لإبن القيم الجوزية

[8] سنن الترمذي عن أنس بن مالك

[9] رواه البيهقي في سننه عن أبي قتادة ورواه مسلم في صحيحه عن يحيي بن يحيي.

[10] رواه البيهقي في سننه وابن أبي الجعد في سننه عن ابن عباس.

 

 

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid