الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر … الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر … الله أكبر. الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر ما وقف الحجيج على جبل عرفات، الله أكبر ما نظر الله عزَّ وجلَّ لهم بحنانه وغفر لهم واستجاب لهم الدعوات، الله أكبر ما باهى الله بالحجيج ملائكة السماوات وقال: (يا ملائكتي، انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ضاحين من كل فجٍّ عميق، قد جاءوا يطلبون مغفرتي ورحمتي، أُشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم)[1]. الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر ما وفَّق الموفق المؤمنين المُكرمين إلى طاعته، الله أكبر ما هيأ لهم الأسباب ليذهبوا إلى أشرف مكان في أرضه وسماواته، الله أكبر ما هيأ لهم القلوب، وحبَّبهم حبًّا شديداً في طاعة علام الغيوب. الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر لمن وفقه الجليل لاتباع سنة الخليل، الله أكبر لمن أكرمه مولاه أن يُفدي نفسه وأولاده اليوم من عذاب الله، الله أكبر لمن نظر الله إليه بحنانه، وجعله يُثبت بالبرهان صدق إيمانه. الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلا. لا إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. الله أكبر، الله أكبر الله ولله الحمد.
الحمد لله ربِّ العالمين، على نعمه التي لا تُعدّ، وفضله الذي لا يُحدّ، الذي أعلاه في هذا اليوم المبارك لعباده المؤمنين، إن كانوا حاجِّين أو مقيمين.
سبحانه .. سبحانه، يعطي عطاءً لا يستطيع أحدٌ من الأولين والآخرين عدَّه ولا حسابه، وصدق سبحانه إذ يقول: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا) (34الرعد).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنيٌّ عن طاعة الطائعين، وزجل المسبحين، لا تنفع الطاعات إلا من قدَّمها بصدقٍ وإخلاصٍ لمولاه، ولا تضر المعاصي إلا من ارتكبها وقام بها غير خاشٍ لحضرة الله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (15الجاثية). وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليلُه، أحيا به الله عزَّ وجلَّ معاليم الشريعة الغراء، وأقام به مناسك الحج على ملة إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا في الدنيا حسن متابعته، واجعلنا في الآخرة تحت لواء شفاعته، واحشرنا أجمعين يوم الدين في زمرته في جنته أجمعين، نحن وأبناءنا وبناتنا وزوجاتنا وإخواننا المسلمين أجمعين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين: كل عام وأنتم بخير بمناسبة هذا العيد السعيد، عيد الضحى المبارك، نسأل الله عزَّ وجلَّ – بادئ ذي بدء – أن يجعل هذا العيد عيداً مباركاً علينا وعلى الأمة الإسلامية جمعاء، فيطفئ نار الحروب المشتعلة في ربوعها، ويؤلف بين المتخاصمين والمختلفين من أهلها، ويُصلح شأن قادتها وحكامها ورعيتها، ويجعلهم جميعاً بشرع الله عاملين، وبسنة الحبيب صلى الله عليه وسلَّم آخذين.
في هذا اليوم من كل عام يحكي لنا الله عزَّ وجلَّ على مدى الأيام، قصة أهل التقى والإيمان مع حضرة الحنان المنان عزَّ وجلَّ. قصة بيت من المؤمنين، وما حدث للأب الكبير، وما حدث للفتى الصغير، وما حدث مع الزوجات، لنعلم ميثاق الله عزَّ وجلَّ وعهده مع الأنبياء، فنعلم علم اليقين أن الله عزَّ وجلَّ قدَّر في أزله القديم لرسله وأنبيائه أن يبتليهم في الحياة الدنيا بأصنافٍ من البلاء، ليجتبيهم ويصطفيهم ويؤهلهم للدرجات العُلى عنده، ويجعلهم أهلاً للنفحات الإلهية والمكرمات الربانية.
فما بالنا نحن المؤمنين؟!!، إذا حدث لأي واحد منا شأنٌ ولو صغير – عكر مزاجه، أو غيَّر شيئاً في حياته، أو أصابه بشيٍ من ضُرٍّ في جسده أو في ماله أو في بنيه أو أهله، يسارع الى الصُراخ والبكاء، بل إنه يشكو الله عزَّ وجلَّ إلى عباده، ويقول: لماذا أنا الذي ربنا جاء لي بكذا وكذا وكذا”، ولا يعلم، – والله عزَّ وجلَّ يعلم – أنه لا منحة إلا بعد محنة، ولا عطية إلا بعد بلية، وقد قال الله عزَّ وجلَّ لنا جماعة المؤمنين أجمعين: (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) – لماذا يا رب؟ – (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (1: 3العنكبوت).
هذا الخليل إبراهيم يقول الله عزَّ وجلَّ عنه في القرآن: (وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) (125النساء)، ويقول الله مبيناً مكانته مرةً أخرى في ثنايا القرآن: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لانْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (120، 121النحل).
لماذا اتخذه الله خليلاً؟، ولماذا مدحه الله عزَّ وجلَّ بهذه الأوصاف؟
ورد في إحدى الروايات أن الله عزَّ وجلَّ أرسل إليه الملائكة يختبرونه، ليعلموا صدق حبِّه لله، وتفريده لمولاه، وعدم انشغاله بالولد ولا المال ولا شئ في الدنيا عن حبِّ الله جلَّ في علاه. واختبرته الملائكة في أكثر من مرة، وفي كل مرة من هذه المرات يرون فيه الثبات لأمر الله، والصدق في الحبِّ لله، وعدم المخالفة لأمر الله طرفة عينٍ ولا أقل.
هداه الله عزَّ وجلَّ إلى طاعته وإلى محبته، ثم أرسل إليه ملكاً، فدخل بيته يوماً فوجد فيه شخصاً دخله بغير إذنه، فسلَّم عليه ثم قال له: من الذي أذن لك في دخول هذا البيت؟، قال: صاحبه، فعلم أنه ملكٌ، وأن الذي أرسله صاحبه – وهو الله عزَّ وجلَّ، قال: لماذا جئت؟ قال: إن الله أرسلني إلى رجلٍ من عباده لأبشره بأنه خليل الله، قال: دُلَّني على هذا الرجل، فإن دللتني عليه فإني سأذهب إليه وأكون له خادماً. قال له: فإنه أنت، قال: أنا؟!! .. أنا؟!!، وأخذ يتعجب من اصطفاء الله عزَّ وجلَّ له بمقام الخُلَّة.
قال: تدري لم إتخذك الله عزَّ وجلَّ خليلاً؟. قال: لا، قال: لأنك جعلت بدنك للنيران، ومالك للضيفان، وولدك للقربان، وقلبك للرحمن. (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (162، 163الأنعام).
جعل بدنه للنيران، .. فعندما دعا قومه إلى طاعة الله – وكان النمروذ جاعلاً نفسه إلهاً من دون الله – فكذَّبه النمروذ فحاجه, وأدهشه؛ قال: إن الله يحي ويميت، فقال النمروذ وأنا أحيي وأميت، فقال: كيف؟ فأتي برجلين قد حُكم عليهما بالإعدام فأعدم رجلاً وعفا عن الآخر. فجاء له بالحجة القاصمة، قال: (فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (258البقرة). وقامت عليه الحُجَّة، فلما وجد الأمر على ذلك أصرَّ على أن يطرده شرَّ طردةً من بلده، وأجَّج له نيران، وأمر بإلقائه في هذه النيران.
صنعوا له حفراً كبيراً طول جداره عشرون ذراعاً، وزودوه بالحطب والأخشاب وأوقدوا فيه النيران، وألقوه فيها، وعندما كان في السماء على وشك أن يقع في النار، إذا بملائكة السماء يقولون: يا ربنا عبدك وخيلك ليس في الأرض أحدٌ يعبدك سواه، يُلقى في النار؟!!، فمرنا أن ننقذه، فقال رب العزة عزَّ وجلَّ مقيماً عليهم الحجَّة: (هل استغاث بكم؟!!، إن استغاث بكم فأغيثوه!!).
قالوا: ولابد يا ربنا، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ملائكةً كراماً يتقدمهم ميكائيل وإسرافيل وجبرائيل – عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام – فقال: إسرافيل مُرني أن أُنزل الأمطار لتطفئ هذه النار، قال: رضيت بأمر الله عزَّ وجلَّ. قال جبريل: ألك حاجة؟، قال: أما إليك فلا، قال: إلى الله عزَّ وجلَّ؟، قال: علمه بحالي يُغني عن سؤالي. فالله عزَّ وجلَّ لا يفارق ناظري قلبه طرفة عينٍ ولا أقل، فجاء النداء من الله: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (69الأنبياء).
فلم تحرق النار إلا قيوده التي قيَّدوه بها، وجاء له الأمين جبريل بسترةٍ واقيةٍ من الجنة، ألبسها له لتقيه من حرارة هذه النار، ونزل في وسط النار ووضع جبريل أبهمه في الأرض فخرجت منها عين ماء، ومدَّ يده في الجنة فجاء بشجرة تفاح وغرسها بجواره، وجاء بأريكة من الجنة ووضعها تحت الشجرة، فجلس إبراهيم يأكل من التفاح ويشرب من الماء، ويشكر خالق الأرض والسماء، والأعداء يحيطون به من كل جانب، ويتعجبون من أمر الله الذي حمى عبده إبراهيم خليل الله.
وجاءت أمُّه وقالت: يا إبراهيم مُر النار أن لا تحرقني حتى آتيك، قال: تعالي يا أماه، فذهبت إليه ولم تمسها النار، واحتضنته وقبَّلته وقالت: نعم الإله إلهك يا إبراهيم!!، ثم رجعت مرةً أخرى ولم تمسها نار. فالنار لا تفعل إلا بأمر الله، ولا تحرق إلا بإذنٍ من الله، وإبراهيم كان من الموقنين؛ يوقن بذلك، ولذلك نجَّاه مولاه جلَّ في علاه. فينبغي على كل مؤمن أن يكون على هذا الخُلق النبيل، يعلم علم اليقين قول الله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (2، 3الطلاق).
حسبك أخي أن تتقي الله، فإذا اتقيت الله، وراقبت الله، وعملت الأعمال الصالحة التي أمرك بها الله – مقتدياً فيها بحبيب الله ومصطفاه – جعل الله لك من كلِّ همٍّ فرجا، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجا، ورزقك من حيث لا تحتسب، لأنك في عناية الله ورعاية الله، وتاريخنا يشهد بما لا يعدُّ ولا يحدّ، مما حدث مع المؤمنين الذين اتبعوا ملَّة إبراهيم في هذا اليقين بالله ربِّ العالمين.
ثم هاجر من بلدته وترك للنمروز وقومه بلدهم في العراق وذهب إلى فلسطين، ووسَّع الله عليه الأرزاق، حتى كانت جماله وأبقاره وأغنامه وماعزه تملأ السهول والجبال، ومع ذلك لم تشغله عن الواحد المتعال.
عندما أمتلأ الوادي بما كان لإبراهيم من النعم، أمر الله عزَّ وجلَّ مَلَكاً لينزل ويذكر الله عنده بصوتٍ حسن، فسمع إبراهيم الصوت فقال: يا أخي كرِّر لي ذكر الله، قال: لا أكرره إلا إذا أعطيتني نصف ما تملك، قال: لك كل ما أملك على تسمعني ذكر الله عزَّ وجلَّ.
لم يشغله المال عن حلاوة ذكر الواحد الأحد وطاعته عزَّ وجلَّ على الدوام، وجعل هذا المال – جعل شكره لله أن يجعل فيه نصيباً لضيوف الله، فإذا جاءه رجلان يذبح لهما عجلاً كبيراً عجلاً ثميناً، مع أنهما يكفيهما قدرٌ قليل من اللحم.
وأراد الله أن يبين قدره ومكانته عند الملائكة الكرام، فأنزل له ملكين في صورة ضيفين، فلما دخلا عليه وقدم لهما واجب الضيافة، قال لهما: كلا، قالا: لا نأكل طعاماً حتى ندفع الثمن، قال: ثمن هذا الطعام هو أن تذكرا اسم الله في أوله، وتحمدا الله عز وجل في آخره. قال صلى الله عليه وسلَّم: (إن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، يوسف بن يعقوب، بن إسحاق، بن إبراهيم عليهم السلام)[2].
وقال صلى الله عليه وسلَّم: (التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له). ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر .. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر .. الله أكبر. الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر على كل ظالمٍ ظلم عباد الله المؤمنين في هذا الزمان، الله أكبر على كل دوله تسلطت بقوتها على المستضعفين من أهل الإيمان، الله أكبر على جند الله الذين وعد الله أن ينصرهم في كل وقتٍ وآن. الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله ربِّ العالمين، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحقُّ الحقَّ ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، إمام الثقلين، ونبي الحرمين، وشفيع الفريقين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكل من اتبع هداه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. يا ربَّ العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين: كرَّم الله عزَّ وجلَّ سيدنا إبراهيم بإكراماتٍ لا تعدُّ ولا تحدّ، إجداها أن استجاب الله دعاءه عندما قال: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) (83، 84الشعراء).
فأمرنا الحبيب صلى الله عليه وسلَّم أن نصلِّي على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في كل صلاةٍ نصلِّيها لله عزَّ وجلَّ، فنقول: (اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صلَّيت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم. وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد)[3].
وجعل الله عزَّ وجلَّ المسلمين يهاجرون من بلدانهم، ويدفعون حُرَّ أموالهم، ويتركون أهليهم وذويهم ليؤدوا الحجَّ على مناسك إبراهيم، ويطوفون حول البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، ويسعون بين الصفا والمروة ويتذكرون هاجر أم إسماعيل عندما كانت تسعى بين الصفا والمروة، ويصعدون إلى عرفات ملبين الله عزَّ وجلَّ كما فعل إبراهيم، ويرجمون – اليوم في منى – إبليس كما رجمه إبراهيم، ويتذكروا إبراهيم عليه السلام في أداء مناسك الحج وأركانه.
وجعل المقيمين يتذكرون إبراهيم فيضحون عن أنفسهم وعن أهليهم وعن أولادهم. عندما سئل الحبيب صلى الله عليه وسلَّم: ما هذه الأضاحي؟ قال: (سنة أبيكم إبراهيم)[4]. نتبع إبراهيم في سنته، ونذبح هدينا في الحج وأضحيتنا هنا للمقيمين لنفوز بفضل الله عزَّ وجلَّ الذي أعدَّه لمن يفعل ذلك إلى يوم الدين.
وجعل لنا صلى الله عليه وسلَّم في الأضاحي من الفضل ما لا يستطيع أحدٌ عدَّه ولا حصره، نذكر منها على سبيل الإيجاز:
أن الإنسان إذا ضحَّى في هذا اليوم – والأُضحية وقتها يبدأ بعد خطبتى العيد – بعد صلاة العيد وخطبتى العيد يبدأ ذبح الأضحية لقوله صلى الله عليه وسلَّم: (أول ما نبدأ به في هذا اليوم أن نصلي لله، ثم نذبح أُضحيتنا، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحمٌ قدمه لأهله ليس من النُسك في شئ)[5].
فمن ضحَّى بعد الصلاة وخطبتى العيد ما أجره؟!!، (قالوا: يا رسول الله ما لنا في هذه الأضاحي؟) – يعني من الأجر والثواب؟، فقال صلى الله عليه وسلَّم: (لكم بكل صوفةٍ من شعرها حسنة، وبكل قطرة من دمها حسنة، وإنها لتوضع يوم القيامة في الميزان بقرونها وأظلافها وجلودها ولحمها، فطيبوا بها نفساً وأبشروا)[6]. لكم بكل صوفة حسنة، وبكل قطرة من الدم حسنة، والحسنة بعشر أمثاها، ويضاعف الله عزَّ وجلَّ من عنده لمن يشاء، وتُوضع بعد ذلك يوم القيامة في ميزان الحسنات في كفَّة اليمين بكل أشيائها حتى التي نتنزه عن أكلها ليثقِّل الله عزَّ وجلَّ بها ميزان حسناتنا.
وقال صلى الله عليه وسلَّم في الجائزة الثالثة لمن يُضحي: (يا فاطمة قومي لأُضحيتك فاشهديها، فإن الله يغفر لكِ عند أول قطرة من دمها كل ذنبٍ فعلتيه)[7].يغفر الله لأهل المنزل ذنوبهم أجمعين إذا ضحُّوا على هدي سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلَّم.
والأضحية سنة للمتيسر، والمتيسر الذي ليس عنده عُذرٌ يؤاخذ على تركها لقول الحبيب صلى الله عليه وسلَّم: (من وجد سعة ولم يُضحِّ فلا يقربنَّ مُصلَّانا)[8]. لا يصلي معنا، لأن له عتابٌ ومؤاخذة عند الله عزَّ وجلَّ، حيث أنه ينبغي أن يضحي؛ فيُطعم نفسه وأهله ويُطعم الفقراء والمسلمين.
أما عوام المسلمين والفقراء فقد أوصى السادة العلماء أن على كل مسلمٍ أن يجتهد أن يضحي ولو مرةً في العُمر، وأننا يوم القيامة سنمر جميعاً على الصراط: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) (71مريم).
والصراط سبعة جسورٍ على متن جهنَّم، كل جسر منها ألف عامٍ صعوداً، وألف عامٍ إستواء، وألف عامٍ هبوطاً، كيف نمر على هذه الجسور؟!!، من كان له ركوبة يركبها فتطير به على حسب تقواه، ومن لم يكن له ركوبة فإنه يمشي، وفي المشي خطر حيث أنه يمشي على جهنَّم تصلاه بحميمها وزقُّومها والعياذ بالله عزَّ وجلَّ.
ومن أين لنا بهذه الركوبة؟ قال صلى الله عليه وسلَّم: (استسمنوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط)[9]. المطايا التي سنركبها على الصراط هي الأُضحيات التي نضحيها في حياتنا الدنيا.
أما من لم يجد سعة بتًّا في حياته، فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يحرمه!!، فقد ضحَّى يوم العيد بكبشين أملحين، ذبحهما بنفسه، قال عند الأول: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)، وقال عند الثاني: (اللهم هذا عن فقراء أمتي)[10]. شملنا صلى الله عليه وسلَّم بهذا الفضل الإلهي حتى نكون أجمعين مشمولين برضوان رب العالمين.
وجعل لنا صلى الله عليه وسلَّم أُسوةً في نبي الله إسماعيل، فكما فداه الله عزَّ وجلَّ بذبح عظيم، أمرنا الحبيب أن نفدي أبناءنا بعقيقة، قال صلى الله عليه وسلَّم: (على كل مولود عقيقة تُميط عنه الأذى وتُذهب عنه الداء)[11]. ويكون قد تأسى بسنة سيدنا إسماعيل كما بين النبي السعيد صلى الله عليه وسلَّم.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين: عليكم بالتكبير لله عزَّ وجلَّ في هذه الأيام المباركة عقب كل صلاة – إن كنتم في جماعة أو فُرادى، إن كنتم في المسجد أو في أى مكان – إلى عصر اليوم الرابع، وهو يوم الأحد القادم إن شاء الله عزَّ وجلَّ. ونذكر أبناءنا وبناتنا وزوجاتنا بالتكبير، والتكبير بعد الفرائض وبعد السنن التي ليست لواحق – كسنة صلاة الضحى أو سنة قيام الليل – حتى ولو كانت جنازة فعلى مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه بعد كل صلاة الجنازة نردد التكبير لله عزَّ وجلَّ.
وعلينا في هذا اليوم أيضاً أن نُوسِّع على لفقراء، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم: (أغنوهم عن الطواف والسؤال في هذا اليوم)[12]. وعلينا أن نوسع على أبنائنا، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم: (إن في الجنة باباً لمُفرِّح الصبيان)[13].
وعلينا بصلة الأرحام، فإن صلة الرحم تطيل في العمر، وتزيد في البر، وتبلِّغ الإنسان المنازل العالية في الدار الآخرة[14].
وعلينا بالعفو والصفح عمن أساء إلينا طلباً لمرضاة الله، وعملاً بقول حبيب الله ومصطفاه: (ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزِّاً، ولا بتواضعٍ إلا رفعة)[15].
ولذا ينبغي علينا أن نجدد ما كان يفعله سلفنا عقب هذه الخطبة إن شاء الله، فلا ننصرف حتى يصافح بعضنا بعضاً، ويكفينا قول الحبيب صلى الله عليه وسلَّم: (إذا التقى المسلمان فتصافحا تحاتت ذنوبهما – يعي نزلت – كما يتحاتُّ ورق الشجر)[16]. وقوله صلى الله عليه وسلَّم: (مثل المؤمنين إذا التقيا كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى)[17].
نسأل الله عزَّ وجلَّ في هذا اليوم الأجلّ أن يطهر قلوبنا، وأن يصفِّي نفوسنا، وأن يديم المحبة والمودة فيما بيننا، وأن ينزع البغضاء والأحقاد والأحساد من صدورنا، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين الصالحين.
كما نسأله عزَّ وجلَّ أن يبارك لنا في أوقاتنا، وأن يبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا، وأن يبارك في لنا في أقواتنا وأرزاقنا، وأن يبارك لنا في بلدنا وفي رئيسنا، وأن يحمى مصر وأهلها من الموتورين والحاقدين والمروعين والقتلة أجمعين، وأن يجعل مصر وأهلها في حمايته ونصرته إلى يوم الدين، وأن يجعل جندها من الذين يقول فيهم في كتابه المبين: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (173الصافات).
ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن في هذا اليوم الكريم أن يغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
كما نسأله عزَّ وجلَّ أن يطهر أرض بيت المقدس من اليهود الغاصبين، وأن يجعل أهل فلسطين أُخوة متآلفين، وينصرهم على اليهود ومن عاونهم، وأن يردُّهم إلى بلادهم سالمين غانمين.
ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحفظ الحجاج من الآفات والأمراض والعاهات، وأن يردَّهم إلى بلادهم سالمين غانمين، وأن يرزقنا أجمعين زيارة بيته المبارك وزيارة روضة حبيبه المصطفى أجمعين، وأن يُيسر لنا ذلك ويجعل ذلك من مالٍ حلالٍ يتقبله منا أجمعين.
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرضى عن الصحابة المباركين، وعن أزواج النبي الطاهرات أمهات المؤمنين، وعن العلماء العاملين، وعن الأولياء والصالحين، وعن التابعين وتابعي التابعين إلى يوم الدين.
[1] وأخرج البزار وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر- يعني عشر ذي الحجة- قيل: وما مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفَّر وجهه بالتراب، وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً ضاحين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويستعيذون من عذابي ولم يروه، فلم ير يوماً أكثر عتيقاً وعتيقة من النار منه).
[6] أخرجه ابن ماجه وصححه البيهقي من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: (لكم بكل صوفة من جلدها حسنة وكل قطرة من دمها حسنة وإنها لتوضع في الميزان فأبشروا).
[7] كنز العمال عن أبي سعيد بلفظ: (يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها ، فان لك بأول قطرة تقطر من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك قالت : يا رسول الله هذا لنا خاصة قال : بل لنا وللمسلمين عامة).
[8] روى ابن ماجة وأحمد والحاكم عن أبي هريرة: (مَنْ وَجَدَ سَعَةً لأَنْ يُضَحيَ فَلَمْ يُضَح فَلاَ يَحْضُرْ مُصَلاَّنَا).
[9]روى السيوطي في الكبير والديلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (إِسْتَفْرِهُوا ضَحَايَاكُمْ فَإنَّهَا مَطَايَاكُمْ عَلَى الصرَاطِ).
[11]رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس بلفظ: (على كل مولود عقيقة تعقُّ عنه يوم السابع تميط عنه الأذى).
[12]أخرجه الدار قطنى وابن عدي وابن سعد في الطبقات عن بن عمر رضي الله عنهما بلفظ: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم).
[13] عمدة القاري شرح صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (للجنة باب يقال له الفرح لا يدخل منه إلا مفرح الصبيان).
[14]أخرج البخاريومسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه) (متفق عليه).
[15] في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).
[16]الطبراني عن حذيفة رضي الله عنه، والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[17]الترغيب في فضائل الأعمال لابن شاهين وآداب الصحبة للسلمي عن أنس رضي الله عنه