في الحقيقة أن سيدنا على زين العابدين قدوة طيبة وعظيمة، ومثالٌ لمن أراد أن يكون من كُمَّل الصالحين، ومن أئمة المصطفين الأخيار.
آخر موقعة للمسلمين في بلاد فارس، كان ملك الفُرس في وقتها اسمه (يُزدجرد) وكان آخر ملك من ملوك الفُرس وقُتل في هذه الموقعة، وكان له بنات ثلاثة وأُسرن، وكُنَّ في غاية الجمال كبنات الملوك.
واحتار سيدنا عمر ومن حوله ماذا يفعلوا بهن؟ فسيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: يُقومَّن، يعني نقدر ثمنهن، ويُدفع ثمنهن ويتحررن ويتزوجهن أحرار، وهذا تكريم لهن.
إحداهن كان اسمها سُلافة، تزوجها سيدنا الحُسين، وهي التي أنجبت سيدنا علي زين العابدين المتبقي من ذرية سيدنا الإمام الحُسين.
والثانية تزوجها سيدنا عبد الله بن عمر، وأنجبت سالم بن عبد الله بن عمر، وكان من خيار العلماء العاملين والأولياء والصالحين.
والثالثة تزوجت سيدنا محمد بن أبي بكر وأنجبت القاسم، وكان من أكابر علماء المدينة في زمانه، والذي أشرف على تربيته السيدة عائشة عمته رضي الله عنها وأرضاها، وكان الثلاثة أولاد خالة.
فلما ذهب الحُسين ومن معه إلى معركة كربلاء كان علي زين العابدين مريضاً فلم يشترك في المعركة لمرضه الشديد، فقد كان عنده حُمَّى شديدة.
فبعد أن أجهزوا على أبناء الحُسين وكثير من أبناء الحسن، قتلوا سيدنا الحُسين، وأصرُّوا على قتل سيدنا علي زين العابدين، لكن السيدة زينب رضي الله عنها احتضنته وقالت: إن كنتم لا بد قاتليه فاقتلوني معه، فتركوه، فهو الوحيد الذي نجا من القتل، ومنه ذرية الإمام الحُسين كلها إلى يوم القيامة.
إخلاص العمل لله
سيدنا علي زين العابدين رضي الله عنه وأرضاه كان مثالاً للشاب الصالح الذي نشأ في طاعة الله، وكان مُقبلاً على طاعة ربه، ولا يغفُل عن طاعة الله طرفة عين ولا أقل، وهو الذي أسَّس العبادة الخالصة لوجه الله، وقال: (لا تعبد الله لنيل عطاء، فتكون كالأجير السوء، لو لم يأخذ الأجرة لم يعمل، ولا تعبد الله خوفاً من ناره فتكون كالعبد السوء، لو لم يخف مولاه لم يُطعه، واعبد الله عبادة الأحرار وهي أن تعبده طلباً لوجهه الكريم).
فوضع الأساس الأول للعبادة الخالصة، لذلك كانت عبادته كلها لوجه الله سبحانه وتعالى، فكانت عبادته تتميَّز بالإخلاص، لا يطلع على عمله إلا خواص الخواص، لأنه يعمل لينال رضا مولاه تبارك وتعالى.
السجَّاد
وكان يُسمَّى السجَّاد، سُئل ابنه محمد الباقر رضي الله عنه: لم سُمي أبوك بالسجاد؟ فقال: لأنه لم يقرأ آية في كتاب الله فيها سجدة إلا وسجد لله، ولم يأته خيرٌ إلا وسجد لله، ولم يُدفع عنه شرٌ إلا وسجد لله، ولم يستجب الله له دعاء إلا وسجد لله!!.
كلما حدث له خير أو يُكفى من شر كان يسجد لله شكراً لله، لأن السجود هو موطن القُرب: ” وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ” (19العلق) وقال صلى الله عليه وسلَّم:
يعني جديرٌ أن يستجيب، فسُمي السجَّاد لأنه يُكثر السجود لله في كل أحواله التي تنتابه في الدنيا توجهاً إلى الله سبحانه وتعالى.
وهذا يُعطينا أنه كان لا يشهد فاعلاً إلا الله سبحانه وتعالى، ويتوجه إليه بالشكر في السراء والضراء وكل أمر من الأمور يحدث له في دنياه.
زين العابدين
وسُمي بزين العابدين لأنه – كما قلت – كانت عبادته خالصة لله، ولا يرجو من ورائها إلا وجه مولاه تبارك وتعالى.
هذا الرجل كان حريصاً على قيام الليل وصيام النهار، حتى أنه سُئلت خادمته عن حاله مع الله، فقالت للسائل: أأُطنب – يعني أوسع في الإجابة – أم أوجز؟ فقال: أوجزي، فقالت: ما فُرش له فراشٌ في الليل قط، وما أكل طعاماً بالنهار قط.
ومعنى ذلك أنه قائم الليل على الدوام، وصائم النهار على الدوام، فحتى الخادمة من مرافقتها له أصبحت حكيمة، فنطقت بألفاظ حكيمة رضي الله عنهم أجمعين.
إقباله على العلم
فكان قائم الليل، صائم النهار، ومع ذلك كان مقبلاً على العلم ويرى أن العلم أُسُّ الفرائض، حتى رُوي أنه كان يتسابق إلى مساجد العلماء في المسجد النبوي، ويتخطَّى الصفوف حتى يجلس بجوار العالم، فقيل له: يا ابن الحُسين أنت في غنىً عن ذلك، قال: ما عُبد الله تبارك وتعالى بخيرٍ من الفقه في الدين، يعني أفضل العبادة الفقه في الدين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:
فكان يتسابق إلى العلماء، وكان أيضاً يُكرم من يأتيه من طلاب العلم لتلقِّي العلم منه، ويقول لهم: (طالب العلم تُسبِّحُ كل أرض تحت قدمه إلى الأرض السابعة) حتى يُشجعهم على طلب العلم، فكان يتلقَّى العلم، ويُلقِّن العلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.
المُحدِّث
ولم ينس وهو في ذلك أن يجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، حتى أن أول من دوَّن الحديث النبوي في عصر سيدنا عمر بن عبد العزيز الإمام الزُهري، والإمام الزُهري تلقَّى الحديث من الإمام علي زين العابدين، ولذلك يقول المحدثون: خير سندٍ في الحديث الزُهري عن علي زين العابدين.
يعني كان له باع طويل في الحديث الشريف الذي سمعه من السيدة عائشة، ومن سيدنا الحُسين، ومن سيدنا الحسن، ومن الصحابة الذين كانوا في زمانه، فكان يجتهد في جمع الأحاديث رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.
المحسن
ودخل إلى الله عز وجل من بابٍ لا يستطيع وُلُوجه ولا دخوله إلا خيار أحباب الله سبحانه وتعالى، لأن باب العبادة قد يستطيع دخوله كثيرٌ من الناس، لأن العبادة سهلة على النفس، لكن أشد الأبواب مشقة على النفس باب الصدقة وإخراج المال.
لا يستطيع الجود إلا من قلبه خرجت منه الدنيا، وتعلَّق بالواحد المعبود سبحانه وتعالى، وهذا الدليل الأعظم على محبة العبد لمولاه.
كثيرٌ من العُبَّاد قائمين الليل صائمين النهار لكنهم شحاح وبُخلاء، وهؤلاء لا يُحصِّلون من فضل الله قليلاً ولا كثيراً، فقد قيل: ((أقبح القبيح صوفي شحيح)) لا بد للصوفي أن يجود بما في يده، وقال الله تعالى في حديثه القدسي وهو يُغني الكل:
ودعاء الملائكة مستجاب، وكما اتفقنا من قبل وقلنا: أن القرآن لم يجعل عُذراً للإنسان في الإنفاق، لأن الله قال: ” الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ “ (134آل عمران) فهل هناك عُذر بعد ذلك؟! لا، فجُد بما عندك، قال صلى الله عليه وسلم:
يعني نصف تمرة، المهم أن الإنسان يُعوِّد نفسه على العطاء، حتى يدخل في دائرة المعطي تبارك وتعالى.
فكان رضي الله عنه وأرضاه يجود بكل بما عنده، حتى قيل أنه قاسم مولاه في ماله مرتين، يعني يأتي على ماله ويُقسِّمه نصفين، نصفٌ يُخرجه لله، ونصفُه لضرورياته هو وأهله.
ورُوي أنه عندما تُوفي وأرادوا تغسيله وجدوا له (كالُّو) كبير في ظهره كأنه كان يعمل عتَّالاً، مع أنه كان مرفهاً، فتعجبوا، وبعد مرور مدة من الزمن انكشفت مائة عائلة في المدينة المنورة، ولا يجدون ما يسد رمقهم من الطعام، فسألوهم: كيف كنتم تعيشون؟! قالوا: كان يأتينا رجلٌ في الليل يحمل جوالاً فيه دقيق، ووعاء فيه سمن، وصُرَّة فيها مال، ويطرق الباب، وعندما نقول: من ونخرج، نجد هذه الأشياء، ولا نجد هذا الرجل.
من هذا الرجل؟ سيدنا علي زين العابدين، ما الذي كشف أمره؟ أحد المعاصرين المباركين له وهو محمد بن الزُبير رضي الله عنه، رآه في ليلة شاتية يحمل الدقيق على ظهره، والسمن في يدٍ، والصُرة في يدٍ، والبرد كان شديداً، فقال: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم دع غلامي يحمل عنك، قال: لا، قال: أحمل أنا عنك، قال: لا، قال: ولِمَ؟ قال: لأني أعُدُّ هذا ليومٍ شديد، فظنَّ أن هذا اليوم الشديد في الدنيا، وأنه سيضعهم في مخزن، فقال له: هو يوم القيامة!، فكانت القيامة منه على بالٍ على الدوام.
الحليم
الذي يُظهر جمال هذا الولي حُسن تخلقه بأخلاق النبي، فكان مثالاً عظيماً لخُلُق الحلم، والحلم خُلُق الأنبياء: ” إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ” (114التوبة).
متى تعرف أنك سُجلت في ديوان الأولياء واكتملت ولايتك؟ إذا وجدت نفسك حليماً في المواقف التي تستدعي شدة الغضب، فإذا كنت لا تزال تغضب وتثور، فأنت لا زلت في حاجة لأن تجاهد نفسك، وتحاول أن تتلقَّى النور من أهل النور لتتَّصف بالوصف الكريم الجميل الذي كان سيدنا رسول الله يتَّصف به، وكذلك أنبياء الله وأحباب الله الصادقين الصالحين.
جماعة من العرب وهم قبيلة قيس جاءوا في عام الفتح لزيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فلما وصلوا على باب المدينة أسرعوا كلهم للقاء رسول الله، إلا كبيرهم وحكيمهم وكان اسمه الأشجِّ، لأنه وهو صغير وقع فحدث له شجّ في رأسه، فقال لهم: لن أدخل هكذا، قالوا: لماذا؟ قال: أنا قد جهزت ثوبين جميلين، فسأغتسل أولاً ثم ألبس الثوبين وبعد ذلك أذهب لأزور حضرة النبي!!.
لكنهم أسرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم، فسألهم النبي عن الأشجّ، لأنه يريد أن يلفت نظرهم – ليس للأشج – ولكن للصفات الكريمة التي في هذا الرجل، فقالوا: إنه يفعل كذا وكذا، فلما جاء الأشج قال صلى الله عليه وسلَّم له:
يعني حليم وتتأنَّى، فكان الإمام علي زين العابدين مثالاً أعظم لا يستطيع مضاهاته ولا مماثلته إلا الأقلين في خُلُق الحلم، فقد حدث ذات مرة أن جارية له كانت تصبُّ عليه الماء، فسقط الإبريق في الطست، وتناثر الماء على ملابسه، والمياه التي في الطست غير نظيفة، فقالت: ” وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ “ (134آل عمران) قال: كظمتُ غيظي، قالت: “ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ “ (134آل عمران) قال: عفوت عنك، قالت: ” وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ “ (134آل عمران) قال: اذهبي فأنت حُرة لوجه الله تبارك وتعالى، فمن يفعل ذلك غير هؤلاء العلماء.
وحدث نقاش بينه وبين ابن عمه الحسن بن الحسن، وبعد أن انتهى النقاش وانصرفا، ذهب إلى بيت الحسن بن الحسن، وقال: يا ابن عم إن كان فيَّ ما تقول، فقد غفرتُ لك، وإن كان ليس فيَّ ما تقول فقد عفوت عنك!!.
ما هذه الأخلاق؟! وأين هذا الكلام؟! كان يؤدب الناس بمثل هذه الأخلاق.
رجل استأجره قوم ليؤذيه، فجعل يمشي وراءه ويسُبه وهو لا يلتفت، فجاء الرجل إليه وهزه وقال: إياك أعني، قال: وأنا عنك أُغضي!!، يعني أنا سمعتك ولكنني أغضي عنك: ” وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ “ (199الأعراف).
هذه أخلاق النبوة، ولن يكون عليها إلا خاصة أهل الفُتوة، لكن أهل النفوس صعب عليهم هذه الأمور، فهي تحتاج إلى جهاد شديد، جهاد الصديقين والأفراد المرادين لرب العالمين سبحانه وتعالى.
ورجل آخر مشى خلفه يشتم فيه، فقال: يا أخي إن أمامي عقبةً كئود وهي النجاة يوم القيامة، فإن نجوتُ منها فأسامحك في كل ما قلته، وإن لم أنجُو منها فأنا أستحق كل ما قلت!، فكان يُضرب به رضي الله عنه المثل في هذا الحلم العظيم.
برّه بأمِّه
ومن أخلاقه الكريمة التي يحتاجها شبابنا برِّه الشديد بأُمه، حتى أنه من شدة برِّه بأمه، كان يُحضر لها الطعام ويرفض أن يأكل من الطبق الذي تأكل منه، فقيل له: لم لا تأكل معها؟ فقال: أخاف أن تشتهي عينها شيئاً في الطبق فأسبقها إليه فأكون قد عققتُها!، فأين نحن في هذا الزمن من هذا الحال؟!! نحن نخطف الشيء من يديها، وهم مسامحون، لكنه أدب عالي كان عليه رضي الله عنه وأرضاه في بره لأمه.
كان منشغلاً بربه بالكلية، ولم يفتح لنفسه باب السياسة، ولا باب المناوشات والفتن، واشتغل بالله تبارك وتعالى طوال حياته.
وعندما أراد الشيعة في العراق أن يستفزوه، ويحرضوه ليخرج بزعم أن يأثر لأبيه الحُسين رضي الله عنه، فدخلوا عليه ووقعوا في الصحابة – وهي آفة الشيعة – فقال لهم: هل أنتم من الذين قال الله فيهم: ” الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ الله وَرِضْوَانًا “ (8الحشر)؟
قالوا: لا، قال: هل أنتم من الذين قال الله فيهم: “ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالايمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ “ (9الحشر)؟ قالوا: لا، وهو يقصد المهاجرين والأنصار، قال: وأنا أشهد أنكم لستم من الآية التي تقول: ” رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالايمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ “ (10الحشر) قوموا من عندي غضب الله عليكم ولعنكم ولا تعودوا إلي أبداً، وطردهم شر طردة، لأنهم يريدون أن يقعوا في الصحابيين الجليلين أبو بكر وعمر، وفي زوجات النبي وفي غيرهم.
فظلَّ وفياً على عهده حتى لقي الله سبحانه وتعالى على هذا النهج الكريم.
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
—————————————————
وباديء ذي بدء ألفت النظر إلى أن سيدنا على زين العابدين نفسه ابن الإمام الحُسين مات في المدينة المنورة ومدفونٌ بها، أما المقام الموجود هنا في مصر فهو مقام ابنه زيد بن علي زين العابدين، لكن الناس كانوا طيبين فأقاموا ضريحين، ضريح لزيد، وضريح لسيدنا علي، لكن الموجود الآن ضريح واحد.
سيدنا علي زين العابدين هو الوحيد الذي نجا من القتل في معركة كربلاء حيث كان مريضاً، وكل أولاد الحُسين توفوا في المعركة أمام أبوهم، فلما تزوج سيدنا علي زين العابدين أنجب أربعة أولاد، فبعض الناصحين له من حوله قالوا له: أنت لا بد أن تتزوج أكثر لتزيد من عدد أولادك لتعوض من ماتوا من إخوتك، وتحفظ نسل الإمام الحُسين، فقال لهم: كيف أتزوج؟ فقالوا له: تسرَّى، يعني اشتري الإماء، ويلدن، والإسلام فيه حُكمٌ في غاية الجمال، أن الأمَةَ إذا حملت من سيدها وولدت له فلا بد من عتقها، والإسلام شجَّع على هذا الأمر، فكان من هؤلاء السراري ابنه زيد.
سيدنا زيد بن علي زين العابدين ما الذي جاء به إلى مصر؟ كان قد فتح الفتاح عليه بالعلوم الوهبية، والأسرار القرآنية، مع أنه كان شاباً في مقتبل العمر، وكان في غاية من الطلاقة في اللسان والبلاغة في المنطق.
وحدث له موقف مع والي المدينة، وأهانه والي المدينة، فذهب إلى الخليفة الأموي في ذلك الوقت في دمشق وكان هشام بن عبد الملك، ولكن الخليفة زاد في إهانته، فتركه حتى أنهى كل أمور الناس، مع أنه من المفروض أن يبدأ به أولاً، لأنه من آل بيت النبي، وبعد أن مشى الناس كلهم جاء به وكلَّمه بكلام في غاية الإهانة!!، وقال له: لم أتيت إلى هنا؟! أنسيت أنك ابن أَمَة؟!!، الملوك كانوا جبابرة، فقال: إذا كنت أنا ابن أَمَة، فإسماعيل كانت أُمُّه هاجر أَمَةً لسارة!، وكان فصيح اللسان.
لكن الخليفة أسمعه من الكلام ما جعله يتأثر تأثراً بالغاً، فخرج من عنده عاقداً العزم على أن يقوم بعصيانه وبثورةً عليه، وهدفه الأصلي ليرُد الخلافة لمن يستحقها، وهذه كانت وجهة نظره السديدة.
صادف هذا الأمر هوى أهل الكوفة، الذين دعوا جده الحُسين وخانوه!، وهذه طبيعتهم، فقد دعوا الحسين وأرسلوا له وقالوا: أن هناك مائة ألف سيف في انتظارك، فأرسل سيدنا الحُسين ابن عمه مسلم بن عُقيل ليستوثق من ذلك، فقابلوه وصلى خلفه صلاة المغرب عشرون ألفاً، فأرسل إلى سيدنا الحسين رسالة وقال له: الناس هنا في انتظارك، كما ذكروا له.
بعد أن أرسل مسلم بن عقيل الرسالة ووصلت الحُسين أخذ أهل بيته وكانوا سبعين رجلاً، وخرج، وفي الطريق قابل الشاعر الفرزدق وكان يُحب آل البيت، فقال له: من أين أتيت؟ قال: من العراق، قال له: ما حالهم؟ قال: قلوبهم معك، وسيوفهم عليك، وهذا خير تعبير عن هؤلاء الأقوام، صحيح أنهم يحبوك ولكنهم سيحاربوك لأجل الدنيا.
وفي اليوم التالي وجد مسلم بن عُقيل المسجد مملوء على نهايته، وصلى بهم، وكان الوالي قد سمع بهذا التجمع في المسجد فأرسل قواته، فبمجرد أن قال مسلم بن عقيل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لم يجد أحداً خلفه، وكل من في المسجد خرج، فعرف أن الأمر فيه خدعة، ولم يتمكن من إرسال رسالة لسيدنا الحُسين، وهو أيضاً كان في خطر.
فأهل الكوفة أغروا سيدنا زيد بن علي زين العابدين أن يذهب إليهم وهم سيساندوه ويناصروه، فنصحه المقربون وقالوا له: سيفعلون معك ما فعلوه مع جدك، لأن هؤلاء القوم ليس لهم عهد، لكنه خُدع بكلامهم وذهب، وفعلاً اجتمع حوله حوالي أربعين ألفاً، إلى أن سمعت القوات الأموية والجيش الأموي وجاءوا، فبحث حوله فلم يجد إلا مائة وخمسون رجلاً!!، وفرَّ الباقين!.
وكانت النتيجة أنه قُتل، وبعد أن قُتل كان أولاده معه، ويعرفون أن الحكام جبابرة، فدفنوه خُفية في مكان حتى لا يعرفه أحد ويمثِّلوا به.
لكن عن طريق الجواسيس والمال عرفوا مكانه وأخرجوه، وحزُّوا رأسه، وأرسلوه إلى هشام بن عبد الملك، وصلبوا الجسم بمسامير في خشبة وهو عاري، وصمم هشام بن عبد الملك أن يدور به على العالم الإسلامي بهذه الكيفية!، وكان من إكرام الله لهذا الرجل الصالح أن الله عز وجل أرسل عنكبوتاً فنسجت على عورته حتى لا يراها أحد، وكلما وجَّهوا الخشبة التي كان عليها إلى غير القبلة، يجدون الخشبة تتجه إلى القبلة.
فبعد ذلك اضطر هشام عندما وجد الضغوط، فقال لهم: أحرقوا الجسم حتى يصير رماداً وارموه في الفرات، والرأس نجعله يدور في البلاد.
فجاءت الرأس ووصلت مصر، وأرادوا أن يعلقوها في مكان عام ليراها الناس، لكن أهل مصر لأنهم يحبون آل البيت جماعة منهم سرقوا الرأس، ودفنوها في الموضع التي فيه الآن، وظلت في هذا الموضع حتى جاءت الدولة الفاطمية فبنوا في هذا الموضع ضريحاً ومسجداً وسموه باسم سيدنا علي زين العابدين، حتى أن الحي كله سُمِّي بالإسم، ومع التحريف صار اسمه (حي زينهم) نسبة إلى زين العابدين.
فالموجود عندنا في القاهرة هو سيدنا زيد بن علي زين العابدين، وهو صاحب المذهب الزيدي الذي انتشر في بلاد اليمن، وهو كان أقرب المذاهب الشيعية إلى أهل السُنَّة حتى وقت قريب، إلى أن استولى عليه الإيرانيون وحولوهم إلى المذهب الإثنى عشر الذي هم عليه الآن.
والفرق بين المذهب الزيدي والمذاهب الأُخرى أنه يرفض سبُّ الصحابة، ولذلك كان سبب تخلي عدد كبير من أهل العراق عنه أنهم سألوه: ما رأيك في أبو بكر وعمر؟ فقال: خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعجبهم وتركوه، فقال لهم: أنتم الرافضة، وسماهم الروافض، لأنهم يرفضون تبجيل وتعظيم الصحابة المباركين وزوجات النبي أمهات المؤمنين.
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم