• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

17 أكتوبر 2018م

سيدى أحمد البدوى فوائد (وعبر من حياة الصالحين )

فضيلة الشيخ/ فوزي محمد أبوزيد

شارك الموضوع لمن تحب

سيدنا أحمد البدوي رضي الله عنه وأرضاه

————————————

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على جميل آلائه، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه، باب السعادة لأوليائه، وسرُّ الشفاعة العُظمى يوم لقائه؛ سيدنا محمد وآله وصحبه والناهجين على هديه إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم في الفضل الإلهي العظيم، والنظر إلى جمال الله في يوم التكريم .. آمين آمين يا رب العالمين.

سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه وأرضاه، هذا الرجل العظيم الذي نال كل التكريم والتبجيل والتعظيم من حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم الرءوف الرحيم، ومن مولانا سبحانه وتعالى المعطي الكريم.

العبرة في قصص الصالحين

وحياة الصالحين كقصص الأنبياء والمرسلين في كتاب رب العالمين، يجمعها قول الله تعالى في قرآنه: ” لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ “ (111يوسف).

والصالحون أُسوة لنا أجمعين، لأن الأنبياء والمرسلين لهم خصوصيات عند ربهم، ولهم اصطفاء من قبل القبل، ولهم عناية ربانية، ولهم عصمة حتى من هفوات النفس وخواطرها الردية، ووساوس إبليس وشياطينه لعنة الله عليهم أجمعين.

فلا يستطيع الإنسان أن يسوق نفسه إلى الله إذا خصَّ بالتأسي رُسل الله وأنبياء الله، لأن النفس تدخل له بسيل طويل من الأعذار، فتقول له: ما شأنك وشأن الأنبياء؟ وما شأنك والمرسلين؟ هؤلاء مجتبين ومصطفين ومعصومين، والقرآن يؤيدهم: ” إِنَّ الله اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ “ (34) (آل عمران) اصطفاهم من قبل القبل.

ومعهم العصمة الإلهية، فلا تخطر الذنوب ولا المعاصي ولا الغفلة على قلوبهم قط، لأن الله رباهم على عينه.

لكن الذي يسوق النفوس إلى حضرة المليك القدوس سوقاً حثيثاً إذا استحضرت رجالاً أمثالنا أقبلوا على الله، وأقبل عليهم الله، وأحبوا بالكلية سيدنا ومولانا رسول الله، فوالاهم صلى الله عليه وسلَّم بما يُزيل عنهم الحجب بالكلية، ويجعلهم يتمتعون بأعين القلوب بالنظر إلى الغيوب، والنظر إلى ما لا نستطيع وصفه من جمال حضرة علام الغيوب سبحانه وتعالى.

فهذا الذي يقيم الحجة على النفس، لماذا؟ لأنهم مثلنا، ولكن عندهم العزيمة، وقوة الشكيمة، وصلابة الإرادة، وصدق النية، وصفاء الطوية، والإخلاص لله سبحانه وتعالى بالكلية، كل ما في الأمر أن يدخل الإنسان في هذه الأوصاف الربانية حتى ينال ما نالوا:

              فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم           إن التشبه بالرجال فلاح

ولذلك كان الإمام الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة يقول: ((حكايات الصالحين جُندٌ من جند الله، تسوق النفوس سوقاً حثيثاً إلى حضرة المليك القدوس)).

أنواع الكرامات

ولذلك نحن نركز دائماً في سير الصالحين ليس على الكرامات، لأن الكرامات أنواع، فقد تكون الكرامة تأييد من الله، وهذا لأولياء الله الذين يبلغون رسالات الله.

وقد تكون الكرامة استدراجاً لإنسان زلَّ وضلَّ، فأغواه الله وزاد في ضلاله بما يُجريه على يديه، وهو يظن أنه على صواب: ” قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا “ (75مريم) إذا كان لا يريده يُمده في الضلال.

وقد تكون الكرامة فتنة، إذا ظهرت على يد من لا يؤمن بالله عز وجل، كما تظهر على يد الذين يجاهدون أنفسهم من الهنود في رياضة اليوجا، أو من الرُهبان الذين يفرون إلى الأديرة والجبال، وقد يصل إلى أمرٍ يُسخر الله له النفس، فيُظهر ما يُشبه الكرامة، فيكون فتنةً لمن يراه.

ولذلك لا نُركز في ذكر الصالحين على ما أجراه الله على أيديهم من كرامات، إلا إذا كانت في باب الهداية، أو في باب الدلالة على الله سبحانه وتعالى.

ما نحتاجه من حياة الصالحين

أما الذي نُركِّز عليه فهو أمرين ونحن في أمس الحاجة إليهما:

الأمر الأول:كيف جاهد هذا الولي نفسه حتى فتح الله عليه ووصل إلى الفتح الأعظم؟.

الأمر الثاني: كيف كان يُربي أحبابه؟ وما المنهج الذي سلكه في تربيتهم ليكونوا من أهل الفتح؟.

فهذا الذي نحتاجه من الولي، وهذا المنهج الذي سلكناه فيما كتبناه عن الصالحين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وأظن أن هذا هو المنهج العلمي الرشيد والسديد.

قرأت كتاباً عن سيدي أحمد الرفاعي، وكان قد كتبه أحد القُدامى، فكدتُ آتي بنار وأُوقدها فيه!!، للخرافات التي لا يقبلها حتى السُذَّج، والتي يعتبرها كاتبه كرامات لهذا الرجل الصالح.

وما أغنى هذا الرجل الصالح عن مثل هذه الأشياء التي لا تُعضدها شريعة ولا يقبلها عقل، ولا ثابتة في أي نقل!!، لكن الناس تُضخم مثل هذه الأشياء، ويظنون أن هذا من الحب، وهذا من الغباء وليس من الحب، لأن المحب لا يُظهر من جمال حبيبه وأوصافه إلا ما تتقبله نفوس السامعين وعقول الحاضرين، قال صلى الله عليه وسلم:

{ أُمرْتُ أَنْ أُخَاطِبِ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِم }[1]

أسلوب النبي الحكيم في دعوته

سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ضرب لنا المثل العظيم في ذلك، متى كانت رحلة الإسراء والعراج؟ في مكة قبل الهجرة بعام، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يُخبر أحد ممن حوله من المسلمين وغير المسلمين إلا بالإسراء، ولم يذكر المعراج، لأنهم إذا كانوا لم يصدقوا بالإسراء، فهل سيصدقوا بالمعراج؟!!.

فلم يذكر المعراج إلا في المدينة لخاصة أصحابه، ولم يذكر مشاهد المعراج كلها جملة واحدة في مقام، بل الروايات التي تجمع رسالة الإسراء والمعراج حوالي أربعة وستون رواية، وكل رواية تحكي عن جانب من هذه الرحلة، فكلما جلس في مقام يتحدث بما يليق بهذا المقام، وما تتقبله نفوس الجالسين، ولا يحصل عندهم أي أمرٍ فيه منافاة لقول رب العالمين: ” فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا “ (65النساء).

فيُعلِّمنا حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم أن الإنسان لا يُبيح إلا لمن يتأكد أن عنده استعدادٌ للاستجابة وليس السماع، فقد يكون عنده استعداد للسماع ولكنه يُحضِّر مع السماع آلة النقد، فيسمع لينقد، ومثل هذا نحن في غنىً عنه وعن نقده، فلا نقول له كثير ولا قليل.

لكن أنا أتكلم مع أصحاب القلوب السليمة، والعقول المستقيمة، والأحوال الكريمة الذين يريدون أن يمشوا على هذا المنهاج.

نشأة السيد أحمد البدوي

سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه وأرضاه من ذرية الإمام الحُسين رضي الله عنه، من آل البيت الطيبين الطاهرين.

وآل بيت النبي بعد فتنة الإمام الحُسين، تعقبهم بني أُمية واضطهدوهم، فاضطروا إلى السفر إلى جهات بعيدة وهاجروا إليها ليأمنوا على أنفسهم فيها.

فهاجر كثيرٌ منهم إلى بلاد المغرب، ومن ضمنهم أجداد السيد أحمد البدوي، وهو اسمه أحمد، وكلمة السيد تُطلق على آل البيت، لأن سيدنا رسول الله قال عن سيدنا الحسن وسيدنا الحُسين:

{ الحَسَنُ و الحُسَيْنُ سَيِّدا شَبَابِ أهْلِ الجَنَّةِ }[2]

وقال عن سيدنا الحسن:

{ إنَّ ابْني هذا سيِّدٌ، وسَيُصلِحُ اللهُ بِهِ بَينَ فِئَتَينِ عَظِيمَتَينِ مِنَ المُسلِمينَ }[3]

فعندما نذكر واحداً من آل البيت وخاصة الصالحين منهم نقول: السيد فلان، فالسيد لقب لآل البيت، وخاصة الصالحين منهم.

هاجر أجداد سيدي أحمد البدوي إلى بلاد المغرب، وعندما بلغ من السن حوالي سبع سنين رأى أبوه في المنام رؤيا تأمره أن يأخذ أولاده وأُسرته ويتوجه بهم إلى مكة، فأخذ زوجته وأولاده كلهم بما فيهم أحمد وتوجه إلى مكة، فتربَّى سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه في مكة.

تربيته

ما المنهج الذي سلكه في تربيته؟ لو راجعنا هذا المنهج وراجعنا حياة الصالحين نجد أن هذا المنهج طبق الأصل مع الكل:

1 ـ حفظ القرآن الكريم.

2 ـ دراسة الفقه وأحكام الشريعة.

3 ـ الاجتماع على شيخ يُوصِّله إلى الله.

4 ـ الزهد في الدنيا.

5 ـ جهاد النفس حتى يأتي الفتح.

كلهم على هذه الشاكلة، فهذا منهج الصالحين، وتستطيع أن تطبقه عليهم أجمعين، ودوواين الصالحين وسير الصالحين موجودة.

فبدأ أولاً فحفظ القرآن الكريم، ولم يكتف بالحفظ والتجويد، بل حفظه بالقراءات السبع في مكة.

ثم درس الفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبرع فيه حتى ألَّف فيه كتاباً اسمه (الجوهرة) يعني أنه أصبح عالماً في الفقه.

وبحث عن الشيخ فجمعه الله على رجل من الصالحين من أتباع سيدي أحمد الرفاعي المبرزين واسمه الشيخ بِرِّي، فأخذ عليه العهد ولقنه ولازمه ليحدث له الفتح.

وزهد في الدنيا، وهذا أساس من أُسس الصالحين، وأراد أن يفتح الله عليه، ولأنه كان في مكة، فاختار الموضع الذي كان يختلي فيه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم موضعاً لخلوته، وهو غار حراء، فاختلى في غار حراء.

ومريد الفتح لا بد له من أسباب ووسائل خمسة، إذا مشى عليها فتح عليه الفتاح، فيلزمه الإقلال من الكلام، والإقلال من الطعام، والإقلال من المنام، والإقلال من مخالطة الأنام، وبعد ذلك الخامسة وهي ذكر الله على الدوام.

لكن لو أن إنساناً ظلَّ طوال النهار يتكلم مع هذا، ويُثرثر مع هذا، فهل يأتيه الفتح؟!! هل سيأتيه في القيل والقال؟! أو في الغيبة والنميمة؟! أو في الثرثرة؟! وقد قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ }[4]

زينة السالكين الصمت

والثرثارون الذين لا يقفون عن الكلام، ولذلك زينة السالك في طريق الله تعالى الصمت، فإذا رأيت السالك قد ترك هذه الزينة فاعلم أن قلبه خُواء، ليس فيه شيء من العطاء الإلهي أبداً، لأن لو دخل فيه العطاء فوراً اللسان سيتوقف عن الكلام مع الأنام، لأنه يريد مزيد من العطاء من الله.

واسمع إلى الله وهو يقول عن موسى كليم الله ونبي الله: ” وَيَضِيقُ صَدْرِي “ (13الشعراء) من كثرة العطاءات التي نزلت فيه: ” وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي “ (13الشعراء) يريد أن يستزيد من هذه العطاءات، فإذا تكلم مع الخلق فلن يكون له عطاء دائم ومستمر من الحق سبحانه وتعالى.

فاتخذ سيدي أحمد البدوي هذا المنهاج في خلوته في غار حراء، وقد ذهب إلى غار حراء ليبتعد عن الناس، وهذا هو البعد عن الأنام، وبالتالي بُعده عن الأنام يقتضي أن يُقلل من الطعام، لأنه لا يوجد طعام متوفر له على الدوام، وقلة الطعام بالطبع تجلب قلة المنام، فغفوة تكفيه في اليوم والليلة، وكل ذلك يجعله ينشغل بذكر الله سبحانه وتعالى على الدوام.

عبادته

ما الأذكار التي كان يذكر بها مولاه؟ كان رضي الله عنه بعد منتصف الليل يمكث يتلو القرآن بتدبر حتى مطلع الفجر، لأن تلاوة القرآن بتدبر هي العبادة العُظمى للصالحين والعارفين، قال فيها صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَفْضَلُ عُبَادَةِ أُمَّتِي قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ }[5]

فلماذا يُعطينا الصالحون أوراداً أُخرى كالاستغفار والصلاة على النبي وغير ذلك؟ هذا حتى تطهر النفس، ويصفو القلب، لأن لذة القرآن، وشهود المعاني الغيبية والأسرار الربانية في القرآن، يحتاج إلى صفاء القلب والسريرة، فإذا اشتغل الإنسان بالذكر والاستغفار ليجلي بهم القلب، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ لِلْقُلُوبِ صَدَأً كَصَدَأِ الْحَدِيدِ وَجَلاؤُهَا الاسْتِغْفَارُ }[6]

وفي رواية أخرى:

{ تِلَاوَة القُرْآن، وَذِكْرُ الله تَعَالَى }[7]

وعندما ينجلي القلب فلن يجد لذَّة أعظم من تلاوة كتاب رب العزة سبحانه وتعالى: ” إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا “ (78الإسراء) وليس منظوراً، فيشهد معاني هذه الآيات القرآنية بعين قلبه، ويشهد ما لا يستطيع أحدٌ وصفه، ولا الحديث عنه من غيوب معاني آيات الله سبحانه وتعالى، وهذه العبادة العُظمى وهي تلاوة القرآن.

وباقي أوقاته كان يقضيها في ذكر الله، حتى قال سيدي عبد المتعال خادمه: صحبتُ سيدي أحمد البدوي أربعين عاماً فما رأيته غفل عن ذكر الله طرفة عين!!.

لم يغفل عن ذكر الله في هذه الأربعين سنة، لا في النوم، ولا في اليقظة، ولا في الحركة، ولا في السكون، ولا في المشي، ولا في القعود، ما هذا؟! يتأسَّى برسول الله، فعن هند بن أبي هالة رضي الله عنه كان يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:

{ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يَجْلِسُ وَلا يَقُومُ إِلا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ }[8]

لا يقوم إلا على ذكر، ولا يخرج إلا على ذكر، ولا يدخل إلا على ذكر، ولا يجلس إلا على ذكر، ولا ينام إلا على ذكر، وإذا نام كان كما قال:

{ تَنَامُ عَيْنِي، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي }[9]

يشتغل بذكر الله على الدوام، لكنه ارتفع إلى المقام الأعلى في الذكر، فإن الذكر باللسان حسنات، والحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله لمن يشاء، لكن ذكر القلب للقربات، فكان يذكر الله بقلبه.

والذكر بالقلب لا يراه أحد، فالذاكر الذي يذكر الله بقلبه لو أنك جالسٌ معه فلن تلاحظ شيئاً، لأنه ذكر آخر يقول فيه الإمام أبو العزائم: (القلب يذكر والجميل أمامي) ويقول: (ذكرٌ شهودٌ مشهدٌ جمعيةٌ) فهذا ذكرٌ آخر.

ولذلك كان رضي الله عنه وأرضاه يقول لمريديه عندما يراهم يشتغلون بذكر اللسان ويستديمون على ذلك، ولا يريدون أن ينتقلوا أو يرتقوا: (ذكر اللسان شقشقة) فلن يصلوا إلى شيء، لكن لا بد أن يرتقوا إلى ذكر القلب: ” أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ “ (28الرعد).

التمسك بالشريعة المطهرة

دام على هذا الحال في غار حراء سبع سنوات، ومع هذا ضرب المثل الأعظم في التمسك بشرع الله سبحانه وتعالى، فغار حراء بينه وبين مكة حوالي خمسة كيلومترات، ولم يكن هناك مواصلات غير الإبل والخيول، لكنه رضي الله عنه كان لا يُصلي فريضة من فرائض الله من الصلوات الخمس إلا في بيت الله الحرام.

لنعرف مع أنه إمام المجذوبين إلا أنه كان يحافظ على الشريعة، فعلامة المجذوب أن يحافظ على المكتوب، فمهما كانت شدة جذبه، إلا أن الله يوقظه في الوقت الذي يُحب أن يناجي خلقه فيه، ليناجي الله مع خلق الله.

فكان يُصلي كل فريضة في البيت الحرام، ولو ذهب أحدكم هناك فإن طلوع الجبل هناك يستغرق ساعتين، والنزول كذلك، فكيف يذهب لمكة؟! وكيف يرجع من مكة؟! لكن هؤلاء الرجال اعتمدوا في حساباتهم على قول الله: ” فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله “ (159آل عمران).

إذا عزم الإنسان على أي أمر بصدق ويقين، فإن الله عز وجل يُسخِّر له ما في السماوات وما في الأرض ليُحقق مراده لأنه لا يريد إلا وجه الله سبحانه وتعالى.

فيطوي له الأرض، فيقطع الأرض في خطوات، فما يقطعه الناس في ساعات، هو يقطعه في لحظات، ولا تقُل كيف؟! لأن هؤلاء لهم ما يشاءون عند ربهم، ما دام يريد رضا الله سبحانه وتعالى.

فلا يريد أن تُطوى له الأرض لكي يقول الناس: الشيخ أحمد البدوي له كرامة كذا، فهو يريد ذلك ليُعلن أمام الخلق أن هذا إمام المجذوبين أشد الناس تمسكاً بشريعة رب العالمين.

إذاً أين عُذرنا نحن أجمعين؟!! فالواحد منا قد يكون بجوار المسجد في الطابق الثالث أو في الطابق الرابع ويتكاسل أن يُصلي في المسجد مع الجماعة، ويُصلي في البيت!.

فانظروا أين أنتم، وأين أهل الفتح؟!!، لا بد أن يكون عند الإنسان العزيمة القوية ليبلغ ما بلغوا، وينال ما نالوا.

وواصل رضي الله عنه وأرضاه خلوته في غار حراء، وكانت عبادته بعد تلاوة كتاب الله، وذكر الله، عبادة سيدنا رسول الله وعبادة الأنبياء والمرسلين وهي التفكر، فكان يقف أمام الغار ويتفكر في مخلوقات الله تعالى، ولكن حالة التفكر هذه لم تكن برؤيا العين، ولكن كانت من باب: ” وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ” (75الأنعام).

ولذلك يُذكر عنه أنه كان أحياناً يقف أمام الغار أربعين يوماً كاملة، لا يجلس، ولا ينام، ولا يأكل، ولا يشرب، ومأخوذ بما يشاهده من المشاهد العلية التي ورث فيها مقام الخُلة الإبراهيمية: ” وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ “ (75الأنعام).

سياحة العارفين

إلى أن فتح عليه الفتاح سبحانه وتعالى، وبعد أن فتح الله سبحانه وتعالى عليه ليُكمل تربيته أمره سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بالسياحة الجسمانية والملكوتية إلى بلاد العراق، فراح العراق، وزار الصالحين بما فيهم سيدي عبد القادر الجيلاني، وسيدي أحمد الرفاعي، وغيرهم.

ومن الوقائع التي تبين قوة شكيمته، وصدق عزيمته، أنه يقول: عندما توجهتُ إلى العراق أتاني سيدي عبد القادر الجيلاني، وسيدي أحمد الرفاعي وقالا: هاك مفاتيح بلاد العراق – يعني يسلموه مفاتيح العراق – قال: فقلتُ: أنا لا آخذ المفتاح إلا من يد الفتاح!!، انظر إلى قوة العزيمة وقوة الإرادة لهؤلاء الرجال أهل الكمال.

وبعد أن اكتمل في طريق الله، وتوالت عليه الفتوحات الإلهية، وأعظمها وأكرمها المداومة على رؤية الحضرة النورانية المحمدية، وتلقي الأحوال عنها كفاحاً، فجاءه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مناماً وقال: يا أحمد اذهب إلى طنطدا – طنطا في مصر – فإن لك بها حالاً وسُتربي بها رجالاً، وأخذ يعد له: عبد العال، وعبد الرحمن، وعبد المجيد، وذكر له أسماء الرجال الذين سيُربيهم في مجيئه إلى مصر.

إذا أقامك أعانك

والله سبحانه وتعالى إذا أقام الإنسان في مقام أعانه على بلوغ المراد، ولذلك قالوا: (إذا أقامك أعانك) أُمر بالتوجُّه إلى مصر، وكان أيام الحج، فبينما هو في الحرم إذا برجل يتعرف عليه، وبعد أن تعرف عليه قال له: تعالى زرنا في بلدنا، فسأله: ما بلدك؟ قال: أنا شيخ بلد اسمها طنطدا في مصر، فتعال اصحبني وأُضيِّفك عندي!!.

أرسل إليه الله من يأخذ بيده، ويجهز له المكان، فجاء في صُحبته إلى طنطا، ويُعرِّفنا أدب الصالحين، فدخل البيت، ومن لحظة أن جاء هنا – لإقامة الله له – أرسل الله إليه أرواحاً تقية نقية تتلقَّى عنه طريق القُرب لله سبحانه وتعالى.

فقال لصاحب البيت: أنت تجعل لي سُلَّماً من خارج البيت، وأنا سأبقى على السطح، لأن ضيوفي كثير، فيصعدون لي من الخارج، وأنت وزوجتك وأولادك لا يطلع على عوراتكم أحد، وتكونوا في أمان!، وهذا من الأدب العالي للصالحين رضي الله عنهم وأرضاهم.

وأكرمه الله عز وجل في طنطا، وفتح على يديه لكثير من الصالحين في زمانه، حتى أنه جاءه أُناسٌ من كافة بقاع الأرض، ولقَّنهم الطريق، وظل معهم حتى صاروا من أهل الفتح، ومن الأولياء الذين يُربون غيرهم.

نهجه في التربية هو النهج الذي مشى عليه، وهذا ما نستفيده ونأخذه من قصة هذا الرجل الصالح رضي الله عنه وأرضاه.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا على الدوام حُسن التأسي بالحبيب المصطفى، وحُسن الاتباع لحضرته، وحُسن التأسي بالصالحين والعارفين، ومتابعتهم في كل وقت وحين، حتى يفتح علينا أجمعين فتحاً مبيناً، ويهدينا صراطاً مستقيماً، وينصرنا على أنفسنا نصراً عزيزاً

وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

[1] رواه الديلمي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما

[2] جامع الترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

[3] صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه

[4] جامع الترمذي ومسند أحمد عن جابر رضي الله عنه

[5] شعب الإيمان للبيهقي ومسند الشهاب عن النعمان بن بشير رضي الله عنه

[6] معجم الطبراني والبيهقي عن أنس رضي الله عنه

[7] الأربعين في فضائل ذكر رب العالمين للدمشقي عن ابن عمر رضي الله عنهما

[8] الطبراني والبيهقي عن هند بن أبي هالة رضي الله عنه

[9] صحيح البخاري ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه


المقطم – مجمع الفائزين الخيري 8 من صفر 1440هـ 17/10/2018م 6

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid