Sermon Details

5 أبريل 2018م
سيدي عبدالرحيم القنائي (سير الصالحين وجهادهم)
فضيلة الشيخ/ فوزي محمد أبوزيد
سيدي عبدالرحيم القنائي رضى الله عنه
—————————————-
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله الذي جعل لعباده الصالحين نماذج قويمة يقتدون بها في أحوالهم، ويتأسون بها في سيرهم وسلوكهم حتى يصلوا بفضل الله إلى خالص كرم الله وعطاء الله، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسراج قلوب العارفين؛ سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الصالحون يوصون كُمَّل المريدين بمداومة الإطِّلاع على سِيَر وأحوال الصالحين والعارفين السابقين والمعاصرين، كأنها تشحذ الهِمَّة، وتُقوي العزيمة، وتُصحح القصد في بلوغ المراد وهو رضاء الله تبارك وتعالى.
وقد كان الإمام الجنيد رضي الله عنه وهو سيد الطائفة يقول: حكايات الصالحين جُندٌ من جند الله تبعث همم المريدين، وتُقوي أحوال السالكين، وتبعث الوجد والشوق في قلوب العارفين، حتى يتأجج شوقهم إلى سيد الأولين والآخرين، فقيل له: هل لك من برهان أو دليل على ذلك؟ قال: نعم، قول الله تبارك وتعالى لحبيبه ومصطفاه:” وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ” (120هود).
إذا وجد المريد ميلاً في قلبه، وحنيناً في روحه إلى سماع حكايات الصالحين ومطالعتها، فليعلم علم اليقين أن له نصيبٌ في فضل الله وإكرامه للصالحين.
الغافل يميل إلى كراماتهم، لكن الخواص يميلون إلى حكاياتهم في جهادهم لأنفسهم، وبلوغهم المراد، ليتأسوا بهم، وليقتدوا بهديهم، وليزكوا النفوس عند ثورتها عندما يطالبها بالجهاد بأحوالهم.
ولذلك دائماً أنصح الأحباب بأن يقتنوا الثُلَّة المباركة من الكتب التي كتبها الدكتور عبد الحليم محمود عن الصالحين رضي الله عنهم، وهي أكثر من عشرين كتاباً، وموجودة في دار المعارف وفي دار الشعب، والمكتبات الموجودة بجوار سيدنا الحُسين، لماذا؟ لأن الرجل كتبها وحققها تحقيقاً علمياً، فليس فيها التُراهات ولا الخرافات ولا الخزعبلات الموجودة في كتب الآخرين، وفيها معونة للسالك على قطع الطريق إلى الله الذي يحتاج إلى جهادٍ شاق.
ونحن – والحمد لله – وفَّقنا الله فكتبنا كتاباً عن الإمام محمد ماضي أبو العزائم وهو أول كتاب أُلِّف في سيرته رضي الله عنه، وكتابٌ عن شيخي الشيخ محمد علي سلامة رضي الله عنه، وكتاب عن سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه شيخ طريقتنا، وكتاب عن سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه، وكتاب عن سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه، وكتاب عن سيدي عبد الرحيم القنائي رضي الله عنه.
وأريد أن أعطيكم موجزاً عن جهاد الشيخ عبد الرحيم القنائي وأشباهه وأمثاله في أنفسهم، لتعرفوا أن الصالحين ليست كلمة عابرة، وليست بُغية نفسية لا يتوافق معها جهاد نفسٍ، وليست أمل بغير عمل، لكن أمل يحتاج لكي يتحقق إلى مزيد من العناء والجهد والعمل، وبُغية في لقاء الله تحتاج إلى الحقائق كلها أن تتوجه بالكلية إلى حضرة الله تبارك وتعالى.
مولده ونشأته
هذا الرجل وُلد في بلدة اسمها (ترغاي) تابعة لإقليم سبتة ببلاد المغرب الآن، وهو من آل البيت، فأبيه من ذرية سيدنا الحُسين، وأمه من ذرية سيدنا الحُسين.
والعجب – ولم تذكر الكتب له سبب – أن أُمه من دمشق في بلاد الشام، فكيف كان أبوه في بلاد المغرب في هذه العصور الصعبة وتزوج هذه المرأة من بلاد الشام من دمشق!، فلا بد أن يكون هناك سرٌ ولكن لم تدركه الكتب ولم تحكيه.
فالأمر فيه جهاد، لأن كونه يترك المغرب، ويذهب إلى دمشق، وقد يكون سيراً على الأقدام ليتزوج، ويوافقوا على زواجه، ويأخذها معه إلى بلاد المغرب، وكيف وافقت أُمها أن تذهب إلى هناك؟! فأنا أحكي لكم عن خلفيات تلفت النظر، وليس لها إجابة إلا توفيق الله ورعاية الله عز وجل.
فتزوج بهذه المرأة، وهذا الرجل كان عالماً من العلماء الفحول، وكان المسجد الكبير في البلد يؤدي فيه دروسه، ويخطب فيه الجمعة، ويؤم فيه الناس في الصلوات.
وُلد له ابنه وعلى حسب عادة هذه البلاد والقبيلة سمَّاه أسد، فمن الذي سمَّاه باسم عبد الرحيم؟ هو، فبعد أن جاء لقِنا بصعيد مصر قال: عندما وصلت إلى قنا فُتحت لي أبواب الرحمة الإلهية، فأبدلت اسمي من أسدٍ إلى عبد الرحيم.
بدأ كعادة أولاد العلماء في حفظ القرآن، حتى أنه عندما وصل إلى سن ثماني سنوات كان قد حفظ القرآن عن ظهر قلب، وجوَّده، وبدأ كعادة الصالحين والأولياء في هذا الزمان الدراسة التي تعينه على فقه وفهم القرآن، فبدأ في دراسة اللغة، والنحو، والفقه، والحديث، وهذه العلوم في ذاك الزمان لم تكن تُدرَّس في مدارس، بل كان يُدرِّسها أفراد، عالم مشهور في علم الحديث فإن الطلاب يفدون إليه ويعلمهم، وعالم مشهور في علم اللغة يفد إليه الطلاب ويتعلمون على يديه.
وعندما وصل من العمر اثنى عشر عاماً حدث له حادث أثَّر فيه تأثيراً بليغاً، فقد تُوفي والده، وكان والده القدوة له.
كثير من الشباب في هذه الأيام لا يُصلي في المسجد، ولكن يُصلي في أي مكان، ولا يؤدي واجبات العزاء، ولا الأفراح، إلا القليل، هذا الابن ممن يتعلم؟! وكيف يتعلم أن يذهب إلى المسجد إلا إذا أخذته من يده معي ونذهب للمسجد لنُصلي؟
لكن أصبحت الموضة الآن عدم الصلاة في المسجد، وأصحاب حضرة النبي كان الذي يفوته منهم الجماعة الأولى كلها يعزوه سبعة أيام، والذي تفوته تكبيرة الإحرام الأولى يعزوه ثلاثة أيام، لأنه فاته الفضل الإلهي.
والمصيبة الأعظم ما قاله الصالحون: إذا فاتت العبد صلاة الجماعة ولم يتأثر ولم يتكدَّر ولم يتغير فذاك دليلٌ على مرض القلب والعياذ بالله تبارك وتعالى!!، لأن القلب لو كان سليم فلا بد للنفس اللوامة أن تتحرك وتلومه وتعاتبه وتؤاخذه لينتهي عن هذا الأمر الذي فيه عدم رضاء الله تبارك وتعالى، لكن شبابنا استمرأ هذا الأمر ومشى على هذه الوتيرة.
لكن هذا كان أبوه متوليه، ولذلك عندما مات الوالد تأثر الولد تأثراً بليغاً، ومرض مرضاً لم يعرفوا له كُنه، وبحثوا له عن علاج فلم يجدوا، وفي النهاية اقترح بعض أصدقاء أبيه أن يُغيِّر الجو الذي فيه، فيسافر إلى مكانٍ آخر، فأين يُسافر؟ أُمُّه قالت: يسافر عند أخواله في دمشق، وكان عمره اثني عشر سنة في هذا الوقت، فذهب عند أخواله.
وهناك كانت همته التي غذَّاها أبوه ونماها في طلب العلم وتحصيله، فحصَّل علوم المغرب، وبدأ في تحصيل علوم المشرق في دمشق، والدليل على الجدية في طلب العلم أنه لم يطلب أن يرى أمه بعد سنة أو سنتين، ولكن مكث ثماني سنوات في دمشق، ولم تستوحشه الغُربة، لأنه يريد أن يُحصِّل إلى أن حصَّل العلوم الموجودة في دمشق في زمانه، وألَّح عليه أساتذته أنه لم يعد له أن يجلس كطالب علم، بل يجلس على كرسي كمعلم ليُعلم ما تلقَّاه من العلم، وكان عمره عشرين عاماً في هذا الوقت.
هذا الرجل كان عنده ميولاً صوفية، الصوفية الحقيقيون وليسوا كالصوفية العصريين، الذي يحضر المجلس ويريد أن يُبعد كل من بالمجلس لينفرد بالمجلس، لكنهم لم يكونوا هكذا، بل كل واحد منهم يريد أن يدفن نفسه في أرض الخمول لتشرق عليه أنوار الوصول، وهذا يقدم غيره، وهذا يقدم غيره، وهذا يقدم غيره، فهذا التصوف الحقيقي الذي علَّمه لنا الصالحين الصادقين، نسأل الله أن نكون منهم ومعهم أجمعين.
فاستنكف أن يجلس على كرسي أساتذته، فلما ألحُّوا عليه رجع إلى بلاد المغرب، فوجد أهل البلد (ترغاي) أُناسٌ أوفياء، فلم يجعلوا أحد يجلس على كرسي أبيه إلى أن يرجع، فلما رجع قالوا له: هذا الكرسي ينتظرك، وتجمعت الجموع من البلدة ومن حولها ليسمعوا الرجل القادم وقد جمع علوم المغرب والمشرق.
فأخذ يدرِّس لهم خمس سنوات، وفي هذه الفترة استزاد من التصوف، وكانت بلاد المغرب في هذه الآنات مشهورة بالصوفية الصادقين، وكانت البلدة التي تضارع بغداد عاصمة الخلافة العباسية في حينها (فاس) في بلاد المغرب، فتجمع بها علماء الأندلس الذين فروا من الزحف الصليبي، وهاجروا إلى فاس، وفيها المغاربة، وهو تعلم من علماء المشرق ورجع هناك.
وهو لم يكن يريد العلماء لأنه تعلم، ولكنه كان يبحث عن الصالحين، حتى يتربَّى التربية الروحية الصحيحة، وهذ المنهج الذي مشى عليه كُمَّل العارفين، ومشايخ الأزهر الراقين إلى وقتنا هذا، بعد أن يكمل العلوم الدينية يريد أن يكتمل في الصفاء الروحاني، والفتح الإلهي، فلا بد له من عارف رباني يأخذ بيده حتى يصل به إلى هذه الخصوصية.
فالتقى باثنين من فحول رجال المغرب، وكان أشهر الصالحين في بلاد المغرب في ذاك الوقت رجل اسمه: الشيخ أبو يعزي، وهذا الرجل جُذب في البداية، ومكث خمس عشرة سنة مجذوباً في البرية، ولا يأكل إلا من ورق الشجر، إلى أن فتح عليه الفتاح سبحانه وتعالى فتوحات كشفية وإلهية لا حد لها ولا عد لها.
ولن أحكي عنه شيئاً، ويا ليتكم تقرأون عنه، فالذي يقرأ أحوال هذا الرجل يتحوَّل إلى حال آخر، وكان أهل المغرب يستشفعون به عندما يريدون نزول المطر، فيذهبون له ويدعوا الله فينزل المطر منهمراً على الفور!.
الشيخ أبو مدين
وتربَّى على يديه الشيخ أبو مدين شُعيب رضي الله عنه وأرضاه، والشيخ عبد الحليم محمود له كتابٌ عنه، هذا الرجل من أعجب الأعاجيب في العزيمة في طريق الله، لنعرف أن طريق الله يحتاج إلى العزيمة المضية، فقد وُلد في بلاد الأندلس، وأبوه توفى وهو صغير، وإخوته جعلوه يعمل في رعي الغنم، ولم يرسلوه لمدرسة أو كُتَّاب، لكنه يقول: عندما كنت أسمع القرآن كنت أشعر بوقع غريب وأريد أن أستزيد من سماع القرآن، وهو لم يتعلم شيئاً، ولا حتى الفاتحة لم يكن تعلمها ولكن يرعى الغنم فقط.
فكلما رأى أُناسٌ يقرأون القرآن يجلس ليسمعهم، لنعرف أن السابقة حاكمة، والعناية من البداية، أعطاه الله العناية من قبل القبل، حتى إذا جاء إلى الدنيا فهي التي تطالبه.
حتى جاء يوم من الأيام وقال لأحد الرعاة مثله: أنا أُريد أن أتعلم القرآن، وأتعلم الصلاة، فقال له: اترك هذه البلدة، واذهب إلى البلد الفلانية فيوجد بها أُناس سيعلموك، فأعاد الغنم ومشى، وأخذ أخاه الكبير يبحث عنه فلم يجده، حتى لحق به وأمسك به، وبعد ذلك أصبحوا يراقبوه ويتابعوه.
وبعد ذلك عزم النية أن يسافر – العزيمة موجودة – لماذا يسافر؟ ليحفظ القرآن ويتعلم الصلاة، فعزم في يوم أن يُدخل الغنم، وبعد أن ينام كل من في البيت يمشي.
فمشى ومعه عصا الغنم الصغيرة، فأخوه شك، فبحث عنه فلم يجده، فركب فرسه وتعقبه فوصل إليه مع مطلع الفجر، وكان قد تعب، ومن شدة تعبه رفع السيف وأراد أن يقتله بالسيف، لأنه تعب من كثرة الحركة والمشي، فرفع العصا، وإذا بالمعجزة تحدث والعصا تكسر السيف، وهذه العناية أن العصا تكسر السيف، وهو لم يكن يعرف شيئاً، ولم يصل لمقام الولاية، ولكنه كان مطلوباً:
وإذا العناية لا حظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان